22 ديسمبر، 2024 7:22 م

جحيم الأيام / الحلقة الثالثة عشرة

جحيم الأيام / الحلقة الثالثة عشرة

حينما أشعر بالتعب أضع ( القلم الوهمي) جانباً ثم أنفخ سبابتي معتقداً أن ذلك العمل يزيل الألم على أملٍ أن أكمل القصة في اليوم التالي. عندما أستلق على ظهري طلباً للراحة يكون المصباح المثبت خارج الغرفة قد أسقط شعاعه على عينيَّ المرهقتين. عندها لا أستطيع النوم لأن ضوءه المباشر يقض مضجعي. أُثبت قطعة القماش السميكة فوق وجهي كساتر مؤقت لحجب الضوء المزعج بَيْدَ أن الحرس يفتح النافذة ويصرخ طالبٌ مني عدم وضعها فوق وجهي. لو كتبتُ آلاف الصفحات عن تلك الزنزانة المرعبة لما استطعت الوفاء بوعدي لنفسي بتسطير كل حركة قمتُ بها هناك. ومع ذلك سأحاول أن أستذكر بعضاً من تلك المعاناة كي تكون شاهداً على العصر وتاريخاً بائساً لشخص ألقت به الظروف في جحيمٍ لا ينتهي ولم يكن قد أرتكب أية حماقة سوى أنه درس مادة اللغة ألإنكليزية يوماً ما وكانت سبب كل آلامهِ في فترةٍ مرعبة من تاريخ هذا العالم المشبع برائحة الخوف والدمِ في كلِ زمانٍ ومكان. في اللحظةِ التي دخلتُ فيها تلك البقعة البعيدة عن العالم فكرتُ بضرورة الحفاظ على التاريخ اليومي وتسجيله بأية طريقةٍ ممكنة كي لا يضيع عدد الأيام وأبقى كالتائه في الظلام. نظرتُ ذات اليمين وذات الشمال داخل الزنزانة فوجدتُ أن الحائط الأصفر المرتفع أملس جداً لا يمكن الكتابة عليهِ بأي شيء وحتى لو كانت هناك إمكانية الكتابة فكيف سيتم ذلك؟ ليس لديّ شيء أخطُ به على الجدار. دون وعي نظرتُ إلى الجهات السفلى للحائط فوجدتها تختلف نوعا ما عن بقية الجدار.

تحسستهُ بأصابعي فوجدتُ أنه يصلح للكتابة. لكن كيف أكتبُ عليه؟ خطرت على ذهني فكرة استخدام ( قطعة التربة الموجودة للصلاة). بسرعة البرق أزحتُ جزءاً من البطانية التي اتخذتها فراشاً وكانت تغطي جزأً من الحائط السفلي. أنهيتُ الشهر الأول ثم شرعتُ برسم بقية أشهر السنة بدقة متناهية حتى أتممتُ السنة بالكامل. رحتُ أضع علامة(×) على كل يوم يمضي. حينما كان العقيد المسؤول عن التحقيق معي يشاهد أنني أضع اليوم والشهر والسنة بدقة في نهاية كل ورقة أكتبها كان يُصاب بالدهشة ويسألني كيف لي أن أعرف ذلك؟ كنتُ أخبرهُ بأنني أتخيل ذلك. أصعب أيام حياتي في الزنزانة كانت بعد وجبة العشاء حيث أظلُ جالساً وحيداً أستعيدُ ذكرياتي في الزمن الماضي السحيق حيثُ تبدأ الأفكار والمشاريع تتقاذف في رأسي.أُخطط لهذا وأرسمُ لذاك إلى أن يبدأُ رأسي بالدوار وأشعرُ بآلامٍ لاتطاق. الصمت….الصمت…الصمت…آه من الصمت المخيف الذي يُسيطر على كل زاوية من زوايا الذات. من بعيد اسمع طرقاتٍ واهنة على الجدار الآخر للزنزانةِ المجاورة. كل واحد يحاول أن يرسل إشارة إلى جارهِ في محاولةٍ بائسةٍ يائسةٍ للخلاص من عذاب الصمت. في إحدى المرات سمعتُ طرقاتٍ خفيفة على الجدار الأيمن لزنزانتي. أصغيتُ السمع. أجبتهُ بطرقاتٍ بأصابعي. كلما ضربتُ على الجدار كان جاري يُجيبني بنفس الطرقات.

