لم تعيش “ثورة 14تموز” طويلا, حوالى 4,5 سنة, تموز 1958- وشباط 1963 وكانت سنين حافلة بالاحداث, وكانت مقومات انبعاثها هى فى واقع الامرعوامل نهايتها, هذا بالاضافة الى ما افرزته من تمركز وتمحور القوى السياسية. من الاحزاب والمرجعيات الدينية والقومية.
ان “ثورة تموز” هى انقلاب عسكرى قام به “تنظيم الضباط الاحرار” التى كانت تنشط فى وحدات الجيش العراقى, وحتى لوكان لها تفاعل واجتماعات ونقاشات مشتركة مع الاحزاب والقوى السياسية المعارضة للنظام فى القطاع المدنى. ان سقوط النظام الملكى بعملية الضباط الاحرار لم يقوم على حراك شعبى طويل وعنيف, ولم يحصل حتى فى اطار القوات المسلحة تمردا ومقاومة لبعض الوحدات العسكرية بفعل وتأثير تنظيم الضباط الاحرار, ولذلك لايمكن ان ترتقى العملية العسكرية التى قام بها تنظيم الضباط الاحراران تكون ثورة كللت الحراك والمقاومة الجماهيريه ضد النظام, كعملية تفاعل عضوى ثورى مع الحراك الشعبى المدنى والقطاع العسكرى المنظم والمدرب وقامت بأسقاط النظام الملكى. كانت الاوامر قد صدرت الى وحدات كبيرة من الجيش العراقى فى التوجه الى الاردن فى اطار الاتفاقات التى تمت حول تشكيل حلف بغداد. ان هذه القوات التى كان فيها عدد من الضباط الاحرار قد امتنعت عن تنفيذ الاوامر الصادرة لها بالتوجه الى الاردن, وانما دخلت العاصمة التى تمثل مراكز قوى ورمز النظام وقامت باحتلال محطة الاذاعة والتلفزيون ووزارة الدفاع وبعض الوزارات والمراكز الحساسة وتقاطعات الشوارع الرئيسية فى العاصمة. كانت انقلاب عسكرى نموذجى.
ان التجاوب الشعبى الجماهيرى السريع لقطاعات واسعة من الشعب العراقى وتفاعله مع حركة الضباط الاحرار, خاصة نزول سكان العاصمة الى الشوارع مرحبة ومؤيدة للجيش وهتافاتها العالية بسقوط النظام ورموزه. كما ان الفرح والمظاهرات التى سيطرة على المظاهر الحياتية فى جميع مدن العراق وخاصة فى العاصمة بغداد, هذه الشمولية الشعبية السريعة العامة, اعطاتها سمة “الثورة” كتعبير صادق عن الاوضاع الحياتية للجماهير وارتباط الدولة فى مجمل توجهاتها السياسية ببريطانيا, الدولة الاستعمارية التى احتلت العراق فى عام 1914 , كما انها التى قامت بتأسيس الدولة العراقيةالحديثة وهى التى سارت بالعراق نحو الحداقه حتى لو كانت بخطى اوليه بسيطه.
ان الجماهير التى نزلت الى الشوارع وبشكل مستمر, سوى كان ذلك عن حركة ذاتية تلقائية غير منظمة او بتاثير قوى واحزاب سياسية معينة, قد تحولت الى قوة ديناميكية ذاتية لم يتمكن احد من السيطرة عليها, كما ان الاحزاب والكتل السياسية لم تقوم بمراجعة سياستها تجاة التطورات المضطربة وحتى المتناقضة التى حصلت على الساحة العراقية وعملت بشكل فاعل وقوى على اضعاف الثورة وعرقلة مسيرتها وبالتالى الى نهايتها المأساوية, وذلك لعدم توفر تصور محدد لدى الضباط الاحرار حول الثورة واهافها وابعادها الاجتماعية والاقتصادية, وذلك للخلافات الكبيرة فيما بينهم, هذا بالاضافة الى الاختلافات مع بعض الاحزاب والقوى الوطنية التى هى الاخرى تحمل اتجاهات ومشاريع متباينة بالاضافه الى فقدان الثقه فيما بينهم وعدم توفر لغة الحوار واحترام الاخر.
ان وقوع”الثورة” فى تموز 1958 وسقوط النظام ونهايته الدموية لم تكن موفقة فى توقيتها وحصلت قبل ضرورتها بما لا يقل عن 3عقود. اننا لا ندافع عن النظام الملكى وعلاقته بالاستعمار, وانما التأكيد على عدم توفر الشروط الموضوعية والذاتية لقيامها انذاك, وجاءت بتأثير ارادات فردية واديولوجيات حزبية لا تنطبق على مرحلة التطور الاقتصادية الاجتماعية التى كان العراق يمر بها, وقد لعب الحزب الشيوعى العراقى فى هذا الاطار دورا كبيرا فى تأجيج الشارع العراقى بمشاعر عنيفة ضد النظام الملكى وتكفير النظام وقادته ووصفهم بعملاء الاستعمار وخونة للوطن الذين لا يأبهون بمصالحه الحيوية والمستقبلية. والواقع فان الحزب قد نجح بشكل كبير بتكفير النظام وكل ما يصدر عنه, وبذلك فقد تبلورت حالة من الرفض العام للنظام بين شرائح واسعة من الشعب العراقى, والتى لقيت قبولا واسعا خاصة بين المثقفين والطلبة والريفييين.
ان البديل الواعد بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية, بالرفاه الاقتصادى,والعمل للجميع بالعدالة امام القانون بعيدا عن العشائرية والمحاباه… الخ الذى قدمه الحزب الشيوعى للعراق منذ تأسيسه فى الثلاثنيات هو نموذج النظام الاشتراكى الذى قام ببنائه الحزب الشيوعى الروسى- البلشفيك, ولكن لابد من الاشارة الى ان مرحلة التطور الاقتصادى/ الاجتماعى فى روسيا القيصرية وعراق تحت الحكم العثمانى المتخلف لستة قرون تقريبا لم يتجاوز مرحلة النمط الاسيوى للانتاج, وحتى فى مرحلة الحكم الوطنى فى العراق لم تتطور صناعة كبيرة وطبقة عاملة صناعية, البروليتاريا, ناهيك عن تطور علاقات انتاج رأسمالية, هذا يعنى لايمكن بناء نظام اشتراكى بغياب علاقات انتاج رأسمالية وعدم وجود دور فاعل ومؤثر للطبقة العاملة, واذا نجح الحزب فى اسقاط القيصريه فانه سوف يعمل بالضرورة على بناء جهاز بوليسى عسكرى قمعى لضبط مسيرة الحكم الجديد الذى لم تتوفر له القاعدة الصلبة للبروليتاريا.”, بالاضافه, كما ذكر لينين, اننا اعتمدنا النظام البيروقراطى الذى لم يكن معنا, بل رافضا لنا., هذا ما حصل فى الاتحاد السوفيتى!! ان المنطلقات النظرية للحزب وحملاته الدعائية المستمرة ضد النظام الملكى كانت مثقلة بالعواطف والاحلام التى ليس لها اسس علمية ومنطقية, انها كانت مجرد دعاية ناجحة قد كونت وعى سياسى رافضا متطرفا لم يكتسب من ثقافة الحوار والاعتراف بالاخر كما انه قد احتكر الحقيقة والمستقبل لذاته, وبذلك فقد شرع لنفسه كل ما يمكن استخدام كل ابعاد العنف ضد الاخر. ان قتل العائلة الملكية, بالصيغة النى تمت ومطاردة رموز الحكم يمثل تطورا منطقيا لسيادة الجهل المسيس وشرعية ممارسة العنف من قبل الناس العاديين والمسيسين المنظمين. ان هذه الحالة لم تقتصر على الشيوعيين وانما ايضا قد استخدمها البعثيون والقوميون ضد الشيوعيين, وهذا الوضع المأزوم والمتأزم قد رافق سنين حياة “الثورة” وكانت احدى اسباب نهايتها.
