بعد سنين طويلة حدث شيء آخر لم أتوقعه أبداً،شيء جلب لنا قليلاً من النقود وآلام وأحزان لاتنتهي.كان هناك جزء من المعسكر استخدمتهُ الإدارة لغرض أعمال الخياطة واستخدموا بعض الأسرى من الخياطين لإنجاز ملابس خاصة بالمعسكر أو للأسرى في جهات مختلفة من البلاد.كانت فرصة ذهبية للشخص الذي يتم قبولهُ بعد الإختبار.سيحصل على فرصة للخروج من المكان الذي نعيش فيه لفترة من الزمن.يستطيع الأسير أن يمشي من المعسكر الذي نقيم فيه إلى مكان العمل بمسافة تقترب من الكيلو متر.سيتمكن من استنشاق الهواء الصباحي النقي خارج المكان العفن. إضافة إلى أنه يتمكن من مشاهدة بعض المساحات الضبابية الممتدة على مرأى العين وقت الشتاء والحارة جدا وقت الصيف.وتهافت البؤساء لتسجيل أسماؤهم وتم اختيار ما يقرب من الثلاثين شخصاً.فرح العاملون لأنهم سوف يستلمون راتباً شهرياً بأجرة يومية تساوي خمسون توماناً وهو مبلغ زهيد جداً لو قُرِنَ بمصاريف الحياة اليومية . وفرحنا نحنُ العاطلين لأن العدد داخل قبر الأحياء سوف ينخفض طيلة فترة النهار وهذه فرصة ذهبية لنا للتنقل داخل القاعة بارتياح بعض الشيء لا أحد يزاحمنا عند الذهاب للمرافق الصحية ونستطيع أن نسير في الساحة الخارجية المخصصة للهوا خوري، والأهم من ذلك كله كانت هناك فرصة جيدة لنا ولهم حيث كانوا يجلبون معهم خبزاً يابساً. مرت سنين عجاف قاسية جداً. كانت فكرة العمل معهم تقض مضجعي وأحلم بها ساعات طويلة ولكن ماذا أفعل فأنا لا أجيد الخياطة.
في سنةٍ ما، جاء الأرشد العراقي وأخبرنا بأنه يحتاج إلى مجموعة أخرى للعمل في ” الكوميته كار” أي لجنة العمل وذلك للعمل في السجائر. طريقة العمل هي تأتي سيارة كبيرة مليئة بالسجائر ــ المنفرطةــ ومهمتنا هي وضع عدد محدد في أكياس نايلون ومن ثم ترتيبها في عُلب كارتونية كبيرة وبعد ذلك يأخذها المتعهد إلى معسكرات الأسرى في مناطق مختلفة من البلاد وتوزع كحصة أسبوعية أو شهرية. سجلت اسمي مع الآخرين . ولكوني مدخن تم قبولي. كانت الليلة التي سبقت العمل مثيرة نوعا ما لجميع المقبولين وبقينا نتحدث عن الكنز الذي سنجده هناك وكم سيجارة سيسمحوا لنا تدخينها طيلة فترة وجودنا في العمل؟ في الصباح تجمعنا أمام القاعة ــ كافة العاملين من الخياطين،النجارين،الرسامين، وعمال السجائر ـ- كان عددنا ستون شخصاً. كنا نسير على هيئة ــ عشرة عشرة ــ كنت في الصف الأول.كانت عينيَّ تلتهمان كل شيء في الطريق.ياالهي ! هذه أول مرة في غضون سنوات عديدة أسير فيها عند الصباح الباكر هكذا ، أشاهد من بعيد معسكر الجنود وهم يتدربون. أعادت لي تلك الصور مشاهد أليمة وسعيدة في نفس الوقت فقد تذكرت اليوم الأول لدخولي مدرسة ضباط صف المشاة وكيف كان التدريب صعباً وكان ذلك في بداية شبابي.كان بعض الزملاء يتحدث بصوتٍ مرتفع ويذكرون طرائف عديدة مما جعل الحراس المدججين بالسلاح يصرخون علينا طالبين منا الصمت.
