ماتت عشيقة الملك الفرنسي في ليلة ممطرة واخبروه صباحا فرثاها قائلا : ( مسكينة جان قررت ان ترحل بليلة ممطرة كهذه ) وانتهى الامر فلم يعد يذكرها او يهتم لموتها او يدفعه الشوق لزيارة قبرها على الاقل وهكذا كان موت الشاعر جبار الغزي في ليلة جادت بها السماء بكل غيث تلملم في اطرافها وشحت الارض بدفقة دفء او لمسة حانية او حتى كلمة مواساة من غريب وهو يجود بنفسه على احد ارصفة بغداد في ليل الغرباء , وربما في اللحظة التي كان يعاني فيها الغزي الالم وكثافة المطر والجوع والحاجة للدفء ومكان يقيه شر تلك الليلة كان البعض يبحر مع حسين نعمة وهم يترنم بـمرثية الغزي لنفسه ( غريبة الروح ) بين المدن والقرى التي تغفو بوداعة على جانبي (الغراف ) ذلك النهر الذي لايروي العطش فقط وانما يسقي العذوبة وحلو الكلام ويفلق افواه الناس على ضفتيه ليصبح اغلبهم شعراء عذوبة وكلامهم يشبه الموسيقى . ان جبار عبد الرضا الغزي المولود في ناحية الفجر من قضاء الرفاعي عام 1946 تنقل بين الناصرية والسماوة والبصرة وعين موظفا في وزارة الشباب اوائل السبعينات في بغداد وكان همه الوحيد بأن يكون قريبا من الاذاعة والتلفزيون لغرض تحقيق حلمه الذي راوده سنين طويلة ليرفد الفنانين بنتاجاته من الشعر الغنائي وليساهم ايضا في كتابة البرامج الاذاعية الخاصة بالريف وبقي في بغداد حتى وافاه الاجل عام1985 على عكس ما اشاع البعض انه هرب الى بغداد بعد ان فشل من الاقتران بالمراة التي عشقها , والغزي مثل اي ريفي اخر يدخل العاصمة فتدهشه اضوائها ونيونها الملونة وليلها الساهر حتى تباشير الفجر وبدلا من العودة منها الى مدينته الغافية على ضفاف نهر حالم تاه في دروب العاصمة وبين حاناتها يعب من خمرها وينام جائعا على ارصفتها حتى خارت قواه ونهك جسده وهده السكر والمرض ثم ارتحل في ليلة ممطرة مثل تلك الليلة التي رحلت بها عشيقة الملك من دون رثاء من ملك او من رعية . الغزي الذي سقى عروقه ماء الغراف حد الارتواء نطق بالشعر مبكرا وكان مجايلا لكاظم الركابي وزامل سعيد فتاح وغيرهم وكانت عذوبة شعره توزن بالقراريط كان يشابه ذياب كزار بكمية الحزن المبثوثة في القوافي ويقترب من الرويعي في غنائيته ويتقدم شعراء محافظته بالشجن وبما ان مأساة الشاعر الشخصية ضخمة الحجم فقد الفت الحكايات وحيكت الاساطير حتى جعلوا درب زوار الامام الكاظم عليه السلام يمر على الباب الشرقي , ومما يلاحظ على الغزي انه لم يكن غزير انتاج الشعر ولم يشتهر له اكثر من قصيدتين مغناة احداهما هي الاشهر بصوت حسين نعمه (غريبة الروح ) والاخرى بصوت قحطان العطار ( يكولون غني بفرح ) وغريبة الروح هي القصيدة التي بنيت عليها الاساطير التي ألفت عن الغزي وقضية حبه وعشقه لامراة من منطقته وكيف وقفت الاعراف حائلا بينهما وزوجت لشخص اخر فاضطر للهجرة الى بغداد ليدفن نفسه في غربته عنها ..
غريبة الروح لا طيفك يمر بيها
ولا ديره التلفيها
صفت وي ليل هجرانك ترد وتروح
عذبها الجفه وتاهت حمامة دوح
ان محنة الاغتراب لايعرف وجعها الا من يعانيها وقد يزداد الم الغربة عندما تكون مسببة وغير قابلة للانهاء وصعوبة اهتداء صاحب الغربة الى سبيل ينسيه هموم غربته حتى لوكانت بنت الحان كما فعل الشاعر جبار الغزي الذي تحولت معه الخمرة الى غربة وضياع اخر .
تحن مثل العطش للماي تحن ويلفها المكابر
ويطويها وانت ولا يجي ببالك
تمر مرة غرب بيها واهيسك جرح بجروحي
يمرمرني وتحن روحي
والحنين شعور مؤلم لايمكن للانسان الخلاص منه يجعلك شات الذهن لاتشعر بوجود الاشياء سواء كان هذا الحنين لشخص او مكان او زمان مما يربك حياتك اليومية حد دهورتها ويغلبك على امرك .
جم اهلال هلّن وانت ما هلّيت
جثيرة اعياد مرّن وانت ما مرّيت
سنين الصبر حنّن وانت ما حنّيت
ترف ما حسبت بيه وآنه وغربتي وشوكي
نسولف بيك ليليه نكول يمر.. نكول يحن
وتظل عيونه ربيّه يلمامش الك جيّه
متعبة هي المقارنة بين زمن تعيشه وزمن مضى تحن اليه خصوصا يوم يكون التوسل غير نافع والتمني عقيم وليس هناك من يسمع ما تطلب او يعني به
ان قصيدة غريبة الروح هي اختزال لحياة عاشها الشاعر وشابهه بها كثيرون وقد اجاد الشاعر الوصف وتسلسل الصور الشعرية وكانت وحدها تكفي تكفي لوضع شاعرها بمصاف الشعراء الشعبيين الكبار واجاد الملحن الكبير محسن فرحان صياغتها فبدت اشبه بلؤلؤة تزداد مع الايام توهجا باعذب صوت انجبه الجنوب في المئة عام الماضية الفنان حسين نعمه . رحم الله الشاعر جبار الغزي ذلك الشاعر الضائع في دروب بغداد وتناساه عمدا او سهوا كل من له علاقة بالكلمة .