22 ديسمبر، 2024 2:04 م

جائزة نوبل تتنفس شعرًا بمنجزِ لويز غليك

جائزة نوبل تتنفس شعرًا بمنجزِ لويز غليك

بعد تسع سنوات من غيابِ الشِّعْر عن فضاءِ جائزة نوبل للأدب، فاجأت الأكاديميَّة السويديَّة الأوساطِ الأدبيَّة بالعودةِ من جديدٍ إلى أروقةِ الساحةِ الشعرية، إثرَ إعلانها حصول الشاعِرة والكاتبة الأمريكيَّة (لويز غليك) على جائزةِ نوبل للأدب للعام الحالي 2020م. ومما تجدر الاشارة إليه، أنَّ هذا المنجز الرفيع الذي حققته غليك وهي بعمر (77) عامًا، جعلها في موقعِ رابع امرأة تتربع على عرشِ جائزةِ نوبل للآداب منذ عام 2010م، والمصنفة رقم (16) التي تفوز بجائزةِ نوبل منذ بدء العمل بها في عام 1901م. ويرى المتخصصون أنَّ تتويجَ غليك – التي توصف بأنَّها شاعرة ذات بصيرة عالية وإحساس إنساني مميز – أنهي القطيعة الطويلة للأكاديميَّةِ السويديَّة مع المشهدِ الشِّعْريّ الذي ودع جائزة نوبل للأدب منذ عام 2011م عندما حصل آخر الشُعَراء على هذه الجائزةِ في حقلِ الأدب، والتي منحت آنذاك إلى الشاعِر السويدي (توماس يوستا ترانسترومر) الذي يشار إليه بوصفه من أكبر شُعراء السويد في القرن العشرين، فضلًا عن أنَّه يُعَدّ واحدًا ممن يشكلون وجه الثقافة السويدية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنَّ غليك تُعَدُّ بوصفها أوّل أمريكيَّة تفوز بالجائزة بعد سبعة وعشرين عامًا من فوزِ مواطنتها الروائيَّة (توني موريسون) بهذه الجائزة التي كان مواطنها الشاعِر (بوب ديلان) قد فاز بها في عام 2016م.
اللافت للنظرِ أنَّ فوزَ غليك بجائزةِ نوبل للأدب في عامِ الجائحة، أثارَ جدلًا كبيرًا في الأوساطِ الأدبيَّة العربيَّة، مصحوبًا بموجةٍ عاصفة من ردودِ الفعل المتباينة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي من بينها ما تميز بحدةِ اللهجة في انتقادِ ما ظهر من إجراءاتٍ للأكاديميَّة السويديَّة، بل ومهاجمتها حيال طبيعة القرارات التي تتخذها بشأنِ اختيار الأدباء المؤهلين لنيلِ جائزةَ نوبل للأدب، واصفة إياها بالانحياز الصارخ في قرارتِها إلى السَيْطرةِ الأوروبيَّة والأمريكيَّة، في إشارةٍ إلى وجودِ عوامل مؤثرة في مسارِ عمل هذه الأكاديميَّة التي تُعَدّ المؤسسة الأبرز في حقلِ الآداب بدولةِ السويد، واتخاذِها القرارات بشأنِ منح الجائزة المذكورة، والتي تلزمها المضي قدمًا في ترسيخِ آليات اختياراتها التي تلبي متطلبات الهَيْمنة الأوروبيَّة والأمريكيَّة بالاستنادِ إلى رؤى العديد من المتابعين العرب.
لعلَّ أبرز الطروحات التي تتناسل من عامٍ إلى عام على شكلٍ أوسع، وربما أخطر، هو رؤية شريحة واسعة من هؤلاء المتابعين أنَّ إدارةَ الأكاديميَّة السويديَّة تدور في حلقةٍ مفرغة من أيامٍ طويلة، إذ بمقدورها تجنب هَيْمنة الكبار، والنأي بنفسها عن كلِّ ما يسيء إلى الأهدافِ المتوخاة من إنشاءِ الجائزة موضوع بحثنا، عبر السعي الحثيث في محاولةِ البحث عمن يستحق الحصول عليها، مؤكدين أنَّ هناك الكثير من الأدباء فيما تباين من بلدانِ العالم بوسعهم حيازة جائزة نوبل للأدب؛ لانَّ ما قدموه من نتاجٍ إبداعي لا يقل بحسبهم أهمية عن عطاء الشاعِرةِ الأمريكيَّة (البيضاء) التي منحت الجائزة هذا العام، في رمزيةٍ تعكس الغياب التام لتكافؤ الفرص ما بين أدباء العالم في نهجِ إدارة الأكاديميَّة السويديَّة، والمتأتي من إصابة العقل البشريّ بشرورِ النظرة العنصريَّة التي تفرض على من يؤمن بها الركون إلى فكرةِ تغليبِ الانتماء الفئوي الضيق، من أجلِ ضمان تحييد تدخلات معايير وأسس القياس الموضوعيَّة في مهمةِ رسم صورة الكفاءة الأدبيَّة على الرغم من أهميتها في مثلِ هذه الفعالياتِ الإنسانيَّة، الأمر الذي يفضي إلى المُساهمةِ في تأمينِ فرص المُنافسة – من دون قيودٍ ناظمة – على حيازةِ هذه الجائزةِ التي تمنح سنويًا من الأكاديميَّة السويديَّة إلى المؤلفين؛ تثمينًا لمساهماتِهم البارزة في مجالِ الأدب، حيث تنص لائحة جائزة نوبل على أنها تُمنح للشخص الذي “ينتج في حقل الأدب عملا أكثر تميزا يصب في تعزيز الاتجاه المثالي”.
