18 ديسمبر، 2024 6:55 م

انظر حولك وابحث عن مكان للعقل فى الصراعات والمبارزات والمساجلات والمونولوجات السائدة الآن، وطوبى لك إذا ظفرت بأقل القليل من هذا الذى تُنَّقب عنه وسط ركام هائل من الكلام الذى يملأ وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى، بل مراكز ومنتديات وظيفتها البحث العلمى. وربما لا يكون مبالغاً القول إن من يعثر على نموذج واحد للعقل فى كل هذا الركام الذى يزداد كل يوم يستحق جائزة.

ويعد هذا القحط أحد عوامل الافراط فى الرجوع إلى الماضى بمناسبة وبغيرها، واستحضار رموز عربية قديمة وإقحامها فى أوضاعنا الراهنة، كما يحدث كل عام فى ذكرى ابن خلدون الذى نقرأ ونسمع كلاماً مكرراً عن أن أفكاره مازالت صالحة لعصرنا، وأن مقدمته المشهورة مناسبة لزماننا وليس فقط لزمانه، كما لو أنه فى الأخير يقيم فى حياتنا الآن.

ولكن هذا أمر يستحيل حدوثه ليس فقط بالنسبة إلى ابن خلدون، ولكن أيضاً بشأن أى فكر آخر مضى على رحيل صاحبه هذا العام 610 سنوات كاملة. فليست هناك صلة تقريباً بين علم الاجتماع اليوم وما جاء فى مقدمة ابن خلدون. فقد كانت هذه المقدمة نقلة مهمة فى عصرها، ثم تجاوزها العلم فصارت تاريخا0

ولكننا نستحضر أفكارا قديمة لسد فراغات فكرية, أو لاستخدامها فى معارك جديدة على نحو يبدو مثيراً للشفقة، كما فعل رشدى صالح مثلاً حين استحضر ابن خلدون فى كتابه “رجل فى القاهرة” الذى يدعو فيه إلى الاشتراكية ويُبرز محاسنها، فيبدو كما لو أن صاحب المقدمة هو مؤسس الفكر الاشتراكى فى العالم. كان ذلك عام 1957، أى فى الفترة التى بدأ فيها الانغلاق السياسى والفكرى يُحدث آثاره السلبية الأولى التى تفاقمت تدريجياً على مدى نحو ستة عقود.

ومع ذلك، فإذا أردنا أن نربط ابن خلدون بالواقع الراهن، نستطيع أن نجد مدخلاً لذلك فى حياته وسيرته أكثر من فكره. فقد عمل فى عدة بلاطات، وتعرض لدسائس ومكائد مازالت سمة من سمات حياتنا السياسية والاجتماعية فى العالم العربى. وكانت حياته مهددة فى بعض اللحظات من جراء هذه المكائد التى تزداد وتصبح مدمرة للنسيج الاجتماعى, وليس فقط لحياة الأفراد وسمعتهم, فى مراحل الانتكاس والتدهور.

نقلا عن الأهرام