23 ديسمبر، 2024 8:47 م

جاسم العايف يدخل أفق المعاينة الثقافية – قراءة في (مقاربات الشعر و السرد)

جاسم العايف يدخل أفق المعاينة الثقافية – قراءة في (مقاربات الشعر و السرد)

لعل من بين أهم وأحدث التحديثات التي تواجه عوالم دراسات ومقالات ورؤى الأستاذ جاسم العايف في جل جملة تجليات حلقات مسيرته الثقافية الأدبية والفكرية الملفتة في تأويلات كتابه الجديد ( مقاربات في الشعر والسرد ) ، بل أن القارئ لمفاصل وتمفصلات أفكار هذه الدراسات ، لربما سوف يعاين مدى مرسومية تشكيلية هذا الخطاب الثقافي الموجه نحو سلطة الذات القارئة والمتمعنة في أسوء أحوال دقائق أنتاج تلك الآثار الإبداعية المقروءة من قبل النقد والناقد. ولا يمكن لنا بحال قراءة هذا المنجز المعرفي للكاتب العايف ، بمعزل عن واقع سيرة أصحاب النصوص ، لاسيما وأن العايف قد أضحى من المهتمين جدا بعرض سير أصحاب النصوص ضمن قراءته الثقافية لحيثيات دلالات النصوص ذاتها.. وهذا الأمر بدوره ما أخذ يعزز مستوى بلوغ الأيديولوجية التعرفية والانتقائية في أحداث ومواقف ومواطن مخطط إجرائية قراءة النصوص ثقافياً ومعرفياً واستطلاعياً. وعند تصفح فقرات دراسات ومقالات الكتاب ، نعثر على قابلية هائلة في مزج الموجهات النظرية والمفهومية إلى جانب حس التعاطف والمعاطفة في أسلوبية قراءة الإجراء التطبيقي لتلك النصوص الأدبية.. خصوصاً في دراسة ( جدل الشعر والرسم / قيم تشكيلية في العراقي ). وعلى ضوء معاينات هذه الدراسة للكاتب العايف ، أجدني أقف ميالاً لكل ما طرحه من رأي وصورة إشكالية بشأن إطار موضوعة معالجات الفنان خالد خضير الصالحي ، ولاسيما وأن هذا الفنان بات يقحم رؤياه الفنية في أطلاقات مشروعية النص الشعري ومنظوماته وقيمه وجمالياته واعتباراته بلا أدنى معيار ملائم وبلا أدنى دليل ما ، بدليل أن ذائقته الشعرية باتت غير فعالة في أطروحاته اللاقيمية في مجال فصول المنهجية الشعرية الثقافية..( ولسنا نسعى في مماحكة مع الزميل خالد حولها كونها لم تستنفد حتى اللحظة وستظل كذلك لكننا نرى أن الإدراك يسبق الحكم دائما ويعطي قبل كل شيء معرفة لا علاقة بصفات الشيء الموضوعية التي تتكشف أمامنا خلال عملية التأمل الحي ويمكن لنا من خلال العلاقة الجمالية فقط كشفنا لماهيتها الاجتماعية أن نفسر تلك الجوانب في الشيء الذي تتجه إليه هذه العلاقة وكذلك ميزات الوسائل التي تظهر العلاقة فيها يوجد الجمالي فعلا كعلاقة اجتماعية نطلق عيها أسم علاقة / فردية / اجتماعية – لا كشيء خاص أو كصفة في هذا الشيء كشكل خاص مستقل من أشكال المعرفة أو كمجال خاص من مجالات النشاط والإبداع ليس الجمالي ألا أحدى العلاقات الاجتماعية وعنه تصدر كل التعابير والمفاهيم والمقولات الجمالية الأخرى / يذكر الراحل الدكتور محسن أطيمش في كتابه دير الملاك أنه لابد لأي ناقد أو باحث يطمح مخلصاً إلى تقديم رؤية نقدية متكاملة عن الشعر الجميل أن يتناول أدوات التشكيل الجمالي للشعر وهي اللغة / الصورة / الموسيقى.. وأعتقد أن هذه العناصر كانت شبه غائبة في كتاب خضير كونه معنياً بالقيم التشكيلية في الشعر العراقي..). في الحقيقة هذا ما أورده العايف في فقرات مقاربات قراءته القيمة لمحتوى كتاب دراسات الصالحي ، التي أخذت الوحدات التشكيلية الرسومية وأدواتها وقيمها مدخلا سهلا ورحبا لتحريك فضاءات قيم تشكيلية القصيدة وخطابها. كما أن المطلع على شروحيات ومعيارية أفكار دراسات الصالحي في أشكال أدواته الإجرائية وفي كل ما قد نشره في