23 ديسمبر، 2024 2:54 م

جامعة التجزئة العربية

جامعة التجزئة العربية

الهدف من وجود المؤسسات مهما كان نوع هذه المؤسسات او صيغة تبعيتها للدولة او لصيغ تتجاوز الدولة الى وحدة تضم عدة دول، او انها كانت مؤسسات جماهيرية شعبية او احزاباً. هو ان تخدم اعضاءها او الامة او المجموعة الذين انشئت هذه المؤسسات من اجلهم.
صحيح ان المؤسسات تتقادم وتصبح آليات عملها عتيقة غير صالحة للزمن، ان الغاية من وجود المؤسسة تظل موجودة رغم عدم قيامها بعملها على الوجه الحسن او تحولها الى العجز والشلل وعدم الفاعلية احياناً اخرى.
من هنا، يبدو من المدهش ان المؤسسات في وطننا العربي، القومية منها والقطرية، ترفض ان تتغير مع تغير الظروف والاحوال، وتصبح مع مرور الزمن عتيقة بالية، ومصدراً للخلاف احياناً اكثر من ان تكون مصدر اجماع.
يصدق هذا الكلام على مؤسسة الجامعة العربية التي اصبحت تعبيرا صارخا عن عجز النظام العربي، وعدم قدرته على حل خلافاته العالقة منذ سنوات، او التواصل الى صيغة حد ادنى، تجعل من وجود الجامعة العربية ذا معنى، كما يصدق هذا الوضع على المؤسسات المنبثقة عن الجامعة التي اصبحت تعاني من الضعف والهزال الى درجة لم تعد فيها قادرة على رفع رواتب موظفيها، والازمة المالية التي تعاني منها هذه المؤسسات، ليست نتيجة للفقر العربي بل نتيجة لعدم ايمان عدد من الدول العربية، ان هذه المؤسسات ذات نفع يعود على الاقطار المشاركة فيها ما دامت هذه الاقطار لا تتفق على سياسات اقتصادية او مالية او ثقافية عامة تجمعها ببعضها البعض، وانه لمما يثير الاسف ان تكون صورة هذه المؤسسات التي يفترض ان تكون تعبيراً عن وحدة الحد الادنى او عن التضامن في السياسات لدى المواطن العربي في ارجاء وطننا العربي المتباعدة صورة سلبية بحيث لا يجد الاقتصادي او السياسي او المشتغل بالثقافة، ان هذه المؤسسات ذات نفع بالنسبة له، والسبب في ذلك هو تشكل اعتقاد جازم لديه خلال العقدين الاخيرين على الاقل بان هذه المؤسسات لم تعد تقوم بدورها او توفر بعضاً من النشاط العربي التضامني المفيد.
ثمة اكثر من جرح ينزف من جسدنا العربي، وثمة اكثر من بركان ينفجر على خارطة الروح العربية، واكثر من حريق يشتعل في دمنا العربي، واكثر من زلزال يعصف بالنفس العربية… ومع ذلك يبدو هذا الوطن وكأنه استمرأ العذاب واعتاد الوجع والاحتراق… ولاننا لا نعرف مؤسسة قومية تعنى بجراح وبراكين وزلازل وحرائق هذا الوطن سوى الجامعة العربية، فاننا نتساءل: اين هي الجامعة من كل هذا النزيف والاحتراق والانفجارات والزلازل في فلسطين وسوريا والصومال والسودان وليبيا وتونس وحتى في عراقنا…
لماذا لا تنتصر هذه الجامعة لاعضائها مرة واحدة وتسجل ولو لمرة واحدة وقفة قومية تنسجم وتطلعات وطموح وجراح ونزيف المواطن العربي الذي يحترق باكثر من نار… نار الواقع العربي الرسمي ونار العدوانات الاميركية والاسرائيلية…
لا اعرف لماذا تتأخر مبادرة هذه الجامعة في طرح مشروع سياسي للاصلاح والحوار والمصالحة العربية؟ ولا نعرف لماذا لا يتم البدء والتحريك السياسي من المستويات الدنيا لخلق رأي عام ضاغط من اجل تحقيق مستويات متقدمة من العمل العربي المشترك؟ وهل ترى الجامعة، ان الزمن يعمل لصالح علاقات قومية متينة حتى تتلكأ في طرح مشروعها؟ ام انها تعيش حالة تردد وانحياز للوضع القائم وتريد ان تكون معبرة تعبيراً جيداً عن انتكاسه وتراجعه وبؤسه؟
انها اسئلة لا يراد توفير اجابات شمولية وعميقة عنها، ولكنها محاولة لوضع لهذا الصمت المؤسسي المطبق عما يجري اختلالات وفقدان للتوازن، وهذه الانتقائية التي اصبحت تتحكم في ممارسات الجامعة العربية، وهذا الاذغان المطلق لمتطلبات الراهن الدولي والقومي، وهذا التراجع الذي اصبح يعبر عن نفسه باكثر من مناسبة.
نسأل ذلك، ونحن نعلم تماماً ان الجامعة العربية هي جامعة للدول العربية وان موقفها هو انعكاس صادق وامين للانقسامات والخلافات العربية- العربية وبالتالي فهي عاجزة عن الوقوف والتصدي لأية مشكلة تعصف بهذا الوطن… واذا كان الامر كذلك، هو كذلك بالفعل، فما هو مبرر وجود واستمرار هذه الجامعة اذا كانت لا تمتلك الجرأة والقدرة على الوقوف مع دم ابنائها، هذا الذي ينزف في طول الوطن العربي وعرضه، واذا كانت الخلافات والانقسامات العربية تمنع هذه الجامعة من القيام بدورها في المشاكل العالقة بين بعض اقطار هذا الوطن من اعضاء الجامعة، فما الذي يمنعها من القيام بدورها والوقوف الى جانب الدول العربية التي تتعرض لاعتداءات ومؤامرات اجنبية…