ودخلنا المكان المخصص للعمل ـ جملون كبير ـ بارد جداً إنتشرت فيه مكائن قديمة لتقطيع الأخشاب غير الجيدة. في الجهةِ الآخرى من المكان توزعت مجموعة من مكائن الخياطة القديمة أيضاً. اسرع الزملاء لإحتلال أماكنهم المخصصة. أما نحن فقد بقينا ننتظر باعتبارنا عمال غير ماهرين . بعد أن بدأ العمل في الأقسام الأخرى جاء جندي مع الأرشد العراقي وأخبرنا بنوعية العمل الذي ينبغي علينا القيام به.تقدمنا نحو غرفة مرعبة على شكل رواق طويل مظلم ما عدا مصباح صغير خافت لا يكاد يطرد الظلام إلا بصعوبة. جلسنا على الأرض الباردة جداً.شعرتُ بقشعريرة تدب في أوصالي.كان الهواء البارد ينفذ من النافذة المهشمة فيزيد من رطوبة المكان أضعافاً مضاعفة. طفق الجندي يُفرغ عشرات العلب الكارتونية المليئة بالسجائر ـ بدون فلتر ـ على بطانية قديمة سوداء فتشكل تلاً كبيراً من السجائر ذات الرائحة النتنة. على حين غرة قال الجندي”ضعوا عشرون سيجارة في كل كيس صغير لا أكثر ولا أقل.لا أريد أن يتكلم بعضكم مع البعض الآخر.دخنوا ما شئتم من السجائر ولكن لا أسمح لأي شخص ان يأخذ معه سيجارة واحدة أثناء الخروج والعودة إلى المعسكر”.على الرغم من برودة الطقس وعدم إكتفاء جسدي من الفطور الصباحي إلا أنني شعرت أن ـ طاقة القدر ـ قد انفتحت أمامي فجأة. لا أصدق أنني أجلس الآن أمام هذا الكم الهائل من السجائر وأسطيع التدخين بلا قيدٍ أو شرط. تذكرتُ الأشياء الأليمة والعصيبة التي مررتُ بها خلا تلك السنوات الماضية في معسكراتٍ مختلفة وصراعي المرير من أجل نصف سيجارة وأحياناً ـ رشفة واحدة من سيجارة شخصٍ ما.
بدأ العمل وراحت أنامل الجميع المتجمدة من البرد تتحرك بسرعة جنونية وكل شخص يحاول أن يثبت للآخرين أنه أسرع من بقية الزملاء. في البداية شعرتُ ببعض الإرتباك لعدم تمكني من اللحاق بأنامل الزملاء السريعة جداً. كان ملازم إبراهيم ودكتور حسن من أسرع العاملين . كانا يملآن الكيس الواحد بطريقة عجيبة وكأنهما كانا قد مارسا هذا العمل منذ زمنٍ بعيد.بعد فترة من الزمن تعلمتُ كيفية فتح الكيس وكيفية إدخال الأصابع المليئة بالسجائر وكيفية مواصلة العمل.أما الزميل سالم درع ذلك الفتى الضخم الجسد فقد كانت السيجارة لاتنطفيء من أمامه منذ لحظة العمل حتى نهاية الدوام. كان يحب المزاح على الدوام ويتكلم عن قصص لا تعد ولا تحصى يحاول من خلالها قضاء الوقت وطرد شبح الملل الذي لا يرحم.كان يضع علبة معدنية أمامه يستخدمها كمنفضة سجائر ويضع السيجارة منذ نقطة الشروع بالعمل ويتركها أحياناً دون أن يمسها ويقول” يجب أن لا تنطفيء سجائرنا منذ لحظة العمل حتى مغادرة المكان، ينغي أن ننتقم لأصدقائنا الذين يتحسرون على سيجارة واحدة الآن ” . وتبدأ سجائرنا بالإتقاد ويتصاعد الدخان فيغطي فضاء الرواق الطويل البارد. المتضرر الوحيد في هذا العمل هو الدكتور حسن لأنه لا يدخن و لا أدري لماذا جاء للعمل معنا وهو يكره رائحة التبغ…..أوه.. عرفت فيما بعد أنه يريد التخلص من حالة الرتابة التي تلفه هناك في المعسكر إضافة إلى حصولة على كمية قليلة من النقود. بين فترة وأخرى يرفع الدكتور حسن عيناه المرهقتان ” بالمناسبة هو دكتور بيطري وليس بشري” ولكننا نناديه بالدكتور ولا أحد يناديه بأسمه أبداً، ينظر الينا والدموع تنساب من عينيهِ بسبب الدخان و البرد الشديد ويقول ” أُخوان التدخين مضر للصحة ” ويضحك الجميع بصوتٍ مرتفع وكأننا نسمع أرقى طرفة في العالم. فجاًة يقول سالم درع ” أخوان املاؤ الأكياس ….ضعوا فيها أربعون سيجارة بدلاً من عشرين ، هذه الأكياس ستذهب إلى معسكرات الأسرى في كل البلاد سيفرح الشخص حينما يجد سجائر إضافية في كيسهِ” .
