22 ديسمبر، 2024 8:32 م

جحيم الأيام / الحلقة الثالثة

جحيم الأيام / الحلقة الثالثة

ونحنُ نتخبط في ظلال الحيرة والتردد واليأس ونتداول بصوت هامس…هل نستسلم للقدر أم نبقى على جلستنا خلف الصفوف الدراسية وتحت زخات المطر التي لاترحم وإزدياد أصوات الطلقات النارية المنصبه على المدرسة—أقصد وحدتنا العسكرية–، سمعنا فجأة صوتاً مالوفاً لأحد الجنود الذين كنا قد فقدنا تواجده معنا منذ لحظة تسلقنا سطح المدرسة. كان يصرخ بصوت مرتفع ظهرت عليه نوبة إضطراب واضحه. ظل يصرخ ويقول:

…” أحمد..علي..جاسم..إخرجوا ..لن يقتلوننا..لقد أقسموا لي بأن أي شخص لايقاوم سوف يمنحون له حياته. ليس امامكم طريق أخر. المدرسة محاصرة بآلاف ألأكراد.”

همستُ في أُذن زميلي أحمد الذي إزدادت يده ظغطا على يدي وكأنه قد تأكد من أن الموت قد بدأ زحفه بشكل جدي.

…” ماذا تقول؟ هل نخرج؟ وماذا عن هذا الرفيق الحزبي الذي يجلس الى جوارك؟ أعتقد أنهم سوف يمزقون جسده؟

همس أحمد بصوتٍ خافت:

…” فلننتظر قليلاً..من يدري قد نجد طريقاً آخر للخلاص.”

إزدادت ضربات قلبي لتلك اللهجة الغريبة التي كان أحمد يتفوه بها. شعرت أن تلك الليلة ستكون أخر يوم معه. كان جسدهُ يرتعش بشكل لايُصدق. دون سابق إنذار سحبني من يدي وهو يصيح بأعلى صوته:

…” إن لم يقتلوننا سوف نخرج..هل سمعتم؟ سوف نستسلم إذا أعطوننا كلمة صادقة بالبقاء على قيد الحياة”.

…” نعم.نعم..لن يقتلوننا…هم أكدوا لي ذلك”. كانت تلك العبارة تصل الينا من ساحة المدرسة التي إمتلأت بالمياه من جراء ألأمطار الغزيرة. بلا تردد سحبني بعنف قائلاً:

…” فلنذهب…أما الحياة أو الموت…فلنتخلص من جحيم الخوف والقلق.”.

حينما أصبحنا داخل ساحة المدرسة كان الشخص الذي طلب منا الخروج واقفاً والى جانبه أكراد كثيرون مدججين بالسلاح لم يحلقوا أذقانهم لشهور طويلة وأحزمة الرصاص تلتف حول رقابهم وأجسادهم كأنها افاعي سامة في جنح الظلام.

بنادقهم غريبة تختلف عن السلاح داخل الوحدة العسكرية التي كنتُ أخدم فيها. مخازن عتاد مدورة الشكل. أرعبني منظرهم بشكل لايُصدق. دفعنا أحدهم وهو يقول:

…” أدخلوا ذلك الصف الدراسي ولاتخرجوا منه إلا بأمري”. شاهدتُ جنود كثيرون يجلسون على ألأرض. كانوا من وحدات عسكرية مختلفة. شاهدت أحدهم يفتش في حقيبتي فرحا لأنه كان قد حصل على شيء ثمين. حينما سألته عن تلك الحقيبة قال بأنه وجدها في احد الصفوف الدراسية. إختطفتها منه مخبراً إياه بأنها حقيبتي وقد تركتها حينما تفاقم الوضع وساءت الحالة. شعر بحزن شديد وغضب دفين لأنه فقدَ كنزهُ الثمين الذي كان قد عثر عليه في خضم الرعب والذهول . باصابع مرتعشه بحثت عن أشيائي فوجدتها في مكانها. تنفست الصعداء لأنها تحتوي على أشياء ثمينة جداً بالنسبة لي كنت قد جلبتها من البيت. حينما تأكدتُ من وجود جميع ألأشياء وضعتها قرب صدري كأنني أحضن طفلي الصغير. كان الجنود يُقادون الينا بين فترة وأخرى من مناطق مختلفة. بؤساء القى بهم الدهر القاسي في هذا ألأتون المرعب. إزدادت زغاريد النسوة وهن يُصفقن في الشوارع القريبة من المدرسة وإزدادت الطلقات النارية من النوع ـــ المذنب ــ . فجأة هدأ كل شيء بناءاً على إشارة كان أحدهم قد أعلنها في الفضاء، يدل على ان المنطقة التي نحنُ فيها قد أصبحت أمينة وتم السيطرة عليها من كافة الجوانب.