شعرتُ أن إنساناً ما عبر الزمن والتاريخ قد شعر بوجودي وأخذ يشاركني أحلامي ومعاناتي. كنتُ أنتظر نهاية وجبة العشاء كل يوم كي أبدأ بالاتصال مع ذلك الجار القريب البعيد جداً عني في نفس الوقت. يوماً بعد آخر توطدت العلاقة مع ذلك الجار الغريب والذي لا أعرف عنه أي شيء. يوماً ما سمعتُ صوتاً هامساً قريباً من الباب الحديدي. كان جاري يناديني بصوتٍ هامس. سألني عدة أسئلة عامة وشخصية وحدثني عن شخصيته وكل شيء ولكنني لم أعطهِ أسمي الحقيقي لمسائل قد تكون في غير صالحي مستقبلاً. بمرور الزمن تكونت عِلاقة قوية بيننا. سألني مرة فيما إذا كنتُ أملك سجائر أم لا. عندما أخبرته بأنني لا أملك أي واحدة، همس لي بأنه يملك ثلاث سجائر ورسم لي طريقة لتسليمها لي. قال” سأخرج الآن بحجة إصابتي بإسهال وسوف أضعها فوق الجدار الأخير للمرافق الصحية. حاول أن تخرج بعد عودتي…..أي حينما تسمع صوت إغلاق الباب خلفي”. فرحتُ جداً لذلك المقترح وقلتُ دون وعي:” بوركتَ أيها الفتى المجهول تماماً بالنسبةِ لي”.تمت العملية بنجاح فقد وجدت السجائر في نفس المكان الذي كان قد وصفهُ لي. بعد ساعة سألني فيما إذا كان لديَّ ” قند” أم لا؟ وحينما أجبته بالنفي أخبرني بأنه سوف يتبع نفس الطريقة التي كان قد سلكها في قضية السجائر. وتمت العملية بنجاح. بعد يومين لم أعد أسمع أية طرقات على الجدار بعد العشاء ولم يعد حميد أبو فيصل يتكلم مطلقاً. لم يعد يهمس لي عند الباب الحديدي. شعرتُ بضيق شديد. كان الشخص الوحيد الذي يعيد لي الحياة كل ليلة. عادت الكآبة تسيطر على قلبي من جديد. حاولتُ أن أنغمس في قراءة القرآن وأحفظ أجزاء كثيرة منه. وكانت الفكرة جيدة فقد كنتُ أقضِ ِ ساعات طويلة في حفظ ماتيسر لي عن ظهر قلب. في يوم من الأيام شعرتُ أن عينيَّ قد تأثرتا كثيراً. لم أعد أستطع قراءة سطر واحد. كلما فتحتُ المصحف شعرتُ بألم شديد جداً في رأسي ووجدتُ كافة الأسطر تتراقص أمامي بشكل مخيف. اعتقدتُ أنني لن أتمكن من القراءة مرة أُخرى وهذا أكثر ما كان يُرعبني. ضاقت بيَ الأرض وطالت عليَّ الأيام. كانت قراءة القرآن هي الوسيلة الوحيدة التي كنتُ أتغلبُ بها على همومي وأخترقُ من خلالها جدار الصمت والقلق. وبحثتُ عن وسيلةٍ أُخرى كي أقضي بها وقتي الممل. وأرسل الله سبحانه وتعالى لي عدة ( نملات). كانت تلك الديدان الصغيرة تخرجُ من الزاويةِ اليُسرى القريبةِ من الباب الحديدي. كنتُ أُراقبهن بسعادةٍ لا توصف وأتحدثُ معهن أحاديثٌ طويلة. كنَّ يخرجن في تناسق عجيب كان الخالق العظيم قد رسمها بطريقةٍ دقيقة. كُنَّ يبحثنَ في تواصل دؤوب عن قطعة فُتاتٍ سقطت هنا أو هناك، ولكن أنىّ لهن أن يجدن في هذه الزاوية الكونكريتية شيئاً من هذا القبيل؟ ولكن حاشى لله أن ينسى مخلوقاً من مخلوقاتهِ مهما صَغُرَ حجمه. دون وعي رحتُ ــ وبسعادةٍ تامة ــ أضع في كل وجبة حبة أو حبتين من الحمص عندما أستلم وجبة غذائي وأبقَ أُراقبهن بنشوةٍ عارمة وهن يتدافعن من أجل تفتيتها وتهشيمها إلى ذراتٍ صغيرة كي يتمكنَّ من حمل المؤونة بسهولةٍ تامة. سبحان الله، لقد قَدِمْتُ من بلادٍ بعيدة وجعلني الله أُطعم تلك النملات كل يوم على مدى أشهرٍ طويلة. تباركتَ ياخالق الأرضِ والسماء، تباركتَ يامن تَرْزِقُ ولا تُرزَق. وجدتُ أن التعامل مع الديدان لا يُشغل كل وقتي ويُنسيني ألمي من شدة الشوق للقراءة. بدأتُ أخترع طريقة أخرى لقضاء الوقت الطويل. بدأتُ أغسل ملابسي كلما ذهبتُ إلى الحمامات. أقفُ تحت الدوش دون نزع ملابسي.أعصرها بسرعة ومن ثم أرتديها وحينما يسألني الحرس عن سبب ذلك العمل كنتُ أقول له بأنني مُصاب بحساسية وأحتاج إلى ترطيب ملابسي كي تهدأ الحرارة المشتعلة في جسدي. في البداية لم يًصدق ذلك ولكنه حينما شاهدني أفعل ذلك عدة مرات تناسى أمري ولم يعد يُكلمني عن هذا الأمر. في اللحظةِ التي يغلق فيها الحرس الباب الحديدي أنزع السروال والقميص وأبقى في الملابس الداخلية .أفتح ساقيّ في زاويةٍ عريضة وأبدأ بتحريك السروال ذات اليمين وذات الشمال بطريقةٍ سريعةٍ وأحسب إلى العدد خمسمائه. إكتشفتُ أنني حينما أصل إلى هذا العدد يجف السروال تماماً. أرتديه ثم أفعل نفس الشيء مع القميص. بعدها أجلسُ على الأرض منهك القوى كأنني كنتُ أركض مسافاتٍ بعيدة. بقيتُ أفعل هذا الشيء بالأضافة إلى إطعام الديدان فترة لابأس بها من الزمن إلى أن عادت حالتي الطبيعية وبدأتُ أستطيع القراءة من جديد. عندما كنا نخرج ــ هوا خوري ــ أي الخروج الإجباري إلى المساحة الضيقة القريبة من الزنزانة ونحنُ معصوبي الأعين كان بعض الحراس الذين يرافقوننا إلى الفناء يفعلون بعض الأشياء الإستفزازية محاولين تحطيم بقايا المعنويات الكامنة في نفوسنا. كان بعضهم يضع قدمه أمام السجين عندما يمر عبر الرواق الطويل الضيق كي يجعله يسقط أرضاً ويضحكوا عليه. كان البعض الأخر من الحراس يحاولون ضرب المعدة بالأصابع الممدودة كي يصدر السجين صوتاً يجعلهم يضحكون ويتندرون عليه. في إحدى المرات حينما مررتُ من أمام أحدهم ضربني في بطني وكانت أصابعه قوية لدرجة أنني إعتقدتُ أنها قد نفذت إلى داخل معدتي ولكنني لم أصدر أي صوت فقد كنتُ متهيأً له وضربني مرة أخرى وفي النهاية قال ” جيد جداً”. في صباح اليوم التالي إقترب مني وهو يحمل ” مقراضة أظافر” قرصني بها في كتفي. أحسستُ وكأن قطعة من جسدي تتمزق ولكني صرختُ بأعلى صوتي ” الله أكبر …الله أكبر” إرتعب وتراجع مذعوراً وكأن شرارة كهربائية قد لسعته. منذُ تلك اللحظة لم يعد يقترب منا أي احد. كانت المساحة الضيقة هي المتنفس الوحيد لنا لإستنشاق الهواء البارد الثلجي ونحنُ لا نرى أي شيء.

كنتُ مرتبكاً في البداية أثناء سيري في تلك المساحة الممتدة بين جدارين شاهقين.عيناي مُسمرتان في الأرض كي أرى إلى أين أنا سائر؟ أحصيتُ عدد القطع الكونكريتية المسموح لي بالسير فوقها فوجدتها أربعة فقط. عندما أصل إلى نهاية القطعة الرابعة يجب عليّ الاستدارة إلى الخلف فوراً وهكذا أفعل حينما أصل إلى نهاية القطعة الأولى في حركة مكوكية كأنني حمارٌ مسكين يسحبُ ناعوراً قديماً كي يُخرجَ ماء من بئر ٍ نتن ليسقي أرضاً ليس لها وجود. بمرور الزمن تعودنا على تلك الحالة. بالنسبةِ لي أصبحت هذه المساحة الضيقة من الفضاء المفتوح مرتعاً للأفكار والأحلام وأجراء الحوارات الذاتية مع الذات. أكثر ما كان يؤلمني ويقظُّ علي خلوتي في تلك المساحة الضيقة هي رائحة الطعام…آه …من رائحة الطعام. كنتُ أسمعُ صوتاً قادماً من مسافةٍ قريبة . كانت تنبعثُ من مكانٍ ما رائحة الدجاج المقلي التي بقيتُ أحلمُ بها وأُ منّي نفسي بتناولها يوماً ما طيلة أحدَ عشرَ عاماً. بدأتُ أُميّز رائحة كافة الأطعمة التي تُطبخ للأسرى المساكين. هذا اليوم سيكون رز مع سبزي ، ويوم آخر سيكون رز فقط وبعدها سيكون مرق فقط وهكذا دواليك. إستمرت هذه الحالة طيلة فترة بقائي في الزنزانة. بدأتُ أشعر بتواتر الفصول من خلال الشمس القليلة التي تسقطُ فوق رأسي من تلك الفتحة الصغيرة المُطلة نحو السماء. اليوم أصبحت الشمس لطيفة وهذا يعني أن الشتاء طفقَ ينحسرُ ويُلملمُ أذياله كي يرحل ، وبدأ الربيع يغرسُ بذورهُ الناعمة في الأفق. أما هذا اليوم فقد بدأ الربيع يتراجع مذهولاً أمام الصيف لأن الشمس أصبحت حارة جدا, وأخيراً عاد الشتاءُ من جديد وبدأت السماء ثنثر رحمتها على الأرض وتوعد الفلاحين بسيلٍ من المياه التي تُغرِقُ الأرض العطشى في كلِ مكان. كانت الأيامُ تمضي وتليها الأسابيع والشهور وأنا أتحدثُ مع ذاتي كأنني أُخاطبُ شخصاً يسيرُ إلى جانبي. أصعبُ شيءٍ عرفته وتعلمتهُ من خلال تلك الزنزانة …هي أن الإنسان يمكن أن يتحمل أي عذاب في الأرض عدا عذاب العزلة والصمت والسكون والسكوت. لقد تبادر إلى ذهني حكمة بسيطة تعلمتها من والدتي رحمة الله عليها وهي ” أن الجنة لايمكن تحملها حينما يكون الإنسان وحيداً”. حقاً أن الفردوس يصبح تعيساً حينما يعيش الفرد لوحده بعيداً عن الآخرين. لوتوفرت لي أشياء بسيطة في تلك الزنزانة لأصبحتُ عبقرياً من عباقرة التاريخ. لو كانت لدي كل الروايات الصادرة في عام واحد لقرأتها جميعاً. لو كان لديَّ مجلد لكلِ حروب التاريخ الكوني لقرأتها جميعاً. لو كان معي إنسان يتكلم لغةٍ لا أفهمها ولتكن لغة إنسان ما قبل التاريخ لحفظتها عن ظهرِ قلب. الحمد لله الذي رزقني بكتاب القرآن وبدأت أحفظ أجزاء متعددة عن ظهرِ قلب ، لكن العزلة التامة عن أي إنسان كانت تصيبني بالكآبه الحادة أحيانا إضافة للجوع الشديد والرغبة لسيجارةٍ واحدة عند الطلب. كل هذه الأسباب كانت تمنعني من مواصلة القراءة على طول الزمن.