ويبدأ السباق من جديد.كنت ُ أضع خمسة وأربعون سيجارة بدلاً من عشرين. في إحدى المرات وضع حامد الراعي ستون سيجارة وبالصدفة شاهدهُ الجندي المكلف بحراستنا فصرخ به” ما هذا ؟ هل أنت مجنون؟ ” . إرتبك حامد وأحمرّ وجهه وهو يقول بتلعثم”عفواً لقد حدث خطأ ….لن يحدث هذا مرة أخرى”. الحديث عن مكان العمل في السجائر طويل لاينتهي لذلك سأحاول ذكر بعض النقاط الأساسية. كان بعض الزملاء يحاولون أن يقضوا وقتهم بأي طريقة تزيل عنهم جزءأً من العناء الرهيب. الجلوس الطويل على وتيرة واحدة وفي ذلك المكان البارد يجعل الجسد يئن ويقاسي آلاماً شديدة في الظهر والركبتين. بعد عشرة أيام شعرتُ بآلام شديدة تنفذ إلى عمودي الفقري. قلة الأنارة تجعل العينان تدمعان بشكل لاينقطع.رائحة التبغ النتنة تجعل الصدر يضيق وتصبح عملية التنفس صعبة نوعاً ما. يوماً بعد آخر بدأت أشعر بالضيق من هذا العمل وبدأ الصراع الداخلي يزداد يوماً بعد يوم ، ولولا الحياء من الزملاء لتركتُ العمل فوراً. كانوا يحاولون إقناعي بالبقاء كلما إشتدت حالتي النفسية وظهرت بوادر كرهي للعمل العقيم. بدأت أواصر جديدة من الزمالة تتوطد بيننا ، شعرتُ أنهم أصبحوا جزءأً من عائلتي لا بل هم عائلتي. لم أكن أشعر بهذا النوع من الشعور بيني وبين الأعداد الكبيرة في المعسكر الكبير. في هذا المكان النتن فتح كل واحد منا قلبه للآخر وبدأت القصص الشخصية العائلية تنهال علينا ـ من بعضنا البعض ـ بشكل عجيب.