إنبثق الصباح وأشرقت شمس جديدة لم أشعر لها طعما كما كان ذلك بالأمس. أحسستُ أنني في مكان أخر وحياة أخرى…غريب تماما في بلدي . نظرتُ الى الملازم ألأول ” نبيل” فلم أُشاهد نجماته التي كانت قابعة على كتفيه بشموخ حينما شاهدته لأول مرة في صحراء الكويت. شحب وجهه وتحولت نظراته الى نظرات خوف وقلق وإضطراب. عندما سالته عن عدم وضع نجماته الجميلة قال بصوتٍ هامس:

…” باالله عليك إترك هذا الموضوع منذُ هذه اللحظة. إنهم يبحثون عن الضباط ورجال ألأمن وألأستخبارات. منذُ هذه اللحظة أنا جندي مثلك ولاتُخبراي إنسان عن رتبتي لأن ذلك سوف يؤدي بحياتي الى التهلكة.”وحينما اشرتُ الى حذائه ألأحمر الخاص بالضباط وبدلته العسكرية المرتبه جدا قال بأضطراب:

…”لا يهم سأتخلص منهما حالا . فقط الزم جانب الصمت وتظاهر بأنك لا تعرفني منذ هذه اللحظة.”

جلستُ على ألأرض متهالكا محطم النفس وراحت أفكاري تبتعد الى الوراء قبل خمسه وأربعين يوما….تذكرت اللحظة التي دخلت فيها هذه الوحدة العسكرية وكيف قطعت مسافة اكثر من ثلاثة كيلو مترات وسط صحراء مخيفة وذات سماء ملبدة بالغيوم…والطائرات ألأمريكية تحوم بشكل مرعب كأنها غربان سوداء تريد ألأنقضاض على أي شيء أمامها. كنتُ مع مجموعة من الجنود جئنا من مدرسة القتال”…..” كي نلتحق الى قطعاتنا في صحراء الكويت..في العشرين من كانون الثاني عام واحد وتسعون. كان الجندي الذي يعمل في قلم الوحدة قد إستلمنا من مقر الفرقة”…..” ورافقنا الى اللواء”…..” . كان يطلب منا أن نركض وسط الصحراء كي نتخلص من الطائرات. بين فترة وأخرى يأمرنا بصوت أجش ان نستلقي على ألارض كلما شاهد طائرة تحوم في الفضاء الفسيح تبحث عن هدف عسكري. أخبرنا بأننا سوف نصل الى مقر الوحدة في غضون ساعة ونصف إذا إستمرينا في الهرولة. كانت الرمال تعصف بوجوهنا وذرات الرمال الصغيرة ترتطم بنظارتي الطبية بشكل مسموع. ونحنُ نركض كان يسألني عدة أسئله عن حياتي وعن أشياء اخرى. فجأة قال لي بانه سوف يحاول إقناع آلآمر لتنسيبي الى المكان الذي يعمل فيه وهو قلم الوحدة. لاأدري لماذا فعل هذا؟ هل أن مظهري كان يختلف عن بقية الجنود أم انه تعجب حينما قلتُ له بأنني كنت مترجما في دائرة ألأعلام الخارجي قبل إستدعاء مواليدي لخدمة ألأحتياط. سمعته يقول لي بفخر بأنه خريج ثالث متوسط.