إنَّ التوجسَ الذي أبداه العديد من المتابعين والمهتمين بالشأنِ الأدبي، ينبغي أنْ لا يقمعَ فكرة الإبداع، والذي مرده هنا إلى أنَّ الشاعِرة غليك التي أسهمت في إثراءِ القارئ الأمريكي والأوروبي بتنوعِ نتاجها، لم يكن اسمها معروفًا لدى المتلقي في المحيط العربيّ، كمعرفته بالشاعرة الأمريكيَّة إميلي ديكنسون (1830 – 1886)، وحتّى المتخصصين في مواضيعِ الأدب لم يكن لهم اطّلاعٍ كافٍ على منجزِها الأدبي الذي يتطلب الحكم عليه معرفة دقيقة بمكنوناته، إذ يمكن الجزم بأنَّ كلَّ ما تعرف عليه القارئ العربي من كتبها، يقتصر على مجموعةٍ شعرِيَّة واحدة من مختاراتِها، كانت قد أصدرتها في عام 2009م، ووسمتها باسمِ (عجلة مشتعلة تمر فوقنا). وفيما عدى تلك المجموعة اليتيمة، تعذر علينا إيجاد أثرٍ يُذْكر لهذه الشاعِرةِ، أو لقصائدها في المكتبةِ العربيَّة.
إنَّ عدمَ كفاية اطلاع أغلب المثقفين العرب على التجربةِ الشعريَّة للشاعِرة غليك، المولودة في نيويورك عام 1943م، لا يعني إغفال ما حفلت به سيرتها الذاتية من نتاجٍ شعريّ، فضلًا عما حظيت به من تكريمٍ جهات عريقة، وما حصدت من جوائز أدبيَّة رفيعة، فلا عجب إنْ أشادت الأكاديميَّة السويديَّة بالشاعِرة غليك التي تقع موضوعات الأسرة والعلاقة الزوجية في قلب تجربتها الشعرية، حيث يصبح الشعر امتداداً للسيرة الذاتية، ولا أدل على ذلك من إشارة الأكاديميَّة السويديَّة في بيانِ منح غليك الجائزة، إلى أنَّه من بين أسبابِ منح الجائزة هو: “صوتها الشاعري المميز الذي يضفي بجماله المجرد طابعًا عالميًا على الوجود الفردي”، ووصفها مجموعتها الشعرية (الجحيم) بأنها: “مجموعة كُتبت ببراعة، وتفسير رؤيوي لأسطورة بيرسفوني ونزولها إلى الجحيم بعد أن يأسرها هاديس إله الموت”. كذلك أشاد رئيس لجنة جائزة نوبل، أندرس أولسون، بصوت غليك الشعري واصفًا إياه بـ “الصريح والصلب والمليء بروح الدعابة والسخرية اللاذعة”، بالإضافةِ إلى قوله: “إن مجموعاتها الشعرية الاثنتي عشرة تتميز بالتوق إلى الوضوح”، إلى جانب تأكيده صرامتها الأخلاقية وعدم رغبتها في قبول مبادئ الإيمان البسيطة.