في صباح أحد الأيام ضاق صدري وبدأتُ اتحدث مع الأخ عماد وفجأة صاح الجندي” لا تتكلم “. وبعد فترة قصيرة عدتُ للحديث مع عماد وصرخ الجندي المتحجر القلب”إذا تكلمتَ مرة أخرى سوف أطردكما من العمل “. بدم بارد قلتُ له ” وماذا يعني ذلك؟ إذا فصلتني من العمل فلن يؤخر هذا أو يقدم شيء. هذه السجائر قذرة وأتمنى أن أتركها الآن” ونهضتُ واقفاً. نظر إلي وهو يقول ” لماذا نهضت؟” قلت”أريد العودة إلى المعسكر لم أعد قادراً على العمل هنا” . حاول أن يقنعني بأنني لن أعود إلى هذا المكان إذا تركتُ العمل . أخبرته بأن ذلك سيكون أفضل. وفي غضون دقائق كنت عائداً في طريقي إلى المعسكر معه. في اليوم التالي لتركي العمل شعرت ببعض الضيق لأنني تعودت على منهج خاص كل يوم ولكن بعد فترة من الزمن عدت إلى سابق عهدي وطريقة حياتي القديمة. انشغلت مع شاب بسيط طيب القلب من مدينة الحويجة ريفي من الدرجة الأولى إلا أنه يملك طموح لايقل عن طوح سطام.طلب مني تعليمه مادة اللغة الأنجليزية، كان أمياً نوعا ما. طيب القلب وكريم الخلق.يحب أن يخدم الآخرين بأية طريقة متاحه له. بدأتُ معهُ بنفس الطريقة التي كنتُ قد طبقتها مع الشاب ـ سطام ـ . راح يحفظ دروسه ليلاً ونهاراً ويستغل كل دقيقة تمر عليه لكنه لايملك نفس ذاكرة سطام بَيْدَ أن اصراره وتكراره المتواصل للموضوع الذي يدرسه جعله يحفظ أشياء كثيرة, كنا نمشي معاً كلما سنحت الفرصة لذلك ولكنه كان يصر للسير معي والحديث عن مواضيع مختلفة.كنتُ بالنسبةِ له كتاب مفتوح يتعلم منه أشياء كان يحلم بالإطلاع عليها لو لم تتسنى له هذه الفرصة ِ الذهبية. أحياناً أحسده في قرارة نفسي لأنه حصل على مدرس مجاني. لو كان هناك معنا شخص يتقن أي لغة أجنبية أخرى لتعلمتُ منه الكثير لا بل لأتقنتها تماماً. الظرف الذي كنا فيه يتيح للشخص الذي يريد أن يتعلم ـ يمكن أن يحقق أشياء خرافية على المستوى الثقافي-ـ . لو كانت لدينا مكتبة تحتوي على كل الأعمال الأدبية في العالم لقرأتها كلها . لو كانت لدينا مصادر عن الطاقة أو التاريخ أو الإقتصاد أو الجغرافية أو أي علم من العلوم الإنساية لقرأتها كلها. ولكن هناك الف لكن تبقى تقذف في أرواحنا علامات الحسرة والدموع على كل شيء ينتمي إلى الحضارة والعلوم المختلفة.
كانت لدينا كتب دينية مكررة قرأناها كلها وكانت عبارة عن مواضيع متشابهه تماماً.الشيء الوحيد الذي استفدتُ منه هو الكتاب المقدس للمسلمين حيث راح الجميع يتسابقون لحفظ أجزاء منه. بدأ يحفظ بعض الأغاني الأجنبية التي كنت أرددها مع نفسي حينما تتأزم الحالة النفسية ولكنه كان يضع لحناً لها حسب رغبته وليس اللحن المتبع في أدائها. بعد فترة من الزمن طلب مني تدريسه اللغة العربية لأنه كان بالكاد يستطيع كتابة بعض الكلمات. قضيتُ معه ساعات طويلة أدرسهُ ” نهج البلاغة “وأتخذت من الكتاب كوسيلة لتدريسه الإملاء. كل يوم كنت أملي عليه خطبة كاملة لتقوية أملاءهِ. تقدم في دراسته للعربية وأصبح إملاءه جيد نوعاً ما. في يوم من الأيام ـ كان شهر رمضان المبارك ـ شاهدته يحمل كتاب نهج البلاغة ويحاول حفظ إحدى الخطب الصعبة. حينما سألته عن سبب محاولة حفظه لتلك الخطبة الصعبة أجابني بأن هناك مسابقة ستقام في المعسكر عند نهاية شهر رمضان أو لنقل في الأيام الأخيرة من الشهر والفائز الأول سيحصل على قلم ودفتر كهدية وأكد لي بأنه يجب عليه أن يفوز بتلك المسابقة لأنه في حاجة ماسة إلى قلم ودفتر. طلبتُ منه أن يعيد على مسامعي ما كان قد حفظه عن ظهر قلب. تأسفتُ له ولذلك الجهد الكبير الذي كان قد راح في مهب الريح. كانت طريقته في القراءة مضحكة حقاً تشبه الهنود الذين يتكلمون العربية. كان ينطق مخارج الكلمات أو الحروف بطريقة رديئة جداً حتى أنني كنت أضحك أحيانا دون قصد وليس لغرض الأستهزاء أستغفر الله . نظرتُ إليه بطريقة حنونة حقاً. كنت أجد أمامي قوة خارقة من التحدي والصمود والرغبة للوصول إلى هدف صعب المنال جدا بالنسبة له وفي نفس الوقت أجد طريقة خاطئة قد لا تصل به حتى إلى المركز الأخير من المسابقة.