في اللحظة التي إقتربنا فيها من الموضع الدفاعي للسيد آلآمر تغيرت لهجتهُ وتحول الى إنسان صارم وراح يعطي أوامره لنا بالوقوف بنظام الى أن يدخل موضع السيد آلآمر كي يخبره بوصولنا. وضعنا حقائبنا على ألأرض وعدلتُ من وضع نظارتي الطبية وبقيتُ أنتظر مع بقية الجنود. في غضون لحظات قليلة خرج السيد آلآمر. شاهدتُ خلفه الملازم ألأول نبيل . دققت النظر اليهما. كانت العلامات المرسومة على وجه آلآمر تدل على أنه لم يذق طعم النوم منذ فترة طويلة من الزمن. كان يضع قمصلة عسكرية على كتفيهِ وسيكارة في يده اليمنى. شعرتُ بالقلق بعض الشيء دون أن أجد تفسيرا لذلك. شرع السيد آلآمر يتحدث بطريقة ودية وكأنه يريد أن يزيل جزءا من ألأضطراب الذي شاهده فوق وجوهنا جميعا.

…” أهلا بكم في لوائنا التابع الى الفرقة الثانية…هذه هي جبهتنا”. وراح يمد يده الى عدة جهات بعدها أضاف قائلا:

…” نتوقع أن ياتي العدو من هذا الجانب ولذلك ترون بأننا وضعنا كل هذه ألأسلاك وألأعمدة الحديدية الطويلة المدببة. إذا هبط ألأمريكان من الطائرات هنا في إنزال جوي فأن هذه ألأعمدة الحديدية المدببة سوف تمزقهم إربا إربا قبل أن نطلق عليهم طلقة واحدة، ولو أنني متأكد بأنهم سوف يموتون في الجو قبل ان يصلوا الى هذه ألأعمدة.” شعرتُ وكأن قبضة فولاذية تعصر قلبي لأنني تأكدتُ أن الوضع خطر جدا ونحن قادمون على معاناة وموت حقيقي . إذن سوف أقاتل ألأمريكيين مباشرة. لقد قابلتُ أمريكيين وأمريكيات كثيرون أثناء عملي المدني كمترجم ومرافقاً لشبكات التلفزة العالمية. لم يخطر في ذهني يوما ما أن شيئا كهذا سيحدث على أرض الواقع.

عدتُ للأنتباه حينما راح السيد آلآمر يسأل كل جندي منا عن أسمه وعن وضعه الصحي والنفسي وعندما جاء دوري ظل يحدق في وجهي ثم قال:

…” مَنْ أنت وما هي حالتك الأجتماعية وهل أنت خريج” أخبرته بكل شيء عن نفسي وعن وضعي ألاجتماعي والعملي ولكنه ضحك معلقا حينما قلت له بأنني كنت جندياً غير مسلحاً وأن لجنة شرحبيل الطبية جعلتني جندياً مسلحاً دون أن تفحصني.

…” وأنا كذلك ضابط غير مسلح ولكنني فجأة أصبحت مسلح..إنها الحرب التي تجعل كل شخص مسلح بين عشية وضحاها”. وراح يضحك بأستهزاء . عندها شاهدت الجندي الذي يعمل في قلم الوحدة يهمس في أذن الملازم ألأول نبيل ويؤشر عليَّ . دون تردد همس الضابط في أذن السيد آلآمر . نظر اليَّ ألأخير وهو يقول:” إذهب أنت الى قلم الوحدة”. وراح يوزع بقية الجنود الى الفصائل والمواضع الدفاعية المحتلفة. عادت اليَّ كل تلك ألأحداث في غضون ثوانٍ قليلة وأنا أنظر الى ذلك الضابط الذي كان قد تخلص من نجماتهِ كي يحافظ على حياتة. مجاميع كثيرة من ألأكراد تدخل وتخرج من الشوارع المختلفة. جاءت عدة إطلاقات من المدافع الثقيلة بأتجاه المنطقة التي نحن فيها. نظرت الى الضابط وقلت له:

…” ما هو رأيك ياسيدي؟”. صرخ بذعر:

…” أرجوك لاتقل هذه الكلمة…أشعر أن كلمة سيدي سوف تكون السبب في موتي . إذا سمعك أحد سيخبر عني..إنسى هذه الكلمة بحق السماء..قل..نبيل فقط”. حينما هدأت ثورتة وإضطرابه قلتُ له:

…” ماذا نفعل؟ سنموت بمدافع جيشنا التي يطلقها على ألأكراد”. ظل يفكر بشيء لاأفهمه.