في الزنزانة تلعب السيجارة دوراً مهما في حياة المدخن. من يُدخِن ويسكن تلك الزنزانة تتضاعفُ آلامه. هذا ما كان يحدثُ لي طيلة ثلاثة عشر شهراً من العزلةِ التامة عن أي مخلوقٍ بشري. في اليوم الثاني لدخولي بيت الخوف( الزنزانة) طرق الباب شخصاً لم أسمع صوته من قبل. راح يسألني : سيكارستي؟ لم أعرف في البداية ماذا يقصد ولكني فهمتُ فيما بعد أنه يسألني فيما إذا كنتُ مدخناً أم لا؟ قفزتُ نحوهُ معتقداً أنه يريد توزيع السجائر على ( الضيوف). سمعته يفتح الصندوق الصغير المثبت عند الجانب الأيسر من الباب الحديدي من جهة الخارج. رمى علبة السجائر بصوتٍ مسموع داخل الصندوق وغادر المكان دون أن يعطي أي شخص أي سيجارة.عدتُ إلى مكاني بخفي حنين. عند منتصف النهار يصرخ الجندي المكلف بواجب معين ” موعد الصلاة…موعد الصلاة” يبدأ بفتح الزنزانات الإنفرادية الواحدة تلو الأخرى كي يسمح للمعذبين في الأرض بالتوجه إلى المغاسل إستعداداُ للصلاة الإنفرادية.أوقفني الحارس قرب الجدار القريب من المغاسل.وجهي إلى الحائط وظهري إلى باب المرافق الصحية وطلب مني الإنتظار لحين خروج الشخص الذي دخل قبلي. نظام الدخول يتطلب تلك الطريقة الدقيقة كي لا يلتقي الأسرى مع بعضهم .

