23 ديسمبر، 2024 6:06 ص

ثورة 14 تموز في ذاكرة فتى بعمر 11عاما!

ثورة 14 تموز في ذاكرة فتى بعمر 11عاما!

بين إغفاءة وتثاؤب وكسل وحلم لذيذ، متمرد، يصطنعه فتى لم يتعد الحادية عشرة من العمر، تتكرر حكاية عند كل فجر جديد في العطلة الصيفية بعد سنة دراسية. كان عليَّ الخروج غبشاً، صحبة والدي، الذي يدير مطعماً كنا نمتلكه في كرخ بغداد سماه “نور الشمس” ليحذف بعدئذ منه كلمة “نور” ليبقي اسم “الشمس” وهو من المطاعم التي ظلت حية في أذهان البغداديين طيلة عقود من الزمن، خصوصاً الكرخيين منهم. ولم يكن يوم 14 يوليو:تموز عام 1958 سوى يوم عادي، تلفّه حرارة تموزية غير عادية، كان يوماً رتيباً رتابة رحلة الفجر المفروضة عليّ.
الوقت أقل بقليل من الساعة الرابعة فجراً، أغرغر فمي بكمية من الماء الممزوج بالملح، بناءً علي نصيحة والدي، ثم أرتدي بنطالا وقميصاً عادياً، فيما يقف الوالد منتظراً عند باب دارنا في مدينة البياع رقمها 89/9 محاذية لشارع عشرين في البلوك الأول من المدينة الناشئة. وهذه المدينة انتقلنا إليها قبل أشهر قليلة من محلة الدوريين، مقابل بناية المتحف العراقي حالياً.
مناداة والدي اليومية لم تنقطع، وهو يستعجلني على الدوام، حيث الفتى المتنمر داخلي، كان يميل الى ترتيب نفسه أمام المرآة. أليس واجبه في العمل هو الجلوس خلف المنضدة لإستلام المبالغ من رواد المطعم أو كما يسمي الآن “كاشير”. إذاً الأناقة وحسن الهندام، من ضرورات مثل هذه الوظيفة، فيما الوالد يراها عملاً روتينياً ان لبستُ البنطال أو لبستُ الدشداشة!
كان علينا لبلوغ المطعم، الإنتقال سيراً لبضعة أمتار، قبل أن نصل إلى (باص) ثلاثيني الصنع، كان صاحبه (الحاج ساجت) وابنه ينهضان مبكراً مثلنا ليقفا قرب باصهما عند ترعة صغيرة تتفرع عنها أخاديد ضيقة هي ملجأ الحياة لأهالي (البياع) وعددهم لم يكن يتجاوز 50 عائلة، منها يغتسلون ومنها يشربون، ومنها يسقون حدائقهم البسيطة. ولا تزال أصوات الضفادع في نقيقها الموزعة على أجنحة الترعة، وهي تشق الغبش وكأنها نداءات بين ذكورها وإناثها تدغدغ مخيلتي!
يتحرك الباص، حاملاً معه مستقليه، جلهم من الكسبة وصغار التجار، وعمال البناء .. الخ، قاطعاً مسافة لا تتعدى العشرة كيلو مترات، يقضيها متوقفاً لدقائق عند مبنى (محمد مفتن) الشبيه بالسمكة، والذي أصبح لاحقاً المقهى الوحيد في مدينة البياع، وهذا المبنى شيّده آل البياع أنفسهم قبل أن يستأجره الراحل محمد مفتن. ولا يزال المبنى شامخاً، مقابل مبنى مصرف الرشيد.
ينحدر الباص بعد هذا التوقف القصير، ليسلك طريق (حله – بغداد) وهو شارع باتجاه واحد، ماراً بمنطقة زراعية وبيوت طينية، تسكنها عوائل الجنود المتطوعين أو رجال الشرطة أو النازحين من الألوية القريبة (المحافظات) وقد حلّت محلها مستشفى “اليرموك” لاحقاً، وقبلها اقتطع جزء منها لتوزع على الصحفيين باسم حي القادسية.
يمر الباص أيضاً بنقطة سيطرة بسيطة عند عنق جسر “الخر” ذي الإتجاه الواحد، ولم أتذكر يوماً أن هذه السيطرة أوقفت الباص أو سألت السائق عن وجهتنا، برغم من كون هذه (السيطرة) هي المسؤولة المباشرة عن الشارع المؤدي إلى قصر الزهور، ومطلة على واجهة قصر العائلة الملكية الرئيس وأعني به قصر الرحاب. فأين حال اليوم من حال الأمس!
