23 ديسمبر، 2024 4:57 ص

جبرا ابراهيم جبرا بين الوفاء والذكرى

جبرا ابراهيم جبرا بين الوفاء والذكرى

في كانون الاول من العام 1994 فارق الدنيا الشاعر والناقد والروائي والمعرب والتشكيلي الفلسطيني، وفنان الكلمة والريشة المثخن بجراح الابداع، جبرا ابراهيم جبرا، الذي مضى الى حيث لا مكان لا وطن. ينتمي جبرا الى جيل المبدعين، جيل التجربة وقد اشغل موقعا هاما وبارزا في المنجز الثقافي العربي الفلسطيني والعراقي، وهو شخصية ادبية وثقافية واكاديمية مرموقة امتلكت من الخصب والابداع الاصيل والعطاء الادبي الحقيقي ما يجدد حضورها الدائم في المشهد الادبي والنقدي العربي، وثقافتنا العربية المعاصرة.

وفي بيت لحم الفلسطينية، مهد المسيح، ولد جبرا سنة 1920 ونشأ في عائلة فقيرة الحال، وعاش طفولته في بيوت لا قوام لها، حيث تجرح كؤوس الفقر والمعاناة والمرارة والالم، وانتم دراسته الاولى في المدرسة الرشيدية ثم تعلم في الكلية العربية في القدس، وبعد ذلك حصل على منحة للدراسة في بريطانيا، فسافر والتحق بجامعة كمبرج وتخرج منها ثم عاد وعمل في المدرسة الرشيدية.

وفي العام 1948 سافر جبرا الى بغداد الرشيد، بلد الحضارة العربية الاسلامية ومركز الاستقطاب الادبي والثقافي آنذاك وموطن فرسان المنابر الشعرية والادبية: الجواهري والبياتي والسياب ونازك الملائكة وسعدي يوسف وبلند الحيدري ولميعة عباس وسواهم. وبين فلسطين والعراق تشكل افق جبر الثقافي، واصطفى من خيارات الثقافة اصعبها واغناها: الشعر والرواية والنقد الادبي والفن التشكيلي والترجمة. وكان في كل هذه المجالات والميادين مبدعا يصغي الى هواجس ذاته بالقدر الذي يحسن فيه الاصغاء الى الآخرين، متحررا من جميع التيارات الادبية والتنظيمات السياسية مما جعله حاضرا بقوة لدى جميعها.

حمل جبرا ابراهيم جبرا الهم والجرح الفلسطيني وعبء القضية، ومن معاناة شعبه سطر ملحمة التصادم اليومي بأدق تفاصيلها، ورسم وصور وأرخ تاريخ ملحمة العذاب الفلسطيني بكل ما فيها من مرارة وبؤس وشقاء، ليتحول ابداعه الشعري والروائي اشبه بلوحة لضمير المثقف الفلسطيني، هذا الضمير الذي عكسه للعالم بكل عذاباته وجراحاته، وهزائمه وانتصاراته.

وجبرا ابراهيم جبرا قدم كل ما انتجه وابدعه اعتمادا على تنوع وغنى الثقافة العربية، ولم يخفِ اعجابه بنموذج المثقف العربي القديم حين قال في “اقنعة الحقيقة واقنعة الخيال”: “يخيل الي ان الكاتب العربي القديم كان في معظم الاحيان، ولا اقول كلها اخلص الى نفسه والى رؤيته فيما يقول وفيما يكتب من كاتبنا العربي اليوم، لم يكن الكتاب القدامى اذا تمثلناهم في احسنهم ليقفوا عند حد شكلي فيما يريدون ان يقولوه، ولذا كانت عندهم الخطابة والقصة والمقالة والرسالة والحكاية والامثولة وغيرها، كانت كلها وسائل للجهر او التضمين او الترميز لقول ما يلح على ذهن الكاتب استجابة لعصره وظروفه واستجابة لحاجته النفسية والعقلية.

ترك جبرا ابراهيم جبرا اعمالا وآثارا ادبية وفكرية، في الشعر والرواية والقصة والنقد والترجمة. ففي الشعر: تموز في المدينة، المدار المغلق، لوعة الشمس، الاعمال الشعرية الكاملة، وفي القصة القصيرة: عرق وقصص اخرى. وفي الرواية: صراخ في ليل طويل، صيادون في شارع ضيق، السفينة، البحث عن وليد مسعود، عالم بلا خرائط، يوميات سراب عفان، شارع الاميرات، الغرف المغلقة.

اما في النقد الادبي: الحرية والطوفان، الرحلة الثامنة، الفن العراقي المعاصر، النار والجوهر، ينابيع الرؤيا، الفن والحلم، جذور الفن العراقي، وغير ذلك. وثمة قضيتان تناولهما جبرا ابراهيم جبرا في قصائده واشعاره، وهما: ازمة الانسان العربي المعاصر، وازمة الوطن المغتصب بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ودلالات. ومن يقرأ روايات جبرا يكتشف جزءا من شخصيته الحضارية التي تعنى بالتفاصيل الدقيقة قدر عنايتها بموضوع المصائر الكبرى. واذا كانت بيت المقدس هاجسه الفني الاول فقد ظلت في رواياته واشعاره وكتاباته الابداعية المختلفة مجسدة على شكل اقنعة وايقونات متعددة، واحد منها “وليد مسعود” وآخر هو “السفينة” وبينها احلام “سراب”. يقول الروائي والناقد الفلسطيني فاروق وادي: “ان جبرا ابراهيم جبرا فنان مدرك لادواته وواع لهندسته يعرف المكان الصحيح للكلمة التي يقدم من خلالها رؤياه، ويعرف اين تكون ضربة الازميل في بنائه الفني، انه يرسم شخصياته بابعادها المختلفة، الاجتماعية والتاريخية والثقافية والنفسية، فهي تكوين لتلك المحصلة للعلاقات الحياتية المتشابكة، بماضيها وحاضرها، بثقافتها وعواطفها واحاسيسها، وبتشابك علاقاتها الاجتماعية وجدليتها، وكل ذلك يؤكد حضور الشخصية لا كمجرد وفكرة وحسب، وان عبرت عنها، وانما ككيان انساني معقد يحمل فكرة ويمثلها كجزء من كيانه.

واذا تأملنا في كتابات جبرا النقدية نجد ان في معظمها قراءات ومتابعات قائمة على “جمالية المتلقي” وهو يرى ان مهمة الناقد تتحدد بـ “البحث عن الصدق والوشائج والتصاميم الخفية في كل جزء من اجزاء العمل وابرازها للعين”. وغالبية ما كتبه جبرا في النقد يدور حول الشعر والشعراء، واننا لم نجده غاضبا ومنفعلا سوى مرتين: الاولى على نازك الملائكة حين وجدها تعمل على تسييج “الشعر الحر” بما هو انكفاء على التراث، لا تقدما بهذا التراث.

والمرة الثانية على الشاعر علي احمد سعيد (ادونيس) عندما وجد التناقض يسيطر على ديوانه “المسرح والمرايا” حيث الوجه موزع بين “اقنعة” متعددة ومتناقضة، وان موقفه ضائع واصالة الرؤية مبددة.

واخيرا، جبرا ابراهيم جبرا علامة فارقة ومميزة في الابداع الفلسطيني، ومن ابرز وجوه المغامرة النقدية، انه فنان ومبدع متعدد المواهب ومتشعب الاهتمامات، اتسم ابداعه بالتعددية والتأثر بالثقافة الاجنبية ولا سيما الانجليزية، واذا كان قد غاب عن الحياة جسدا لكنه يبقى فكرا واصالة وابداعا وحضورا وتوهجا دائما في حياتنا الثقافية والادبية.