وأنا واقفٌ عند الجدار خطرتْ على ذهني فكرة درستها عدة مرات وقررت تطبيقها مع نفسي مهما حدث أي شيء ومهما كانت المجازفة. قد تكون الفكرة بسيطة جداً بالنسبة لشخص ما. لكنها بالنسبةِ لي في ذلك الزمان والمكان شيء مهم جداً. لقد مضى على وجودي في أرض الخوف وفي هذه الزنزانة بالذات أكثر من ستة أشهر . لقد سئمتُ العيش لوحدي أردتُ أن أشاهد أي شيء في هذا العالم . لم أشاهد السماء منذ زمن طويل. لم أشاهد الأرض ، لم أشاهد أي شيء . لذلك قررت هذا اليوم أن أشاهد السماء مهما كانت النتيجة. قررت أن لا أدخل إلى المرافق الصحية حينما يأتي دوري وبدلاً عن ذلك أذهب إلى النافذة المثبتة في أعلى جدار المرافق الصحية وأرسل نظري إلى أبعد مسافة ممكنة وأسرق نظرة واحدة…..نظرة واحدة فقط من الحياة. ذهني لم يعد يحمل أي صورة للحياة ولا للزمن. إزدادت دقات قلبي وتلاحقت أنفاسي وأنا أتخيل الفكرة وما سأراه خلف جدران الزنزانات . بدأتُ أتشوق لمجيْ دوري للدخول. أصبحتْ روحي ترفرف داخل ميادين كياني المرتعشة.