ولكن يبدو ان الجامعة بصيغتها الراهنة، وميثاقها الراهن، وفي ظل المتغيرات العربية والدولية والاشتباكات العربية- العربية، غير قادرة على القيام بدورها القومي الذي تتطلع اليه الشعوب العربية، ولذلك فهي مطالبة باعادة النظر في ميثاقها وشكلها ومضمونها ودورها…. حتى يصبح في مقدورها تجاوز دائرة العجز التي تعيشها الى دائرة الفعل، وتقف مع العربي ضد الاجنبي، ومع المظلوم العربي ضد الظالم العربي، مع الوحدة ضد التجزئة، ومع الحرية والعدالة والديمقراطية ضد القمع والظلم والاستبداد، ومع العروبة ضد كل ما يتهدد هذه العروبة في الداخل والخارج.
ومع ان الجامعة فقدت وافقدت كثيراً من بريقها وصدقها السياسي الا انها لا تزال تلوح امام العقل باعتبارها معقلاً ومؤسسة قومية تنتمي اليها الاقطار العربية وتحاول من خلالها ان تعلن عن الحد الادنى من حلمها القومي او تتعامل معها باعتبارها ملاذاً وغطاء لممارساتها السياسية القطرية، اوهي المؤسسة القومية الوحيدة التي لا يؤدي الانتساب اليها الى اي نوع من الالتزامات القومية، فالدخول اليها والخروج منها سهلاً واختيارياً، والالتزام بقراراتها كذلك، لذلك فانها تستعمل احياناً منصة للقفز من خلالها على اهداف اخرى تكيفها الاقطار العربية حسب احتياجاتها القطرية.
واذا كانت الجامعة ترى بان السياسة الصراعية والنزاعات المتواصلة افسدت كل شيء، فلماذا لا تصلح السياسي بما هو غير سياسي، اي من خلال تفعيل دور المؤسسات الاخرى التابعة لها من ثقافية واجتماعية واقتصادية وتربوية، فالمعروف ان هذه المجالات قد لا تثير نزاعات وخلافات تذكر، وهي مساحة تستطيع الجامعة ان تبني عليها مشاريع توفيقية واصلاحية جديدة، ويمكن من خلالها ان تؤثر وتطوع القرار السياسي لمقتضياتها، وان ترغم الانظمة العربية على فتح حوار على الاقل حول المصلحة المباشرة لها.
انه من واقع التراجع والانحطاط العربي لا نريد الآن ان نفتح حواراً جدياً حول الجامعة وممارساتها المختلفة التي اصبحت تتناقض تناقضا واضحاً مع روحها وميثاقها والاسس التي قامت عليها ولا نريد ايضا تقديم رؤية نقدية عميقة لهذه الممارسات والمطالبة بتغيير جذري في هياكل وجوهر عمل الجامعة ومؤسساتها واجراء تقييم للدور الذي تضطلع به، وتصوراتها في الوصول الى تحقيق برنامج حد ادنى للوفاق والمصالحة العربية- العربية، وامتناعها عن المبادرة الجادة التصحيحية، وتجاوزها لمعتقداتها السياسية وارتباطاتها مع الدولة المضيفة وخضوعها المطلق لتوجهاتها ونزعاتها السياسية.
صحيح ان الجامعة تحتاج الى مثل هذا التقييم الا اننا لا نرى في الزمن والمناخ والافاق السياسية الحالية فرصة مناسبة لمثل هذه الاطروحات النقدية الجوهرية، لان مرحلتنا الحالية هي مرحلة ترميم ومحافظة على الهوية، واظهار مخاطر التجزئة والتفتيت والتقسيم وليست مرحلة الاسئلة والمواقف الجدية والصعبة التي تفقأ العين وتحرك العقل والحواس، وتجبر المقصر على التنحي، والمتأمر على التواري، والساكت عن الحق تجعله شيطاناً اخرس.
في هذا الوقت بالذات، فان العقود الستة من عمر الجامعة والتي مارسنا فيها الحديث عن العروبة والقومية والاسلام والاخوة العربية… ومارسنا فيها ايضاً كل انواع الشقاق والنفاق، جعلت علاقاتنا العربية- العربية اكثر بعداً، وفي ذات الوقت، فان العقود الستة من العداء مع اسرائيل قد تغيرت بقدرة قادر لتجعل علاقاتنا معها اكثر التصاقاً وقرباً، ولعلنا بحاجة الى ان نغلق دكان الجامعة، ونعلن الحرب الحقيقية على بعضنا البعض، كما هو حادث فعلاً، فلربما نصل بعد ستة عقود من العداء والحرب الى علاقات حميمية، كما هو حالنا مع اسرائيل.
نترحم على جامعتنا العربية حتى في حياتها، فوجودها او عدمه لا يغير من الامر شيئاً، ولربما كان عدمها افضل من وجودها، وهذه هي حقيقة مؤلمة، لكن ليست اكثر من الالم الذي يعيشه الانسان العربي بوجودها .
[email protected]