عندما إنتشرت خيوط الشمس الذهبية فوق الطرقات وأسطح المنازل القريبة ، تجمعنا قرب بوابة المدرسة الخارجية في محاولة لمشاهدة مايجري في الشارع العريض الغاص بالأكراد من كلا الجنسين… حتى ألأطفال كانوا يحملون الهراوات والقطع الحديدية الطويلة وكأنهم هبوا جميعاً لمساعدة آبائهم . أمرنا أحد ألأكراد بالدخول الى رواق المدرسة وعدم ألأقتراب من البوابة الخارجية . كان يُشهر بندقيتة نحونا وكانه يريد أن يُثبت لنا شجاعتة التي هبطت عليه فجأة بعد أن كان قبل يوم في احدى المغارات الجبلية كأنه فارة صغيرة تخشى إخراج رأسها كي لايقتنصها هر كبير متوحش.

بعد لحظات قصيرة شاهدتُ موكباً مرعباً جعل الدماء تتجمد في عروقي…صُعِقْتُ لذلك المشهد وشعرتُ أن كل عضلة من عضلات جسدي تنكمش بطريقة غير طبيعية. كان السيد آلآمرــ النقيب باسم ـــ مكبل اليدين وإثنان من ألأكراد يسحبانه ومجموعة أخرى من ألأكراد تسير خلفه. .كانوا يصوبون بنادقهم الى ظهره تحسباً الى أي شيء طاريء. فقدتُ توازني..لم أعد أحتمل المشهد فصرختُ باعلى صوتي:

…” إنه السيد آلآمر…إنه ألسيد آلآمر….”

التفت الى جهة الصوت مذعورا وقال للأكراد بصوت جهوري:

…” أؤلئك جنودي..إسألوهم..أنا لم أفعل اي شيء لكم..أقسم لكم إنني لم أفعل لكم أي شيء”. حلت بنا الكارثة عندما إلتفت ألأكراد الينا. قال أحد ألأكراد:

…” توقفوا..فلناخذ جنوده معه”. وبسرعة البرق قفز ثلاثة منهم وراحوا يدفعوننا بوحشية..وهم يقولون:

…” تعالوا معنا..تعالوا معنا”. كان معنا جنود من وحدات مختلفة. سرنا خلف آلآمر وقد احاط بنا الأكراد من كافة الجهات. سرقتُ النظر الى وجه آلآمر فوجدته مرعوباً مضطرباً خائفاً جداً وكأنه يعاني سكرات الموت. ومما زاد الطين بله قفز احد الاطفال صارخا بانتصار:

…” نعم..نعم..هذا هو النقيب باسم..أنا متأكد مئة في المئة إنه النقيب باسم”. وكان هذا الطفل قد دق المسمار ألأخير في نعش النقيب المسكين. صاح أحد ألأكراد بزهو:

…” آه..إذن أنت النقيب الذي كنا نبحثُ عنه..حسنا سنعرف كيف نتعامل معك”. إزداد ذعر النقيب وراح يصرخ بأعلى صوته:

…” إسألوا جنودي..لم أفعل لكم أي شيء..كنتُ رحيماً معكم. أرجوكم إتركونني ..لدي عائلة وأطفال ينتظرونني”. لم تؤثر تلك التوسلات في قلوب الرجال المدججين بالسلاح. كان قلبي يتفطر عليه حزناً وألماً . لم أكن أصدق أن ذلك النقيب الجسور يتوسل اليهم بهذه الطريقة المأساوية . قبل يوم واحد..كان أسدا ً جسوراً وذئباً شرساً لايصغي لأي ضابط من ضباطه ولايعرف الهدوء والراحة أبداً. يتنقل بأحدى السيارات المدنية ــ نوع سوبر بيضاء اللون ــ. .من موقع الى آخر..يسأل عن هذا الموقف وذلك الوضع حتى ساعة متأخرة من الليل . يرفع أكمام بدلتة العسكرية الى مافوق كوعه وكأنه يسخر من برودة الطقس وتساقط ألأمطار الغزيرة. يجوب الشوارع الرئيسية والطرق الضيقة. بين فترة وأخرى يجلب هذا الرجل وذاك الشاب ويضعهم في أحد الصفوف الدراسية التي إتخذ منها سجناً للوحدة العسكرية التي كان هو آمرها. لقد كان سجن الوحدة قد امتلأ بأفراد مدنيين وعسكريين من مختلف الوحدات الأخرى. أي جندي لايحمل إجازه رسمية أو ورقة عدم تعرض يُلقي القبض عليه ويودعه السجن. وفي الليل يبدأ بالتحقيق معهم بدقة وكأنه مدير إحدى الدوائر ألأستخبارية الخاصة. كنتُ أخشاه وأهابهُ بشكل عجيب على الرغم من طريقتة الودوده معنا، وبالذات معي على الرغم من الفترة القصيرة التي قضيتها معه في نفس الوحدة . كان يعتقد أنني لستُ جندياً عادياً كباقي الجنود. ضحك يوماً ما في وجهي وهو يقول:

…” هل أنت حقاً جندي إحتياط ..أم أن ألأستخبارات العسكرية في بغداد قد أرسلتك للتجسس علي؟”. حينما أكدتُ له صدق قولي ، ضحك بخبث وهو يقول:” من أرسلك للخدمة في هذه الوحدة العسكرية المزعجة؟ إن أثقف جندي عندي راسب في السادس ألأعدادي..هناك سر ما في حالتك..ستكشفه ألأيام..”.

عندما أقسمتُ له بأنني لستُ حسب ماتخبرهُ بنات أفكاره عني إبتسم قائلاً:

…” حسناً هيأ نفسك غداً..ستخرج معي غدا في دورياتي الليلية لتفقد السيطرات الخاصة بوحدتنا..كي أرَ مدى صلاحيتك لواجبٍ كهذا”. دون تفكير قلتُ له :

…” حاضر سيدي لك ماتريد”. عندما عاد الى غرفة المديرة حيث إتخذ منها مقراً لهُ، نظر الي جعفر الذي كان يرتدي دائما ملابس القوات الخاصة بأعتباره الحماية الدائم لذلك النقيب وقال مبتسماً:

…” لماذا لاتقول له الحقيقة وتريحه؟ سيقدرك كثيرا”. نظرتُ اليه بذهول تام وقلتُ:

…” ـ أي إعتراف وأي حقيقة التي يبحث عنها السيد آلآمر؟ هل هناك ثمة شيء خافٍ عني؟ ماذا تريد أن أقول له؟” ضحك بصوت مرتفع وهو يقدم لي سيكارة وسارع الى إشعالها بطريقة ودودة. :

…” قل له أنأ رجل مخابرات وجئتُ لأخدم فترة وجيزة هنا كي أطلع على سير ألأحداث في هذه المنطقة الخطرة”. إرتجفت السيكارة في يدي وشعرتُ بحرقة شديدة في بلعومي لذلك الحديث الصريح من جانبه.هل هذا حقا ما كان يدور في ذهن السيد آلامر عني؟ أنا مجرد جندي مجهول بسيط في هذا العالم الملتهب . والحقيقة شعرت بالأعتزاز والفخر والكبرياء لتلك الصفة التي أطلقها علي..وتمنيتُ بكل صدق أن يكون ماأطلقه علي حقيقة. لايهم كل إنسان يخدم وطنه وأرضه من موقعه الذي يصلح لأدائه. ليس المهم أن يكون كل الناس—مخابرات—ولايهم أن يكون كل الناس آُمراء أو أطباء أو مهندسين أوطيارين أو مدراء عامين…المهم أن يخدم ألأنسان وطنه بأخلاص وتفاني ضمن نوعية وسياق العمل المناط به. من يدري قد يكون هناك عامل بلدية صغير مخلص لأرضه ووطنه أكثر بكثير من قائد عسكري. نظرت اليه دون أن أنبس ببنت شفة، وبعد لحظة صمت قليلة قلت له” حسنا سأذهب لأخذ قسطا من النوم”………………………………………………