كنت أحترمه جدا لأنه أهل للأحترام ولكن كيف أساعده دون أن أجرح مشاعره ؟
وجاءت فكرة مساعدته بطريقةٍ عفوية من جانبي. قلتُ على الفور :” اسمع ياصديقي الطريقة التي تتبعها غريبة وخاطئة. إذا إشتركت َ في المسابقة فأنك لن تحصد أي شيء سوى السراب وألاندحار في بداية الجولةِ الأولى. سيكون موقفك أمام اللجنة المحّكمة صعب ومضحك ، أما أن تحفظ بطريقة صحيحة وأما أن تترك هذه المسابقة كي لا يضيع جهدك هباءاً منثورا “.شعرتُ أن ملامح وجهه قد تغيرت. أحس أنني أسخر منه فقط أو لا أريده أن يشترك في المسابقة. نظر إليّ بتحدي وهو يقول ” سوف أشترك وأفوز وهذه هي الطريقة الوحيدة التي أعرفها في الحفظ ” .
نظر إلي وهو يقول ” إستاذ ، لماذا لاتشترك معي في المسابقة ؟ سأستمع إليك حينما تحفظ وتساعدني في تطوير عملية الحفظ التي أقوم بها. سأعطيك نصف الدفتر إذا فزتُ في المسابقة “. كانت هناك علامات ترجي في عينيهِ . قلت ُ له ” حسناً سأشترك معك في المسابقة وأساعدك في الحفظ ولكن ينبغي عليك أن تتبع كل التعليمات التي أوجهها لك . يجب أن تنسى الطريقة التي حفظتَ بها ونبدأ من جديد أي من الصفر” . حينما وافق على شروطي بدأنا في اليوم التالي نحفظ سطراً ثم يليه الآخر . كان يسبب لي إرهاقاً كبيراً في جعلهِ يحفظ بعض الكلمات الصعبة. في غضون فترة قياسية مناسبة أصبح يلفظ الكلمات والعبارات مثلي تماماً. شعرتُ بسعادة غامرة أحسستُ أنني أزرع نبتة وبدأت تثمر بجدارة. قبل وقت المسابقة بثلاث ساعات علمنا أن الأخ ” أياد حويجة ” سوف يشترك في المسابقة وهذا يعني أنه سيحطم كل المتسابقين الذين يشتركون معه . هو يمتلك صوتاً إلقائياً رائعاً إضافة إلى أن طريقته في التلفظ عالية جداً. لفني الحزن في البداية لأنني إعتبرتُ أن إشتراكي مع هذا الفتى ـ عمر ـ معناه الفشل أمام هذا المتسابق العنيد ـ المحترف ـ كان عمر وأياد يسكنان في منطقة واحدة وتربطهما علاقة صداقة قوية جداً . إنهما يأكلان مع بعض منذ اليوم الأول الذي وقعت فيه عيناي عليهما. لم يتخاصما يوماً واحدا أو على الأقل هذا ما كنتُ أراه.
