ثورة 14 تموز من الإقطاعية المُقنَّنة إلى الإقطاعية العشوائية غير المُقنَّنة

ثورة 14 تموز من الإقطاعية المُقنَّنة إلى الإقطاعية العشوائية غير المُقنَّنة

عندما اندلعت ثورة 14 تموز 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم، بداوكأن العراق على موعد مع انعتاق تاريخي طال انتظاره. فالثورة، التي أطاحت بالنظام الملكي المدعوم من الغرب، بشّرت بميلاد عهدجديد يُنتزع فيه الفلاح من قيد الإقطاع، ويُمنح فيه المواطن حقوقًااقتصادية وسياسية طالما حُرم منها. غير أن ما تلى تلك اللحظةالمفصلية لم يكن سوى تحوّل شكلي من إقطاعية مقنّنة وممأسسةإلى إقطاعية عشوائية فوضوية تتخذ أشكالًا جديدة، وتخترق بنيةالدولة والمجتمع على نحو أكثر تعقيدًا وغموضًا.

الإقطاعية المقنّنة: وجه النظام الملكي

عُرف العراق الملكي بإقطاعيته المُشرعَنة التي تستند إلى منظومةقانونية وإدارية تضمن بقاء ملكية الأرض محصورة في يد عدد قليلمن العائلات الكبيرة والنافذة، في حين كان الفلاح العراقي يعملفيها كأجير أو تابع بلا ضمانات. ورغم القوانين التي حاولت تحسينالأوضاع، إلا أن الهيكل العام للنظام كان يخدم طبقة الإقطاعيينعلى حساب الملايين من الفلاحين.

السلطة، في تلك الحقبة، كانت واضحة المعالم: الملك، البلاط، البرلمان الصوري، وملاك الأراضي الكبار. وكان يمكن للفلاح أنيعرف خصمه، حتى لو لم يكن قادرًا على مقاومته. وكانتالإقطاعية” – بكل ظلمهاتخضع لنظام وتراتبية؛ فهي مقنّنة، وإن كانت ظالمة.

ثورة 14 تموز: تفكيك الإقطاع أم إعادة إنتاجه؟

جاءت ثورة 14 تموز حاملة شعارات التحرر الوطني، والعدالةالاجتماعية، والإصلاح الزراعي. وبالفعل، صدر قانون الإصلاحالزراعي عام 1958 لتحديد الملكية، وتوزيع الأراضي على الفلاحين، وكسر سطوة كبار الملاّك.

لكن الثورة لم تكن بمنأى عن التناقضات. فبينما هدفت إلى تفكيكالبُنى الطبقية القديمة، فتحت الباب أمام نشوء طبقات جديدة تمتلكالسلطة دون ضوابط، مما أدى إلى إنتاج إقطاعية من طراز آخر: ليست قائمة على ملكية الأرض، بل على امتلاك النفوذ، والسلاح، والقرار.

الإقطاعية العشوائية: وجه الدولة ما بعد الثورة

الإقطاعية الجديدة لم تعد تعتمد على السندات القانونية أو الطابو، بل على الانتماء الحزبي، أو الولاء الشخصي، أو القوة المسلحة. منحكموا العراق بعد الثورةسواء عبد الكريم قاسم أو من تلوه منالبعثيين والعسكريينأفرزوا أنماطًا جديدة منالإقطاع“: مسؤولون يوزعون العقارات أو الأراضي كهبات، قادة عشائرمسلحون يفرضون سلطتهم على مناطق بكاملها، ورجال أمنواقتصاد يتحكمون بمصير آلاف المواطنين بلا مساءلة.

وهكذا، تحوّلتالدولةمن كيان مركزي قانوني إلى ميدانٍ متنازععليه بين زعامات متعددة، كل منها يملك صلاحياته الخاصة غيرالمكتوبة. فانعدمت الحدود، وتماهت المصلحة العامة بالمصلحةالشخصية.

من الإصلاح إلى الفوضى: الأسباب والسياق

يمكن رد هذا التحول إلى عوامل عدة:

غياب مؤسسات راسخة: الثورة لم تفرز مؤسسات حامية للعدالةوالمحاسبة، بل جعلت كل سلطة فردية مطلقة بيد القائد أو الحزب.

العسكرة السياسية: استبدال الطبقة الإقطاعية القديمة بطبقةعسكرية مهيمنة جعل العلاقات تُدار بالسلاح لا بالقانون.

انهيار الطبقة الوسطى: التي كان يمكن لها أن تشكل ركيزة لدولةقانون ومؤسسات.

التحزّب الأيديولوجي: سواء عبر القومية أو البعثية أو غيرها، مماسمح لطبقات جديدة بالسيطرة على الموارد دون رقابة.

خاتمة: بين الحلم والخذلان

لقد مثّلت ثورة 14 تموز حلمًا وطنيًا نقيًا بالنسبة لكثير منالعراقيين، خصوصًا الفلاحين والعمال وصغار الموظفين. لكنهاتحوّلت، مع الزمن، إلى بوابة لعهد جديد منالإقطاعيةغيرالمقنّنة: إقطاعية لا ترتكز إلى الأرض، بل إلى الولاء، النفوذ، والعبث.

وهكذا انتقل العراق من ظلم مقونن يمكن فضحه ومواجهته، إلى ظلممبعثر، لا شكل له، لا قانون يضبطه، ولا رأس يُحاسَب فيه. وباتالمواطن العراقي رهينة إقطاعيات خفية: دينية، حزبية، عشائرية، أوعسكرية.

وما زالت البلاد، حتى يومنا هذا، تدفع ثمن الانتقال غير المكتمل منالإقطاع إلى المواطنة، ومن الدولة إلى اللاّدولة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات