سيبقى الحديث مستمراً عن ثورة تموز رغم مداد الحبر الذي أستُخدَم لأجلها ، وهذا هو شأن الأحداث الكبيرة التي تقلب الأوضاع رأساً على عقب ، فلم ينتهِ ولن ينتهي الحديث عنها بكل تأكيد.
ستكون انطلاقتنا في هذا المقال الموجز باتجاهين ، أو بالأحرى محورين:
الأول: لماذا حدثت هذه الثورة؟
الثاني: لماذا انتكست ـ بعد توَهّجها الفعّال؟
المحور الأول:
لا يمكن لحدثٍ كبيرٍ ـ كثورة تموز ـ أن يحدث في الفراغ ، إذ لا ينتصر إلا ما هو ضروري ، فالتاريخ لا يحتمل “الطارئ” أو “المُقحَم” ، أي الذي لا أساس له في الواقع كما أشار المفكر الألمعي سلامة كيلة (1). وقد وصلت عوامل اضمحلال النظام الملكي العراقي الى درجة عالية من الشدة والخطورة ، فلم يستطع الصمود أمام الضربات المُوَجّهة إليه في صبيحة 14 تموز كما ذكر الأستاذ ليث الزبيدي (2). وقد صدر في الفترة الأخيرة كتابنا عن النظام الملكي (3) ، عالجنا فيه هذه المسألة بإسهاب ، وكيف أن سقوط النظام الملكي كان ضرورة يفرضها الواقع والشروط الموضوعية.
قُسّمَ الكتاب لمقدمة وأربع فصول وخاتمة ، فخصّصنا الفصل الأول لحقبة الملك فيصل الأول ، والثاني لحقبة غازي ، والثالث للوصي عبد الإله ، والرابع لفيصل الثاني.
فكانت النتيجة التي خرجنا بها:
كان سقوط النظام الملكي حتمياً ، وأن الزعم الذي نسمعه دائماً: لو استمر النظام الملكي لما وصلنا الى ما وصلنا اليه ، هو زعم بعيد عن الواقع. فالشروط الموضوعية لهذا “الاستمرار” مفقودة. مع ضرورة التأكيد على أن “لو” مرفوضة تأريخياً كما ذكر المؤرخ الكبير فاروق صالح العُمر في كتابه “ثورة مايس” ، وأن هذا الزعم هو أشبه بوصفة طبيب وجد علاج مريضه بعد رحيله (4).
المحور الثاني:
برزت قوىً رئيسة على السطح بعد الإطاحة بالنظام الملكي ،وهي:
1ـ الجيش الذي قام بعملية التغيير بالقوة.
2ـ الشيوعيون واليساريون ، فالحزب الشيوعي العراقي حزبٌ عريق مُنظّمٌ مارس الكفاح بشكل متواصل ضد النظام الملكي الذي عامله بقسوة شديدة. أما الثاني فهو الحزب الوطني الديمقراطي “حزب كامل الجادرجي” الذي كان يسارياً معتدلاً.
3ـ القوميون من ناصريين وبعثيين ، إضافة لحزب الاستقلال بزعامة الشيخ محمد مهدي كبة ، وهو من الأحزاب المُعارضة والمُرخّصة في العهد الملكي (5).
كان الهدف الأوحد لهذه القوى هو اسقاط النظام الملكي ، وعندما تحقّقَ ذلك الهدف ، ظهرت التناقضات بينها. وهو أمر طبيعي غير موجِب للعجب والاستغراب.
تم حصر السلطة بيد الزعيم قاسم ونائبه عبد السلام عارف ، ولم يُشَكّل “مجلس قيادة الثورة” ، وهذا ما أثار باقي الضباط “الأحرار” الذين تحَمّلوا ما تحمّلوه سابقاً ، وقد ظهر إثر ذلك نتائج خطيرة أثرت على مسيرة الثورة لاحقاً ، هذا أولاً. أما ثانياً فقد كان عزل عارف وتجريده من سلطاته كافة نُذر شؤمٍ على الثورة ، نقول بذلك بعيداً عن تأييد عارف وخُطبه الهوجاء في بداية الثورة ، وإلا فعارف لم يكن شخصاً طارئاً على ثورة تموز ، فهو “فاتح بغداد”.
كان عارف يدعو الى الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر ، وبدعم من القوى القومية.