جاء أياد ووقف معنا وهو يقول بتحدي ” سوف أنتزع منكما القلم والدفتر ، لديّ طريقة خاصة للفوز بالجائزة.” قلتُ له مازحاً ” هل يمكن أن تخبرني بهذه الطريقة سأكون لك شاكرا” . نظر اليّ مبتسماً وهو يقول ” حسناً سأخبرك كيف تربح الجائزة” . دون وعي صرخ عمر ” لا. لا. لا تخبرهُ. ” نظرتُ إلى عمر بطريقة جنونية. لم أصدق ما أسمع منه. شعرتُ أن تياراً كهربائياً يمزق روحي ويشل حركة كل عضو من أعضاء جسدي. إذن مهما كانت العلاقة بين إنسان وآخر في مكان كهذا فأنها لاشيء أمام الأنتماء إلى نفس القبيلة. لم يُعلمه أياد حرفاً واحداً من اللغة العربية ولا في اللغة الأنكليزية ولا في طريقة الحفظ . لقد قضيتُ معه عشرات الساعات أُعدّل لسانهِ وأغدق عليهِ بالشروحات المختلفة للعبارات الصعبة …تحت المطر..تحت الشمس..في البرد القارس ، ولكنه تناسى كل ذلك في لمح البصر وتعصّب للصديق الذي تربطه معه صلة الأرض والقرية. تأثرت في قرارة نفسي وقلت ُ له بأنه سيدفع الثمن لاحقاً. أضفتُ قائلاً ” أنت أناني حقاً وناكر للجميل” حاول أن يعتذر من كل قلبه وبأنه كان يمزح معي. قلتُ له “لايهم … بقي على المسابقة ثلاث ساعات وأنت الآن جاهز لها ، سأذهب إلى سريري وسنلتقي عند المساء” .
رافقني إلى سريري وهو يكرر إعتذاره. كان رئيس اللجنة رجل رائع يُطلق عيه أبو فيروز مع العلم ليس لديه أطفال ولكن عشقه المطلق لأغاني فيروز جعله يُسمي نفسه ب ” أبو فيروز” رجل شفاف مثقف لايؤذي نمله إذا وقفت في طريقه…يعشق الأدب والكتابات النابعة من قلبٍ لايهوى إلا العشق والجمال متمكن من اللغة العربية بطريقة يتفوق بها على أساتذة اللغة العربية في الجامعات العراقية . يشاركه في التحكيم ثلاثة من حفظة القرآن الكريم. كان قد سمع الحوار الذي دار بيني وبين صديقي ناكر الجميل عند حافة السرير. بعد أن أصبحتُ وحيداً قرب فراشي خاطبني ” أبا فروز” بصوته الدافيء قائلاً ” لاتهتم ياصديقي …سأعلمك طريقة للفوز” . نظرتُ إليه ببعض الشك والريبة وأعتقدتُ أنه يسخر مني. ” وماذا تستطيع أن تقدم لي؟ لقد خذلني صديقي الذي قضيت معه ساعات لاتحصى …أما أنت فرئيس اللجنة …ورئيس اللجنة أقسى من الصخر في التحكيم. لايهمني بعد الآن أي فوز…فالعلاقات الأنسانية ليس لها قيمة في هذا المكان..الكل يبحث عن هدف ٍ قد ينتشله من حالةِ ضعفٍ أو حاجةٍ إلى شيء ما. لقد صنعتُ شيئأً يعادل آلاف الدفاتر والأقلام التي يحلم بواحدةٍ منها صديقي عمر…لقد صنعت إنسانا لن يتمكن من نسيانه مهما تقدم الزمن وهذا أهم شيء بالنسبة لي ” .