إستمر المشهد المأساوي يسير تحت اشعة شمس آذار والهواء البارد نسبياً ونحن نجتاز حشود ألأكراد من مختلف ألأعمار الذين احتشدوا على جانبي الطريق ينظرون الينا بطريقة غريبة وكأننا مخلوقات بشرية مشوهة جاءت من كوكب آخر. توقفنا قليلاً وسحب ألأكراد السيد آلآمر المسكين الى الجهة اليسرى وأمرونا بالتقدم الى ألأمام . فجأة سمعت صرخة مرعبة. دون وعي إلتفتُ الى اليسار. كانت رقبة النقيب باسم قد قُطِعَتْ بسكين حادة وتدحرج الرأس على ألأرض وسالت الدماء كسيل عارم وطوفان هائج. تيار كهربائي أحرق كل عصب من أعصاب جسدي الذي كان يرتعش…أحسستُ أن الموت قد أصبح على مسافة قليلة مني. إذن هذه هي نهاية ألأنسان قد تكون في غفلة غير متوقعة..هذه نهاية الطموح وألامل وكل شيْء. أخذ الرجال المدججين بالسلاح يدفعون موكبنا كأننا سبايا في حرب تاريخية قديمة. كانت أاقدامنا تتعثر بسبب الخوف والحزن على مشهد ذلك النقيب….

عادت ذاكرتي الى الوراء بسرعة البرق وتذكرته حينما كان يخطب بنا في صحراء الكويت ويتحدث عن تمزيق ألأمريكان..ولم يحدث شيء من هذا القبيل..لقد مزق أبناء البلد رقبته في لحظة لم تكن في الحسبان.كان أحد الجنود الذين يسيرون معنا يتقن اللغة الكردية. نظر ذات اليمين وذات الشمال كأنه يبحث عن شيء مفقود أويبحث عن حل لمشكلة كان قد سمعها من الحوار الدائر بين ألأكراد الذين كانوا يتحدثون بصوت مرتفع . قرأت ما كان قد ارتسم على وجهه وقلت له بسرعة وبصوت هامس:

…” ماذا بك؟ هل حدث شيء؟”. نظر الي وقد سيطر عليه رعب تام وقال بصوت منخفض:

…” ذلك الرجل المسلح يقول لزميله فلنعدمهم عند ذلك الجدار إنهم عبء ثقيل علينا. فلنتخلص منهم. ماذا سنفعل بهم إذا وضعناهم في سرداب المدرسة؟”, كان كلامه بمثابة مطرقة حديدية هوت فوق رأسي . شعرتُ بدوار شديد. كادت روحي أن تخرج من بين جوانحي . لم اصدق ما كنت قد سمعت. دون وعي قلت له:

…” لاتهتم إن الله معنا..وماتدري نفس بأي أرض تموت…كل نفس ذائقة الموت….لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا…لاتترجم للباقين أي شيء مما تسمع..فنحن في حالة يرثى لها..”. ورحتُ أقرأ أيات من القران الكريم وأتضرع الى الله أن ينقذنا من هذه المحنه العصيبة. ولاح لي من بعيد شبح زوجتي وهي تقول لي في إحدى المرات حينما كنت التحق الى البصرة أثناء حرب الثمانينات…” إنتبه لنفسك.. لا تجعل مني أرملة..أين سأذهب بعدك؟ كيف سأربي ألأطفال؟ ” ياالهي لقد تحقق ماكانت تقوله لي دائما . يوماً ما قالت لي بأنني لن أقع في ألأسر لأنني جندياً غير مسلحاً..وفي حساباتها الخاصة ..الجندي غير المسلح لايقع في ألأسر لأنه لايقاتل في خطوط النار ويبقى في الخطوط الخلفية فقط..لنقل العتاد والمؤونة. كنتُ اضحك من كلامها الساذج وأتذكر بعض القصص التي قرأتها عن الحرب العالمية وكيف أن مئات من المدنيين كانوا قد وقعوا في ألاسر—أطفال وشيوخ ونساء—ولم يحملوا بندقية لقتال ألأعداء. حينما تحل كارثة ببلد فأن ألأخضر واليابس يتأثر بتلك الحالة. وإذا بالزمن يدور عليها وعلي…وفي غضون سنة واحدة أتحول من جندي غير مسلح الى مسلح..وأشترك في معركة “أم المعارك” التي كان صدام يُطلق عليها هذه التسمية..وكان من ألأجدر به أن يسميها ” معركة أم الهزائم”. وها أنا أقع أسيراً عند أبناء البلد الواحد الذي ننتمي اليه جميعاً. يالها من مهزلة تاريخية. شعباً يؤسر شعبه ..وأبناء بلد واحد يقاتلون بعضهم البعض.