في السياق ذاته، يؤكد أصحاب الشأن والاختصاص أنَّ قصائِدَ غليك تأخذ القارئ في رحلاتٍ داخلية تستقصي خلالها أعمق المشاعر وأكثرها حميمية، بأسلوبٍ قريب، وقدرة عالية على تأليف الشِّعر البسيط الذي يمكن لجميع الناس فهمه والارتباط به وتجربته، من دون أنْ يقلل ذلك من عمقِ فكرها وأصالة صوتها الشعري. كما يشير الكثير من الباحثين إلى أنَّ غليك تعاملت في شعرها مع واقع الوجود الإنساني والتجارب المؤلمة فيه، وركزت على موضوعاتٍ من أمثال: الموت، الطفولة والحياة العائلية، فضلًا عن استلهامها في الكثير من أعمالها الميثولوجيا الإغريقية وشخصياتها، وبخاصة النسوية منها، مركزة على تجربة الخيانة التي تتعرض لها هذه الشخصيات كما هو الحال مع (بيرسفوني) و(يوريديس). وتصف غليك بعض ملامح تجربتها الشِّعريَّة بالقول: “ما أتشارك به مع شعراء جيلي هو الطموح، وما أخالفهم فيه هو تعريف هذا الطموح”. وتضيف أيضًا قائلة: “لا أعتقد أن الإكثار من المعلومات يصنع دائماً قصيدة ثرية. ما يجذبني هو المضمر، الذي لا يقال، الإيحاد، الصمت المعتمد البليغ. ما لا يقال في القصيدة يضمر قوة أكبر. غالباً ما أتمنى أن تصنع قصيدة كاملة من هذا التعبير، أي ما لا يقال، فهو يوازي غير المرئي”.
تملك غليك، مسيرة حافلة بالإنجازات التي ساهمت في حصولها على العديد من الجوائزِ الأدبيَّة المرموقة، والتي من أبرزها: نيلها في عام 1993م جائزة بوليتزر للآداب التي تقدمها سنويًا جامعة كولومبيا بنيويورك، حصولها في عام 2014م على الجائزةِ الوطنيَّة للكتاب الأمريكيَّة التي تُعَدّ من أعرقِ الجوائز الأدبيَّة في الولايات المتحدة، وفي العالم كله، فضلًا عن حيازتها على جائزةِ بولينغن للشعر، جائزة الشاعر والس ستيفنسن، ميدالية العلوم الإنسانيَّة الوطنيَّة في أمريكا التي قلدها إياها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في عام 2016م، بالإضافةِ إلى اختيارها أميرة لشعراء الولايات المتحدة (2003 – 2004). ومما تقدم يتضح لنا أنَّ غليك توجت تقريبًا بكل الجوائز التي يمكن أن يحلم بها شاعر أمريكي.
جدير بالإشارةِ أنَّ غليك التي أكدت ذاتَ حوارٍ أنَّ كرهها للحواراتِ الصحافية، لا يعني أنَّها منعزلة، فهي امرأة اجتماعية جدًا، عملت أستاذة للأدب الإنجليزي في جامعة ييل الأمريكيَّة، ومحررة لسلسلةِ المختارات الشعرية، فضلًا عن انجازها في مسارها الأدبي اثنتا عشرة مجموعة شعريَّة. وما تيسر لنا معرفته من منجزها الشعري هو ما يلي: مجموعتها البِكر المولود الأول عام 1968م، الحديقة 1976م، انتصار أخيل 1985م، أرارات 1990م، الحدقة المتوحشة 1992م التي أهلتها للفوز بجائزة بولتزر للآداب بعد عام من صدورها، فيتا نوفا 1999م، العصور السبع 2001م، الجحيم 2006م، حياة قروية 2009م، ليلة مخلصة فاضلة 2014م، بالإضافةِ إلى مؤلفين، أولهما صدر عام 1994م تحت عنوان (براهين ونظريات)، والذي تضمن مجموعة مقالات عن الشعر، والآخر وسمته باسم (الأصالة الأمريكية)، وهو مقالات حول الشعر صدر عام 2017م.
بالاستنادِ إلى ما أتيح لنا من الدراسات، فإنَّ خيبةَ الأمل، والهجر، والفقد، والعزلة والتأمل في تقدّم العمر والشيخوخة والموت تُعَدّ ثيمات غليك الأثيرة، إذ أنَّها كما يصف بعض النقاد (“شاعرة عالم ينهار)، فلا غَرْوَ إنْ وصِفَ شِعرها من بعض الباحثين بالقتامة والسوداوية، إلا أنَّ قصائدها على الرغم من ذلك الوصف، لا تبعث على الكآبة على الإطلاق؛ لأنها نصوص ذكية تجيد التقاط المفارقات في علاقاتنا البشريَّة، وتقاربها بروحٍ من التفهم والتسامح. وكما يصف بعضهم غليك بالقول: “تنقل انهيار العوالم الفردية بهدوءٍ وبساطة، عبر نصوص هامسة تحتاج الكثير من الإنصات إلى فجوات الصمت فيها”. وفي هذا الإطار تقول غليك: “أفترض أن كفاحي ومباهجي ليست فريدة من نوعها. لا يهمني أن أجعل الضوء يسلط عليَّ وعلى حياتي بحد ذاتها، وإنما أن يسلط على كفاحي ومباهجي، على البشر الذين يولدون ثم يجبرون على الخروج”.