منشوراته الصحفية ، لعله يلاحظ بأن للصالحي ثمة استخدامات مشغولية ناقصة في خطاب مرجعيتها المصدرية فمثلا هو يستخدم جملة دوال تصويرية في مقالاته المنشورة في الصحف ، والقارئ لها للأسف لربما لا يحض بدليل ما أو بمصدرية مفهومية متعينة المدلول والتداول داخل حلقات قيم الواقعة المفهومية في قراءة أدوات تشكيلية القصيدة ودلالاتها. لعل الصالحي من الممكن القول بحق كتابه ( جدل الشعر والرسم ) بأنه مجرد خطاطات مبعثرة لا تصلح لضمها داخل عضوية مشروع دراسي متعين الخصائص والصفات العضوية والقيمية ، لاسيما وأنه يفتقر لحدود المقصدية العضوية الراجحة في نسق القبول المبحثي الجاد في قيم التشكيل ما بين الرسم وميزان قيم تشكيلية دلالات القصيدة الشعرية. أيضا في كتاب دراسات العايف وجدنا حلقات دراسية مسهبة في الدقة والبحث والإجراء ، خاصة في دراسة أعمال الشاعر المبدع الراحل ( مهدي محمد علي ) إذ أننا وجدنا في حيثيات قراءات العايف لأعمال وسيرة هذا المبدع الكبير ، ثمة تمايزات موضوعية خاصة تجمع ما بين أسلوبية الروي والمروي الذي بات من شأنه أن يكشف لغة حميمية التلاقح والتوليد ما بين سيرة المبدع وبين حالات وأطوار نصوصه الإبداعية المؤثرة.. ( تربطني بأخي الشاعر مهدي محمد علي منذ بداية مطلع عقد ستينات القرن الماضي علاقة قامت على اهتمامات ثقافية / أدبية – بالترافق مع بدايات تطلعاتنا الجادة تلك.. وكان الشاعر عبد الكريم كاصد صديقنا المشترك جسر الصداقة التي توطدت وتعمقت جدا أوائل السبعينيات في منتصف عام 1978 حيث تصاعدت موجة العسف السلطوي وسرعان ما انقلبت إلى هستيريا من القمع الأعمى الذي أهوى بسياطه على ظهور الوطنيين والتقدميين ما اضطرنا مهدي وكريم وعزيز السماوي ، شبه المقيم في مسكن عبد الكريم، وكان منسباً للعمل في دائرة طرق البصرة وأنا إلى أن نلتقي دائما في بيتي بعد أن بات التردد على المدينة ومباهجها البريئة صعبا ولا ضرورة تستدعي علنية اللقاءات.. عن ذلك البيت المؤجر كتب مهدي خلال أقامته المؤقتة سراً في الكويت قصيدة – صديق – التي نشرها بعد ذلك في عدن دون أن ينشر الإهداء خشية منه عليّ وقد أكد لي ذلك كريم أولاً في رسالة مطولة كتبها لي وبعثها.. يستثمر مهدي محمد علي في ديوانه / رحيل عام 78 / ثنائية / الحضور: الغياب / حضور الذاكرة : الماضي / وغيابها الآني / استدلال الأمكنة والأحداث والأشخاص بوضوح.. محاوراتهم.. طغيان ملامحهم الاحتفاظ بأدق الخصائص الواقعية للمشهد / الماضي القابع في الذاكرة.. غياب الوطن والمنفى واختراق المنفى ذاته في حضور الوطن / الناس / الأحداث / الصلات اليومية / المدن / الشوارع / الساحات العامة وغبارها / حدائق البيوت / الأزقة / البساتين / الأنهر / ألوان الستائر.. هذه الأستحضارات محاولة للتشبث بالماضي الهارب استنادا على قوة الذاكرة وحضورها العيني المتفوق.. المتوقد من خلال إقصاء المنفى والعمل على نفيه كوجود متحقق..) من خلال ما قد عرضناه من وحدات وشواهد دراسة جاسم العايف لعوالم شعرية وشعر وحوادث حياة المبدع مهدي محمد علي ، لاحظنا بأن العايف في نسيج أتون قراءته لنموذج تجربة هذا الشاعر ، راح يعتمد المحتوى المعادلي الذاتي بجوار المعادل في موضوعة حركة الإتيان بتخمينات قصدية موضوعة الناقد ذاته ، وعلى هذا الأساس رأينا سيرة الشاعر مهدي جاءتنا إسناداً مرهفا لدعم خلفية ستراتيجية عرض دلالات قراءة نصوص الشاعر وتجربته النضالية في جزئيات مسودة حياته الشعرية والإنسانية.                      