بالمقابل ، لم يُعطَ الزعيم قاسم فرصة ولو بسيطة لقيادة البلد ، فقد أعلنها القوميون حرباً بلا هوادة عليه ، وحجتهم في ذلك عدم قبوله تحقيق الوحدة الفورية مع العربية المتحدة. لكن ماذا لو تساءلنا الآن: هل كانوا صادقين آنذاك في شعارهم؟ أم كان مجرد تكتيكٍ براغماتي لضرب قاسم؟ أثبت لنا التاريخ الثاني! فأين الوحدة التي صدعوا رؤوسنا بها بعد أن قتلوا الزعيم؟ ثم هل كان عبد الناصر من دُعاة الوحدة الفورية؟ يروي محمد حسنين هيكل بأن الأولوية عند عبد الناصر كانت على تأكيد وحدة الثورة العراقية وتدعيم مسيرتها نحو أهدافها (6). بل ان العقيد صبحي عبد الحميد وهو قومي ، قد اعترف ونصح الأجيال القادمة ، بأن الظروف تتطلّب السعي لتحقيق الوحدة بإسلوب تدريجي لا يُثير الحساسيات والتعصب القطري! (7).
أنتج هذا الوضع المُتَفَجّر حركة العقيد عبد الوهاب الشوّاف في الموصل 1959 ، ثم حوادث كركوك المأساوية ، ليقوم الزعيم قاسم بإعدام رفيقيه العقيد رفعت الحاج سري والعميد ناظم الطبقجليلاشتراكها بمؤامرة الشوّاف. وهو خطأٌ بشعٌ اندفع إليه قاسم كما ذكر العميد إسماعيل العارف (8).
تم تحميل الشيوعيين وزر هذه الأعمال ، وطبعاً فنحن لا نُريد أن نُبَرّىء أحداً على حساب الحقيقة والتاريخ ، أبداً. لكن أثبتت المصادر الموضوعية أن الشيوعيين قد حُمّلوا أوزاراً أكثر مما هي على الواقع ، ويمكن الرجوع الى ما كتبه حنّا بطاطو وأوريل دان وعبد الفتاح البوتاني وجرجيس فتح الله.
فهل يعني هذا بأن قاسم لم يكن مسؤولاً عن هذا الوضع؟ كيف لا وهو على رأس الدولة! فسياسته قد ارتدت عليه وقتلته في النهاية ، فمسك العصا من الوسط وضرب هذا الطرف بذاك قد كانت سبباً رئيساً لنهايته الحزينة. فارتجاله في الحكم وتورّطه بالاصطدام بعبد الناصر ـ كما ذكر د. طارق يوسف إسماعيل (9) ـ ثم حربه مع الأكراد ومطالبته بالكويت ، قد أدت الى هلاكه.
لكن رغم كل هذه الصعوبات ، فقد حقّقت ثورة تموز الكثير من الإنجازات وعلى جميع الميادين ، فيقول محمد حديد وزير المال في عهد قاسم ، بأنها قد حرّرت العراق من حلف بغداد ، وجعلت العملة العراقية مستقلة ، وشرّعت قانون 80 ، والغت الاقطاع … (10).
المُحصّلَة أن انتكاس الثورة وسقوط قاسم قد كان حتميّاً أيضاً كما أسلفنا عن النظام الملكي ، فالشروط الموضوعية لبقاء قاسم مفقودة.
وتُحتّمُ علينا الموضوعية الآن أن نُشير لنظافة قاسم ووطنيتهونقاء سيرته ، وقد إعترف عدو قاسم بذلك قبل صديقه. ومذكرات القادة البعثيين شاهدة على ذلك.
الحواشي:
1ـ سلامة كيلة: أزمة الاشتراكية بعد مائة عام من ثورة أكتوبر ـ دراسة في تجربة القرن العشرين ، دار ابن رشد القاهرة ط2 2017 ص93
2ـ ليث عبد الحسن الزبيدي: ثورة 14 تموز في العراق ، منشورات مكتبة اليقظة العربية بغداد ط2 1981 ص17
3ـ معاذ محمد رمضان: النظام الملكي العراقي وإشكالية البقاء ـ هل كان من الممكن لهذا النظام أن يبقى على قيد الحياة؟ دار البيارق للنشر والتوزيع بغداد 2014
4ـ المصدر السابق ص278
5ـ يُنظر مقالنا:
معاذ محمد رمضان: العراق في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ـ نظرة سريعة للواقع السياسي ، صحيفة المثقف ، بتاريخ 29 تشرين الثاني 2023
6ـ محمد حسنين هيكل: حرب الثلاثين سنة ـ سنوات الغليان ، دار الشروق القاهرة ط1 2004 ص479
7ـ مذكرات صبحي عبد الحميد / العراق في سنوات الستينات 1960 ـ 1968 ، دار بابل للدراسات والإعلام ط1 2010 ص317
8ـ إسماعيل العارف: أسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية في العراق ، منشورات الماجد لندن 1986 ص236
9ـ طارق يوسف إسماعيل: من زوايا الذاكرة ـ على هامش ثورة 14 تموز عام 1958 ، تقديم: د. عبد الحسين شعبان ، مكتبة النهضة العربية بيروت بغداد ط1 2021 ص189
10ـ محمد حديد: مذكراتي ـ الصراع من أجل الديموقراطية في العراق ، تحقيق: نجدة فتحي صفوة ، دار الساقي بيروت ط1 2006 ص466 و 467