أمرونا بالتوقف عند حافة الجدار وتشاور ألأكراد المسلحين فيما بينهم ونظر الجندي الذي يجيد الكردية نحوي كأنه يقول لي – ألم أقل لك سنموت -..غمزتُ له بطرف عيني أن لايتفوه بشيء. أحسستُ أن النهاية قد إقتربت. حاولت أن أفكر بشيء جميل كي أنسى احلامي وسكرات الموت التي كانت تسحقني بشكل لايوصف. حينماإستندتُ الى الجدار شعرتُ أن الزمن توقف..ياالهي كم أن الموت صعب حينما يكون بهذه الطريقة البشعه. بسرعة البرق أخرجتُ سيكارة وضعتها في فمي بعد أن أشعلتها ثم وضعت يدي خلف ظهري كي أستند عليها. أغمضت عيناي ورحت أحلم بأصدقائي في دائرة ألأعلام الخارجي..أستقرأ الزمن الغابر بكل تفاصيله. الغريب أن عائلتي لم تخطر على ذهني في تلك اللحظة الجهنمية. كانت الدمدمات التي يطلقها ألأكراد فيما بينهم تؤثر على خيالي الذي سرح بعيداً. تلاشت ألأصوات القريبة وذبتُ في عالم جميل. تذكرت كل تفاصيل عملي المدني السابق.. حينما رافقت عشرات الصحفيين ألأجانب والعرب بعد اليوم ألأول من تحرير الفاو وكيف كان الجيش العراقي قد فعل الشيء المستحيل لتحرير ألأرض..كانت معركة تاريخية سطر فيها الجندي العراقي أروع وأعظم ما يمكن أن يسطره ألأنسان في التاريخ الحديث. وكيف كان الموقف صعباً بالنسبة لي عندما سحق أحد الصحفيين ألألمان لغماً عند حافة الشارع وسقط على ألأرض يصرخ بأعلى صوته من شدة ألألم بعد أن طارت قدمه في الفضاء.

وأنا منغمر بلحظات الخيال البعيد التي كنت أحلق فيها سمعتُ صوتاً مرعباً وبلهجة عربية غير جيده يزمجر في الفضاء:

…” تحركوا ..سنضعكم في سرداب تلك المدرسة لحين قدوم أحد المسؤولين ليقرر ماذا نفعل بكم”.

ونحنُ نسير جنبا الى جنب كخرفانٍ مرهقة تُقاد الى المجزرة إقتربتُ من الجندي الذي يجيد اللغة الكردية وسألتهُ باضطراب:

…” ماذا حصل؟ ” وبلهجة سريعة مضطربة قال هامساً”

…” لقد إختلفوا فيما بينهم . بعضهم يقول فلنتخلص منهم ونعدمهم والبعض ألأخر يقول فلننتظر لحين قدوم مسؤول ليقرر ذلك”. يبدوا لي أنهم لايعرفون حتى مسؤولهم فكل واحد يتصرف على هواه. حينما شارفتْ الساعة على الواحدة ظهراً كنا أكثر من خمسة وخمسون رجلاً جالسين في سردابٍ سفلي لأحدى المدارس ألأبتدائية . غرفة كبيرة نسبياً لاتزال فيها الدواليب الخاصة لخزن الكتب. جلسنا على ألأرض متلاصقين ينظر بعضنا للبعض ألأخر بصمت . كان كل من أحمد وجعفر يجلسان الى جانبي وقد ظهر على وجه كل واحد منهما غموض تام وحيرة مطلقة. لاأدري لماذا راودني شعور غريب هذه المرة..شعور بالسعادة الدفينة. كنتُ أردد مع نفسي” ربنا الذي أنقذني من صحراء الكويت المرعبة قادر على إنقاذي من هذا السرداب المرعب”. بين فترة واخرى كانت مجموعة من ألأكراد تدخل علينا وهم مدججين بالسلاح…لهم لحايا كثيفة. تقدم أحد المسؤولين وقد ظهرت على وجهه علامات الغضب والقسوة. وقف في وسط السرداب واضعاً يديه في حزامه وبدأ يدقق النظر في وجه كل واحد منا.