27 ديسمبر، 2024 7:45 م

جاسم عاصي …. ناقدا …. قراءة في مرايا الشعر

جاسم عاصي …. ناقدا …. قراءة في مرايا الشعر

يقال ــ في عالم الادب ــ ان الاديب يعد اول ناقد لعمله الابداعي ، ويبدو ان هذا الامر صحيح تماما , فالنص الادبي يرى : النور ، ومن ثم التعديل , التهذيب والتنقيح , والنقد على يد مبتكره ، ومنشئه ، وهذا يقودنا الى ان المبدع قد يكون ناقدا بالفطرة ، وقد اثبت لنا التاريخ الادبي ان هناك الكثير من الادباء قد مارسوا النقد الاحترافي ، لكننا قلما نجد ادبيا قد مارس النقد على جنس ادبي يخالف ما يكتب وينتج ، كأن يمارس الروائي ــ مثلا ــ نقد الشعر .
    ويعد جاسم عاصي ــ القاص العراقي ــ من هؤلاء الادباء القلة الذين جاسوا ارض الابداع ؛ كتابة القصة والرواية ، ومارسوا ايضا النقد ، فقد كتب ـــ فضلا على مجامعيه القصصية واعماله الروائية ــ اكثر من كتاب ومقال في نقد القصة والرواية , لكنه لم يقتصر على ذلك فكتب في نقد الشعر في كتابه ــ مرايا الشعر ــ الذي سنقف عنده في هذه الورقة .
  في كتابه هذا قسم الناقد موضوعه على ثلاثة اقسام ؛ ضم كل قسم عددا من الفصول , وقد توزعت هذه الاقسام على : المسرح الشعري ، والشعر ، ونصوص وقراءات .
في القسم الاول من الكتاب يحاول الاستاذ جاسم عاصي ان يضع يده على ثيمات الموروث الثقافي , ومحاولة تتبعها من التوظيف الى التمثيل في تجربة المتوكل طه من خلال مسرحيته الشعرية : حليب اسود ، التي تعد عملا ملحميا استقل بخصوصياته التقنية بدءا من العنوان الذي حمل مفارقة (البياض × التلوث) وانتهاءا بالنص الذي حاول المتوكل من خلاله ان ينقل القارئ الى حالة الانبهار لما يقرأ.
    وفي قراءته لنص محمد علي الخفاجي المسرحي : اوروك توقف الطوفان يرى جاسم عاصي ان من الممكن ان تمتزج دراما الشعر مع دراما المسرح بطريقة تجعل النص يخاطب الواقع بكل تفاصيله ، وفي الوقت نفسه يستعين بالرموز الاسطورية دون تفريط او افراط في استعمال احد هذين العنصرين .
وقد احسن الناقد جاسم عاصي في الفصل الثالث من كتابه حينما استعرض عددا من النصوص المسرحية للأديب مهدي السماوي لكن قراءته تلك النصوص كانت منصبة في ابراز الجانب الثوري الذي جسدته شخصيات السماوي في مسرحياته تلك .
   وفي قراءته لمسرحية : البحث عن الضمير لحاتم عباس بصيلة ينشغل الاستاذ جاسم عاصي بموضوعة انشطار الشخصية في هذه المسرحية من خلال تتبعه لمسارات الصراع الذي يدور ــ في اغلب مفاصله ــ حول البحث عن النقاء وسط تلوث العالم المعاصر.
  وبالإنتقال الى القسم الثاني من كتاب الاستاذ  جاسم عاصي الذي خصصه لدراسة عدد من الشعراء : سعدي يوسف ، وقوباد جلي زادة ، وعيسى حسن الياسري ، وكاظم الحجاج ، والشاعرة شيرين ك ، ومصطفى عبدالله ، وكزال احمد ، ومنعم الفقير ، وهادي الربيعي ، وضياء مهدي ، فضلا على اسماء اخرى تضمنها دراساته في فصول مستقلة ، اقول بالإنتقال الى هذا القسم من الكتاب يضعنا الاستاذ جاسم عاصي وجها لوجه مع هؤلاء الشعراء من خلال عمليات التنقيب ، والكشف ، والاستشراف لمفصليات اعمال هؤلاء الشعراء المدروسة ليضعنا على مقربة من فعل الذاكرة الى جسدها سعدي يوسف في عدد من دواوينه الشعرية , مثلما يفعل ذلك مع الشاعر قوباد جلي زاد حينما حاول الناقد استجلاء مكامن التناص الاسطوري في ديوان الشاعر المعنون : فان الايروتيك .
ويبدو انشغال الناقد جاسم عاصي بالميثات الاسطورية والفلكورية واضحا في دراسته للشاعر عيسى حسن الياسري ، من خلال دواوينه : العبور الى مدن الفرح ، وصمت الاكواخ ، وشتاء المراعي ، لكن ثلاثية الاداء والايقاع والتأثير في ديوان : غزالة الصبا ، لكاظم الحجاج تشغل بال الناقد ليخصص لها فصلا مستقلا من كتابه ، لكن القارئ لهذا الفصل يرى ان الاستاذ جاسم عاصي كان منشغلا في تتبع مسارات التشكيل الشعري عند الشاعر كاظم الحجاج من خلال تتبعه لآليات : القطع وعلامات التنقيط ، والفراغات ، وغيرها , وعلى الرغم من ان هذه الامور ترتبط بالإيقاع بصورة او اخرى لكنها لا تمثل بنى ايقاعية مستقلة .
  ويعود الناقد جاسم عاصي الى جدلية الزمان والمكان لدراستها من خلال قراءاته لديوان الشاعرة شيرين ك المعنون : فصول وحروف , التي حاولت من خلاله استثمار هذه الجدلية في البناء الشعري .
  ونجد للنزوع نحو الحرية في القصيدة اليومية مشغلا عند الاستاذ جاسم عاصي في قراءته لديوان الراحل مصطفى عبدالله : مكاشفات ما بعد الرحيل , اذ ان هذا الشاعرــ وبحسب الاستاذ جاسم عاصي ــ قد تعامل مع الظواهر اليومية على وفق مبدا التأمل والكشف .
وفي قراءته لديوان الشاعرة كزال احمد : قصائد تمطر نرجسا , يحاول الاستاذ جاسم عاصي ان يستجلي مكامن الموروث في الانهمام الشعري عند هذه الشاعرة وقد وجد بأن الموروث قد يكون معينا للشاعر على التعبير مثلما يساعده على قلق مناخات حكائية تسهم في تصعيد الفعل الدرامي في الشعر .
وقد تنبه الاستاذ جاسم عاصي الى كثافة الجملة الشعرية في ديوان : اخطاء كونية لمنعم الفقير ليجعل من قول النفري المأثور اذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة مدخلا للولوج الى ديوان الشاعر لاستجلاء مكامن الكثافة الشعرية .
  وبالانتقال الى القسم الثالث من الكتاب نجد الاستاذ جاسم عاصي ينتقل من التنظير الى النقد التطبيقي ليتوج كتابه بأمثلة عيانية فيخضع لمبضعه النقدي مجموعة من النصوص للشعراء : هادي الربيعي , وعبد الزهرة زكي , ورضا الخفاجي , وجمال جاسم امين , وئاوات احمد امين , وقد اختار من كل شاعر من هؤلاء قصيدة واحدة ، وقد اظهرت تلك القراءات بصيرة نقدية نافذة ، وألفة واعية مع المنتج الشعري المعاصر فضلا على ان هذه القراءات عكست وبوضوح مدى قدرة الاديب ــ أيا كان انشغاله ــ على ممارسة النقد وبحرفية واضحة .