ويغذ الباص سيره باتجاه “الحارثية” وبعد ذلك يدخل بمحاذاة معسكر الوشاش (متنزه الزوراء) لاحقاً، مخترقاً جزءا ًمن قرية “صرائف” أخرى، تشكل جزءاً من منطقة (الشاكرية) الممتدة من كرادة مريم، حتى مرآب “علاوي الحلة” حالياً. ويستمر الباص الذي أتعبته السنون، بين صاعد ونازل، حتى مقهى “علي عرب” وتحديداً قرب حمام (التميمي) الذي يفصله عن سينما الأضرملي (بغداد) شارع صغير واحد، إعتاد والدي يومياً المرور على صديقه عباس الباجه جي لتناول إفطاره المحبب، ثم نذهب معا الى مقهي صديقه “أبو كاظم” المطرب الكبير ناصر حكيم لاحتساء الشاي، وكل ما ذكرت لا يتعدى وقته ساعة واحدة أو نيف. ولو افترضنا أننا خرجنا الساعة الرابعة فجراً، فإننا نكون قد فتحنا المطعم الساعة الخامسة أو أكثر بقليل ولم يدر بخلد أحد أن هذا الإفطار سيليه بعد وقت قصير إذاعة البيان الرقم (1)! وأعود لمربط الفرس: كان كل شيء اعتيادياً، الجنود بسراويلهم النصفية، ولفات أرجلهم الصوفية، في رواح ومجيء، يقفون للأكل عند عربات بيع شوربة العدس أو (محموسة الفشّات) أو يقضمون لفات الصمون المغمس بقليل من القيمر المتوفر لدى بائعاته المنتشرات على الأرصفة وأمامهن “صواني القيمر” وفيها مدّية صغيرة تشبه الأبرة الكبيرة، وأظنها فعلاً أبرة خياطة، يقمن بقطع القيمر بها، بطريقة تتناسب مع ثمن (اللفة). وأيضاً، شاهدتُ ومثل كل يوم، باعة الجملة لـ (جبن العرب) والزبدة والسمن الحيواني، يتوافدون على مواقعهم المعتادة، وكانت باصات الحمل الصغيرة والكبيرة ترسو بحمولتها في “علوة” السمك في منطقة “باب السيف” في الشواكة.
ولاحظت كالمعتاد الدخان الأسود يتصاعد من مشاعل “حمام” الكرخ الشهير قرب مقهي البيروتي (دائرة التقاعد العامة حالياً) من جهة الصعود إلى جسر الأحرار من منطقة الكرخ إلى الرصافة. وباعة الحبال وشباك الصيد كانوا مبكرين في مجيئهم. وكان (قدوّ) ملك نهر دجلة، بادياً مشواره الصباحي في ذلك المكان بتعليم الصبية السباحة مستغلاً حرارة الجو، وبقربه تقف زوارق كبيرة، هجرها أهلها منذ الحرب العالمية الأولى، فأصبحت مرتعاً للهو البريء!
يبدو أن الفتى، يسهب في سكب رؤاه على ورق الذاكرة، فهو يؤكد أن الحياة كانت طبيعية، لكن ما يحدث بعد دقائق، بمثابة زلزال هز العالم.
نحن الآن أمام مطعمنا، ومازالت بضعة مصابيح صغيرة تتصارع مع ضياء الشمس، مالبثت أن اختفت، بعد أن تسيّدت بواكير الشمس، كان العمال افتتحوا المطعم، قبلنا وهم منهمكون حالياً في غسله، وتهيئة مستلزمات الطبخ .. إلخ.
البركـان ..
ـــــــــــــ
ذاكرة الفتى، تحمل صوراً لموجات من الناس بينهم حاسر الرأس وآخر بالسدارة البغدادية، وآخرون بالدشاديش والجراويات ونساء بعباءاتهم، تسير مسرعة على غير العادة، وتعلوا بأصوات جهورة (ثورة .. ثورة ) ثم ندير المذياع لنستمع الى البيان الرقم (1) إيذانا بانبثاق ثورة.
كان البيان معاداً لمرة ثانية ونحن لم نستمع إليه إلا قبل ثوان!
اللحظة، تسابق اللحظة، فقبل أقل من ساعة كنت ووالدي نمر من أمام “قصر الرحاب” حيث العائلة المالكة. ولم يكن هناك ما يوحي بشيء مختلف، فمن أين أتت تلك القوة، لتحتل القصر الملكي؟ أسئلة طفولية، أثارتها مخيلة فتى في الحادية عشر. لن يستمر الفتى في وصف تلك اللحظات، لأنها تتطلب حيزاً كبيراً، لكنه يتذكر كيف أن أصدقاء والده تجمعوا في حلقة كبيرة أمام مطعمهم (سلوم القصاب وسلمان الزبيدي وناصر حكيم) الذي ترك مقهاه ليلتحق بالشلة ثم يليه أشهر شخصية كرخية هو (مهدي الكبابجي) صاحب مطعم الكباب الشهير قرب السفارة البريطانية، والذي كان يطيب للسفير الإنكليزي وضيوفه أن يتناولوا “كبابه” الشهيّ، وهم لا يعرفون أن هذا الكباب هو من لحم النوق والأباعر مضافاً إليه (ليّة) سمنة الخراف العراقية، مكوناً مزيجاً لذيذاً تحمله السفافيد على مشواة الفحم الكبيرة التي لم يكن بحجمها من موازٍ في كل مطاعم العراق!