” ملاحظه هامة جداً قبل المضي في سرد الأحداث….حينما وصلتُ إلى هذا الجزء من الحكاية الرتيبة تذكرتُ وقلتُ مع نفسي سأتصل به الآن عن طريق هاتفي النقال. لقد حصلتُ على رقم هاتفه من شخص لم يكن في الحسبان قبل أيام…وبأنامل مرتجفه بدأت أكتب الأرقام…لم يرد على الدقات المتتالية..كررتُ الطلب مرة أخرى. من بعيد كان هناك صوتا مرهقاً يقول ـ ألو..ـ دون أن أذكرله أسمي قلتُ ” كيف حالك ياصديقي ؟ هل تتذكرني؟ ؟ “. صرخ بصوتٍ كمن أصابه مس من الجنون ” أستاذي العزيز ، كيف حالك”. لم أراك منذ اللحظةِ التي فارقنا بها بعضنا البعض عند الحدود . راح يضحك ويردد ” هل تتذكر …..كودوا سوف لن يأتي أبداً ….كودوا هو الموت “. طبعاً قالها باللغة الأنكليزية . كنت قد شرحت لهُ مسرحية ” في إنتظار كودوا التي درستها في الصف الرابع كلية . ” لو لم أشرحها له قبل أكثر من خمسة عشر عاماً فأنه لن يعرف هذا ألأسم المدعو ” كودوا” حى بعد مئات السنين. عرفتُ منه أنه الآن يتاجر بالسيارت وأصبح لديه عدد كبير من الأولاد. قبل أن ننهي الكلام قال بالحرف الواحد ” أنت الوحيد الذي لايفارق ذهني…أنت الوحيد الذي لا أستطيع أن أنساه”. كانت سعادتي بكلامه توازي كل كنوز الأرض . لقد تركتُ بصمة بسيطة في هذا العالم وحققت الحكمة أو العبارة التي قرأتها يوماً ما في مكانٍ ما لا أتذكره وهي تقول ” يجب أن تترك بصماتك على العالم قبل أن ترحل عن هذا العالم” . وبالتأكيد يجب أن تكون البصمات إيجابية وليست بصمات مرعبة كما تركها بعض الأشخاص في مكانٍ ما وفترة زمنية كانت بالنسبةِ لهم تشكل كل مراكز القوة والأستحواذ على أي شيء يحلمون به. إنتهت الملاحظة الهامة فلنعد الآن إلى حكايتنا القديمة .
قلتُ للأخ ” أبو فيروز ” واليأس قد أخذ مني كل مأخذ [ صوت أياد جميل جداً وطريقته ُ في الألقاء تُحرك المشاعر والقلوب ، أين أنا من طريقته الساحرة ؟ ” أجابني بهدوء تام ” صحيح أنه خطر عليك وعلى كافة المتسابقين ولكنك تمتلك ميزات قد يفتقر إليها . حاول أن تقوم بحركات تمثيلية أثناء تلاوة النص وكأنك تقوم بأداء دور مسرحي مهم جداً….لا تخطأ في التلفظ وحاول أن تتكلم بثقة عالية جداً. ” كانت كلماتهِ قد جلبت إلى روحي نوعاً من الثقة بالنفس والأرتياح الكبير وشعرتُ أن القلق الداخلي قد بدأ يتلاشى رويداً رويداً . وجاءت لحظة الترقب والتحسب والقلق والخوف والتسابق. تجمع كل الأسرى وجلسوا على الأرض يفترشون بطانياتهم على الأرض الشديدة البرودة. جلست اللجنة في مكانها المخصص ـ تتكون اللجنة من أبو فيروز المتمكن جداً من اللغة العربية وأبو سيف حافظ كل أجزاء القرآن وأياد العاني حافظ كل أجزاء القرآن ونصف نهج البلاغة ـ . جلس المتسابقون في الصف الأول على الأرض. وبعد تواتر أسماء المتسابقين جاء دور أياد حويجة . كنتُ منتبهاً جداً وهيأت ورقة وقلم كي اسجل أي خطأ قد يقع فيه. لم يخطأ بحرفٍ واحد ولا كلمة وتلا الخطبة بطريقةٍ إعتيادية وكأنه يقرأ خطاباً أمام الجماهير. لم يُحرك أي جزء من أجزاء جسده . كان متصلباً. ونادت اللجنة على إسمي . كان قلبي يكاد يطفر من بين ضلوعي لشدة توتري وقلقي. لم أطمح بالتفوق عليه فهذا محال….