أن التعرف على مخطط قصدية النص لربما هو الأمر ذاته في التعرف على تصورات ومحسوسات دائرة حياة صاحب النص السيرية ، فالعايف عندما هم بعرض تلك المقدمات السيرية المحفوفة بروح التوثيق والتقويم ، كان يقصد من ذلك الوصول إلى منظومة حدسية خاصة بقصدية النص والتعرف عليه وفهمه أولاً وأخيراً ، كما أن السبيل الجاد في الوصول إلى حياة معنى النصوص ، هو ذلك التصديق ما بين أسلوبية عرض سيرة الكاتب وبين إيراد قيم دلالات نصوصه الشعرية ، في ضوء إجرائية نموذجية سليمة أساسها أسلوبية القراءة النقدية الفريدة. فأنا شخصيا من المتلهفين لإنشاء هكذا طريقة في رصد أعظم وأهم إستراتيجية في مقاربة النصوص نقدياً. وفي جميع الحالات فأن مقاربات العايف جاءتنا فضاءات واعية ومفيدة لغرض الوصول إلى ماهية التدليل والإضافة في فهم النصوص ، ولربما هذا الأمر يخص ما قاله ( وورد زورث ) : ( فرغم غياب ما يوحي به بالقبر والدموع فليس هناك ما يمنع من الإحالة عليهما : أن القبر والدموع لفظان يحتويهما نفس الحقل المصدري والدلالي من حيث مبدأ الحضور والتأثير).              وما قام به العايف من الممكن أن يكون فاعلا تطبيقاً وليس نظرياً ، ولكنه في الوقت نفسه ليس تأويلا عبثياً أو فوضوياً ، وقد تكون نسقية وعلامية تلك الشواهد التوثيقية في لغة المقاربة الإجرائية لدى العايف مدخلا تماثلياً إزاء تداعيات المقصود التلفظي في حياة الدراسة المعيارية للنص.                        فلكي تتحول الموضوعة النقدية إلى طرائق استعدادية هامة المفهوم والمحورية الثقافية ، فما عليها سوى إظهار أقدر أساليب شروح مجموعة الظواهر التصورية والقيمية لتلك الموضوعة الإبداعية. أعود الآن إلى باقي دراسات كتاب (مقاربات في الشعر والسرد ) وما يلفت نظرنا أيضا في حقل منجز دراسات هذا الكتاب ، هو تلك الدراسة التي تختص بالبحث في أعمال الشاعر حسين عبد اللطيف ، وتحديداً قصائد ديوانه الجديد ( الهايكو) ولو أن لي في الحقيقة في هذا الديوان الأخير من تجربة شعرية حسين عبد اللطيف ، ما يخالف ما قد قاله العايف بخصوص هذه التجربة للشاعر ، والتي لربما تلاقي مني الكثير من الإنكار والرفض كصوت تعبيري في حق دوال عوالم تجربة الشاعر الأخيرة ، ولكن على أية حال ، أقول كانت مقاربة العايف لأعمال الشاعر الأخرى ، ذات رصانة وكيفية تفكيكية هائلة في رد اللون إلى الكأس من غير أن يظهر الطعم وراءه. أما الحال في دراسة ( على جناح ليلكة ) ودراسة ( فجائع عازف الليل ) ودراسة ( بداية البنفسج ) ودراسة (قصائد النثر العربية : مشاهد ورؤى متعددة ) ودراسة (أنشودة المطر.. قراءة جديدة ) ودراسة ( الأميركي براين ترنر ينقب في الجرح العراقي ) وهناك في كتاب العايف دراسات القسم الثاني تتعلق بمعينات السرد الروائي والقصصي ، كما وأن هناك قسم ثالث يتعلق بعوالم تقانات النص والبنية المسرحية ، وفي كل هذه الدراسات التي احتواها كتاب جاسم العايف ، هجسنا بأنه كان يشرع في جل دراسات كتابه إلى تقديم ترسيمة مغايرة لما نسميه النموذج العاملي في بنية المقاربة النقدية التطبيقية وبصورة قد لا تفي دائما بطبيعة الصلات القائمة بين العوامل القرائية ، وهو بدوره ما جعل شكل القراءة في دراسة العايف ، تبدو فاقدة أحيانا لطابعية حصول الهيئة الأساسية في المنظور القرائي ذات الأدوار والدور العاملي المباشر في تحقيق رؤية الاتصال الموضوعي النقدي بالأثر المنقود.        