جاء دوري. في اللحظةِ التي أغلق بها الحرس الباب توجهتُ بأقصى سرعة وقفزتُ إلى المغسلة القريبة من النافذة.كانت هناك فتحة صغيرة بحجم العين البشرية داخل زجاجة النافذة. يبدوا أنها كُسِرَتْ قديماً وقد وُضِعَ فيها قطعة من ورق المقوى كي لايدخل الهواء البارد أو لإعتبارات أُخرى.إنتزعتُ الورقة ثم وضعتُ عيني اليمنى ملاصقةً لها. دخل الهواء البارد جدا إلى حدقة عيني فشعرتُ أنها بدأت تدمع. لم أهتم لذلك. كان هدفي إنتحارياً. لو شاهدني الحرس في تلك اللحظة لمزق عينيَّ . بسرعة البرق رحتُ أردد مع نفسي كافة الأشياء التي وقعت عيني عليها وكأنني أحاول إستذكار درساً من الدروس الصعبة. ” جبال طويلة شاهقة. أشجار عالية جرداء. طيور سوداء كثيرة. أنابيب. أسلاك شائكة. تانكي ماء ضخم جداً. قطع كثيرة من الحديد. أبواب مغلقة. جندي يرتدي معطفاً مطرياً ويحمل بندقية.”

حاولتُ أن أُطيل النظر كي أُمتع نظري …الجو ملبد بالغيوم…ضباب كثيف…يبدو أنها ستمطر. سمعتُ ضربة حذاء قوية على باب المرافق الصحية وصوت مرعب يطلب مني أن أسرع في إنهاء ما جئتُ من أجله. قفزتُ نحو الأرض ووقفتُ أمام الباب الرئيسي للحمامات وصحتُ بصوت ” جاهز…”. دفعني الحرس نحو زنزانتي . لقد ضحيتُ بنوبتي في التبول والوضوء من أجل تلك النظرات القليلة. جلستُ في الزاوية المخصصة للنوم. وضعتُ ذراعيَّ حول ركبتيَّ وأسندتُ ذقني عليهما. رحتُ في تفكيرٍ عميق. دون وعي أطلقتُ يداي مرة أخرى وأستلقيتُ على ظهري. كم إشتقتُ لسيجارةٍ في تلك اللحظة. كنتُ منفعلاً جداً. شعرتُ وكأنني وُلدتُ من جديد…كأنني عدتُ من رحلةٍ طويلة حول العالم. بقيتُ أسترجع الصور التي شاهدتها عدة مرات في ذهني. كان الطائر الأسود ينقر جناحيهِ بمنقارهِ وكأنهُ يحاول تنظيف ذاته من أدران الزمن أو أنه كان يحاول بصورةٍ عبثية إلتقاط قسماً من الديدان العالقة في جناحيهِ. وتلك الأشجار الباسقة لماذا كانت جرداء من أوراقها الخضراء؟ هل أن برودة الطقس هي التي جردتها من أوراقها كما جردني المدعو قاسم الزاهدي من جذوري وعائلتي ووطني وتربة بلادي؟

وتلك الجبال الممتدة ماذا يوجد خلفها؟ هل توجد هناك حياة حقيقية لبشرٍ ينامون ويأكلون؟ أم ان هناك سجوناً أخرى يقبع خلف جدرانها معذبون مثلي؟ بقيتُ أسترجع تلك الصور أياماً طويلة حتى سئمتُ من تكرارها وتواترها على ذهني. كم تمنيتُ أن أشاهد صوراً أخرى من أجل ديمومة الحياة داخل روحي ونفسي المضطربة. في إحدى الليالي وبعد تناول العشاء حدث شيء غير مرتقب . سمعتُ صوتاً على شكل طرقات قليلة. أجبته بنفس الطريقة وكان جوابه مشابهاً….آه…إنه حميد فيصل.! شعرتُ أن أحداً من أشقائي قد عاد من رحلةٍ طويلة. ألصقت أذني عند الباب. لم يقل شيئاً. دون سابق إنذار قلتُ هامساً” حميد..أين كنتَ طيلة هذه الفترة؟”. لم أسمع صوتاً معيناً. كان هناك أنيناً يصدر من هيكلٍ بشري. كررت السؤال عدة مرات وفي النهاية جاءت الكلمات على شكل حروف متقطة ” ك..ن..ت ..مري..ض..مصرا..ن..أعور..”. سكت الصوت. حاولتُ تشجيعه على الكلام إلا أنه لم يجب فقد كان يئن أنيناً متواصلاً وفي النهاية قلتُ ” حمداً لله على سلامتك. لا تهتم سوف تتحسن إن شاء الله.. تصبح على خير”.