كنتُ أريد أن أصل الى مستواه فقط . وصمت الجميع. إنقسم الناس إلى فريقين فريقٌ يشجع أياد وهم كثيرون وفريق يشجعني وهم قليلون. قبل أن أبدأ في قراءة الخطبة نظرتُ إلى عمر كأنني أقول” أنت تشجع من؟ معروفٌ ذلك للجميع. أنت مع إبن منطقتك…أما أنا فسأحارب وحيداً فقد خذلني من قدمتُ له كل شيء على مدى أيام. ” وتحفز الأمل في قلبي حينما نظرتُ إلى أبو فيروز وكأنني أستمد منه القوة لحظة الأحتظار. إبتسم وكانت إبتسامته لي عوناً لايجاريه عون في ذلك الأتون الذي كنت أرزح تحت كاهلهِ. شعرتُ أنه قدم لي سيفاُ أقاتل فيه في اللحظةِ الأخيرة من صراع الموت مع الحياة. وأرتجت القاعة ِ لصوتي . لم أرَ أحداً في تلك اللحظةِ أمامي . كان الجميع بالنسبةِ لي مجرد أشباح في ليلٍ حالك السواد. بدأتُ أُحرك يدي اليمنى بقوة كأنني أضرب عدواً سابق الريح من الجهةِ الأخرى كي ينقض عليّ أحسستُ أنني قد نلتُ منه وسقط صريعاً أمامي مخضباً بدمائه. وتبادر إلى ذهني في تلك اللحظة ألآية الكريمة ” إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً” .
وأستمرت المعركة وقبل أن أتلفظ ألكلمات الأخيرة من تلك الخطبة البلاغية العظيمة سرقت النظر إلى رئيس اللجنة . كان مشدوداً إليّ وكأنه كان مستعداً لتقديم العون في أي لحظةٍ ينشدها فارس مرهق في ساحات الوغى والدماء المتفجرة في كل مكان. شاهدتُ بريقاً عجيباً في عينيهِ المرهقتين وإبتسامة طفيفة قد وجدت لها طريقاً إلى شفتيه اليابستين من شدة الجوع والحرمان من كل شيء. وجاء دور عمر وراح يقرأ الخطبة. ذُهِلَ الجميع لطريقته الجميلة في إلقاء الخطبة لدرجة أنني سمعتُ من بعيد أحدهم يعلق قائلاً ” هل من المعقول أن هذا الفتى يتحدث بهذه الطريقة المتقنة ؟” والحق يُقال لقد كنت أنا مندهشاً جداً لدرجة أنني تصورتُ أنا الذي يقرأ وليس هو. كان عمر يمتلك ذكاءاً جيداً .خرجت دمعة صغيرة من عينيّ فرحتُ وحزنت في نفس الوقت. شعرتُ أن جهودي معه لم تذهب سدى. أحسستُ أن النبته الصغيرة التي زرعتها وسقيتها مدة عشرون يوماً بمعدل ثمانِ ساعات يومياً قد أزهرت فوق سطح الأرض. وختم عمر كلامه وصفقوا له طويلاً. شعرتُ أنهم يصفقون لي وحدي. وجاءت لحظة الترقب . وقرأ رئيس اللجنة أسماء الفائزين وصاح الفائز الأول ….وكان إسمي والفائز الثاني أياد والفائز الثالث عمر. لم أصدق ما أسمع. شعرتُ أن الأرض تميدُ بي في كل الأتجاهات. أحسستُ أن سجني الرهيب قد تهشمت قضبانه وتلاشت في الفضاء. أحسستُ أنني أهيمُ في البراري والسهول أرقص طرباً على أنغام الحرية والنجاح . سالت دموعي بيد أنني مسحتها على عجل كي لايكتشفوا عجزي. وتقدمنا نحو اللجنة كي نستلم الهدية التي لطالما حلم بها عمر. قدموا للفائز الأول والثاني إربعة مغلفات صغيرة من البسكويت الرخيص وثلاثة للفائز الثالث. طار حلم عمر في الحصول على دفتر وقلم. بعد المسابقة جاء عمر يركض نحوي وهو يقول ” أستاذي العزيز أنت رجل عظيم ولا أدري ماذا أقدم لك في المستقبل حينما نعود إلى أرض الوطن….لن أنساك أبداً” .
يتبع…..