ويعود الفتى إلى ذاكرته : اشتعلت الأنفس، ومارت المشاعر بخلجاتها، وتبدأ الجماهير بـ (السحل) الذي أخافني، قبل أن تتآلف معه عيناي، على مضض شأن المجتمع الذي رأيته، لقد جاؤوا بجثة الوصي “عبد الآله” وهي مسحوبة بالحبال، ورأيت بعض الرجال يقومون بتعليقها بغوغائية من فوق فندق “العظماء” ثم ينزلونها، ليعودوا بالمشهد نفسه من إحدى شرفات فندق “الزعماء” وهي جثة مقطعة ومشوهة! ويطلب الوالد غلق المطعم، ولم نتمكن من العودة إلى دارنا، إلا مشياً على الأقدام من خلال طرق امتدت من شارع النصر حالياً، مروراً بمنطقة المشاهدة ثم العطيفية، ثم منطقة (شطيّط) الوشاش لاحقاً، ثم سلكنا شارع (بغداد ــ حلة) وصولاً إلى دارنا وسط فرحة مشوبة بالاندهاش لدى المواطنين. فالقسم الأعظم كان مرحباً، والقسم الصغير والأصغر يخفي مشاعره لما سيحل لاحقاً. وأعتقد أن لهؤلاء بُعد نظر لم يكن في الحسبان، إلا لذوي العقول الواسعة! استنتاج بخدمة علماء الاجتماع!
ويمضي نهار 14 تموز 1958. ونعود في اليوم التالى إلى المطعم في وقت متأخر نوعاً ما، فلم نجد عاملنا القديم أي رئيس العمال واسمه (حسن خيرية) وعند السؤال عنه قالوا إنه ترك العمل واتجه إلى العمل النقابي، فضحك والدي، لأنه يدرك بساطة تفكير هذا الرجل، فهو لم يملك من متاع الدنيا سوى لسان يحفظ أسماء الأكلات التي يقدمها مطعمنا لزبائنه. فقررنا غلق المطعم من جديد، خوفاً مما لا يحمد عقباه.
وفي اليوم الرابع على الثورة (18 تموز) حضر والدي ظهراً الى المطعم، لتفقده ، وتفقد أحوال العمال، غير أنه لم يجد من العمال سوى أربعة فقط، من مجموعة ثمانية أو تسعة، أحد الأربعة، كان الطباخ وهو باكستاني الجنسية وثلاثة آخرين لم يكونوا من الأساسيين، فسأل والدي عن عامل اسمه (مجيد) من سكنة قضاء (…) فقيل إنه ترك العمل وهو منهمك حالياً في شراء وإعادة بيع صور الزعيم عبدالكريم قاسم من شارع المتنبي حيث نشطت المطابع في ذلك الحين في هذه التجارة. وأما العامل الثاني واسمه (حميد) وهو شقيق للعامل (مجيد) فقد اختص في شراء وإعادة بيع صور العقيد عبدالسلام محمد عارف!
هذه هي صورة الأيام الأربعة من حياة ثورة 14 تموز 1958، كما حفظتها ذاكرة فتى. لكن هذا الفتى الذي هو الآن في سن تجاوز السبعين بأعوام أربعة، يقول: لقد أشبع الكتّاب والدارسون ملابسات 14 تموز، لكنهم تناسوا الإشارة إلى اللبنات التي أسست لما بعد ذلك. فهم لم يذكروا مثلاً ولم يحللوا ظاهرة الشقيقين (مجيد وحميد) العاملين في مطعم ليتحولا فجأة إلى بيع صور القطبين الرئيسيين لثورة 14 تموز، ثم يصبحان بعد ذلك بسنين الى شخصين مهمين أحدهما سميّ (قاسمي) والثاني (قومي اشتراكي)!
وفات الفتى، أن يقول إن مطعم والده كان مجاوراً لمكوى يملكه السيد حامد شقيق الزعيم عبدالكريم قاسم ومحلاً لبيع الأقمشة (بزّاز) يمتلكه الحاج محمد عارف والد العقيد عبدالسلام عارف، ويؤكد شهود عيان أن نوري السعيد كان يزور الاثنين باستمرار!
ونعود لليوم الأول (14 تموز). ثلاث ساعات غيّرت وجه العراق. بدأت بطلقات على قصر الرحاب (مقر الملك) وأخرى في الصالحية (مبنى الإذاعة) حيث البيان الرقم (1) وثالثة في الكرادة على قصر نوري السعيد رئيس الوزراء! والقصران المذكوران (لم يكونا سوى بيتين اعتياديين في مقاييس الزمن الحالي) استباحتهما الجماهير، فأسسا لأول مرة لثقافة (الحواسم) في العراق لتكمل حلقات “الفرهود” التي انطلقت في أربعينيات القرن الماضي على استيحاء، فلم يبقَ في تينك البيتين سوى الطابوق المجلجل بالسخمان وبعض قطع الزجاج. وما عدا ذلك فقد حمله الغوغاء الى حيث … اللا جدوى، فهل نحن نعيش لعنة التاريخ؟