نزلت في مطار (بازل) فتذكرت السجن، وانا شاب نزيل معتقل (الفضيلية) مطلع الثمانينيات، استحضر نجم السجن حينها.. جبار سويسرا.. رحمه الله ان كان حيا الان ام ميتا.
وجبار سويسرا هذا، خباز اودع المعتقل؛ لتهجمه على شخص الطاغية المقبور صدام حسين، فسجن بتهمة السب والشتم؛ التي اجاد تفخيمها، بما اوتي من موهبة الكذب القادر على المبالغة بالاحداث المنطفئة؛ وتحويلها الى التماعات نجمية تتألق في كبد سماء مظلمة تنيرها افتراضا، ولو.. لا خبر جاء، فيكفي ان وحيا نزل على مخيلة جبار؛ يمكنه من ان يدعي امام المعتقلين بانه سياسي خطير، قاد محاولة انقلاب على صدام، كادت تطيح به؛ لو لا بعض الاستكمالات التي لم تستوفَ فـ (خرأت) على القضية، التي ما ان فشلت، حتى سيطر جبار على مطار بغداد الدولي (مطار صدام حينها) وامتدت الطنافس الحمر تحت عجلات سيارته، ودخلت دول العالم انذارا، كل تحلم بمنح جبار حق اللجوء السياسي تثمينا لمحاولته الجريئة…
الا ان جبارا شد العزم على اللجوء الى سويسرا التي فتحت ذراعيها أملا بنيل هذا الشرف الذي لا يقل عن صناعة الساعات والايداعات المصرفية، اهمية في حياة الشعب السويسري.. انه جبار لو تعلمون، لكن لا كرامة لنبي بين قومه، ومغنية الحي لا تطرب، الا في سويسرا!
قدر (مزحلك – على حد تعبيره) حال دون تمام الهرب، بعد احباط الانقلاب الثوري مكتمل الاركان… فالقى صدام القبض عليه بنفسه، واودعه السجن.. متألما يلوم: لو اخبرتني انك راغب بمنصب؛ لعينتك نائبا لي بدلا من ان نخسر بعضنا بهذه الطريقة!
وحين القي عليه القبض، في مطار بغداد كان يحمل عشرة آلاف دولار وجواز سفر دبلوماسي.. انه لا يعرف ماذا تعني كلمة دبلوماسي، ولم يرَ دولارا واحدا في حياته، ابان زمن لا يعنى العراقيون خلاله بالعملة الصعبة ولا يعرفون مضارباتها، ولم يأخذ هذا الميدان حيزا له، في حياتهم، قبل حصار التسعينيات.
انه خباز بسيط، ذو خيال خصب، يجيد تحويل الاحداث العادية الى دراما مدهشة.. فانتاستك، بالفطرة؛ نشأ وترعرع في رحمانية الكرخ التي لم يرَ غيرها ومراقد الاولياء في حياته.. منذ ولد الى ان اعتقل بسبب ثرثرته المهذار والتي يعجز عن شكمها بسبب خياله المنفلت من عقال المنطق.
لو انه متعلم لكان ادهى راوٍ وابلغ سيناريست.
برنامج (الرياضة في اسبوع) الذي يعده ويقدمه مؤيد البدري من القناة الاولى في تلفزيون جمهورية العراق انذاك، كلما وصل الى فقرة (تزلج على الجليد) وغالبا ما تجري في سويسرا، هتف ثلاثمائة سجين: سويسرا.. سويسرا، فيرفع جبار يده محييا!
تذكرت جبار سويسرا وانا انزل من الطائرة المحلقة بي من (فينا) الى (بازل) لو ان هذا الرجل حي الان، لعينه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، قائدَ حملتِه الدعائية، ومستشاره الامين في تصريف شؤون البلاد؛ لأنه مجبول من الطينة التي تلائم المالكي.. يتدهدى شِنٌ فيلقى طبقةَ.