هذا الأمر بدوره ما يتعلق ومكونات قسم دراسات السرد ، فالقارىء لطبيعة تلك الدراسات التطبيقية ، لعله يلاحظ بأن اطلاعات العايف القرائية لتجارب تلك النصوص السردية ، قد حلت بشكل مباشر بروح تأثيرات كتابته النقدية حول تلك النصوص ، أي بمعنى ما ، جاءتنا شروحات الناقد الأطروحة حول أشكال تلك النصوص ، بروح ممارسة طابعية التعليق وليس بروح شرحية العلامات التقويمية المعيارية التي من شأنها إبراز نتائج مصادر الإشارات الأخيرة من زمن تجربة تلك النصوص المبحثية.وانطلاقا مما سبق منا في مجال زمن تقويم تجربة دراسات ومقالات الأستاذ العايف بشكل عام ودائم ، فليس لنا سوى أن نقول بصدد مشروع كتابه الجديد ، من أنه مجهود جاد وجديد يتضح من خلاله التركيز على مستوى جمالية رؤية النصوص وإيقاعها ، بجانب سير أصحاب النصوص داخل حدود محكيات استلهامية رهينة زمن دال اقتراحية قراءة النصوص بطريقة مرجعية النقد الذاتي ومصدرية المعادل الموضوعي بأبعاده المفهومية المتماسكة.
                                              
2
 التوثيق الشعري عند جاسم العايف ومعيارية التعليق
 إن القراءة النقدية للنصوص الإبداعية كما يفهما ( سارتر) لا تقوم فقط على أساسية أو ضرورية المناهج النقدية حصراً ، بل وعلى أساسية القراءة الذاتية أيضاً ، ولعل ما قرأناه في نمط ونسق دراسات جاسم العايف ، يلخص لذاته هذا المسعى من البحث والرصد والتكوين ، وباختصار شديد ، فأن القارئ لطبيعة توجهات تلك الدراسات النقدية في كتاب العايف ، لربما يشعر في الوهلة الأولى بأنه إزاء بنية توثيقية شعرية تتحدث عن موضوع قصيدة أو رواية أو سيرة ، فقد انتهى الأمر أحياناً بمضامين تلك الدراسات وكأنها عمليات متراصفة من لغة تداعيات أرشيف الشعر وأصحاب الشعر بجانب أدراكات بناء فحوى التوثيق القصدي وليس التوثيق الأرشيفي. ألا أننا وبعد نهاية زمن دراسات ذلك الكتاب ، صرنا نشعر بمدى مدروسية ودقة ترابطات عضوية قيم تلك التشكيلات المفهومية في رؤى أفكار الكاتب العايف.                 ومن هذا المنطلق وحده يمكننا اعتبار دراسات ومقالات وتنظيرات (مقاربات في الشعر والسرد) كقيمة ثقافية جــــــادة وأمينة تسعى في ذاتها لمعاينة النصوص الإبداعية من باب أفراغات الصور الذهنية للأشياء ووجــــــودها العياني والظاهر والمظهر إلى غاية اللحظة التي يدون فيها الناقد انطباعاته المتلاحقة بين التلقي والإنتاج المعياري المرهون بسلطة كوامن النصوص ودلالاتها العلائقية الممكــــنة في شفرات الممارسة التأويلــــــية النقدية السليمة.                                       
* منشورات مجلة(الشرارة)- النجف/ط1 -2013