ان الحزب الشيوعى الذى يقدم الاتحاد السوفيتى نموذجا لعراق المستقبل ومسيرات السلام و”الحزب الشيوعى فى الحكم مطلب عظيمى” والاتحاد الفيدرالى مع مصر والجمهورية العربية المتحدة الاسلوب الافضل للعلاقة, يقدم البعثيون والقوميون مصر نموذجا لمستقبل العراق وعبد الناصر القائد وباعث القومية العربية والوحدة الفورية, لايتردد البعثيون والقوميون ولا يناقش الامور طويلا وانما يشرعوا مباشرة بالعنف والاغتيالات لاعدائهم. ان الخلافات فى صفوف الضباط الاحرار قد اصبحت واقعا ملموسا, جناح الزعيم عبد الكريم قاسم وجناح العقيد عبد السلام عارف الذى اتخذ ايضا توجها طائفيا واكد علية وتطور الى صراع حول السلطة واخذ طابعا طائفيا ومناطقيا.
مما لاشك فيه كان الضباط الاحرار من المواطنين الحريصين على مصالح الشعب والدولة والمستقبل, ولكنهم نتاج مكونات هذا المجتمع الذى كانت العلاقات العشائرية والطائفية والقومية تلعب دورا كبيرا فى تكوينهم ونشاطهم السياسى, خاصة بالصورة القاتمة التى رسمتها الدعاية بتكفير كل ما يقوم به النظام واعتبار رموزه خونة وادوات للاستعمار, لم يكن لديهم منهجا وتصورا عن نموذج واسلوب البناء والتطور الذى سيسرون علية وكيفية معالجة ارث النظام الملكى وعلاقة العراق المستقبلية بالدول العربية والجوار وكذلك وبشكل خاص مع بريطانيا وامريكا, علما بانهم لايمتلكون خبرة سياسية عملية واسلوب التعامل الدبلوماسى , كما ان الاوضاع اصبحت اكثر تعقيدا لتفاقم الصراعات الداخلية والتى اخذت تفرض نفسها على قياد الدولة وحكومتها بشكل قوى مما ادى الى تخبط فى وضع جدول الاهتمامات وعدم وجود منهج واسلوب فى معالجة المفردات والوصول الى الاهداف, هذا بالاضافة الى الوعى المثقل بقوة الذات وقدرتها على الفعل والتأثير, اخذت الرغبة الذاتية تتصاعد فى تحقيق نجاحات داخلية وخارجية. ان التطورات داخل حركة الضباط الاحرار قادت الى انفراد الزعيم عبد الكريم قاسم بالسلطة والقرار , ولم يكن هذا التطور ايجابيا فى مسيرة “الثورة”. ان قيادة المباحثات حول قانون 80 لاستغلال بريطانيا لحقول النفط فى العراق من قبل الزعيم عبدد الكريم قاسم مع السفير البريطانى, لم تكن موفقة من حيث التوقيت الزمنى بالرغم من شرعية مطاليب العراق وحاجتة الماسة لموارد اضافية لعملية البناء, وكذلك عملية المطالبة بالكويت وما صاحب ذلك لم تكن هى الاخرى موفقة. لقد اثار الزعيم بمطالبته فى الاراضى غير المستغلة لاستخراج النفط والمطالبة بالكويت, انتباه بريطانيا وامريكا وبدأ العمل الجدى لاسقاط عبد الكريم قاسم وثورة “14 تموز” وتسليم العراق لجماعات وكتل موالية, وهذا ما حصل فى شباط 1963 ولاحقا فى 16 تموز 1967. ودخل العراق الجمهورى فى دوامة الصراعات الدولية واصبح اداة ووسيلة للمصالح الامريكية بعدما اخذ دور بريطانيا يضعف ليس فى العراق فقط وانما فى مناطق اخرى فى العالم
ان “ثورة تموز” قد حققت انجازات كبيرة للشعب العراقى فى فترة قياسية وهى شاهدة لحد الان, السدة الشرقية والحصول على مساحات جديدة لتطوير العاصمة, بالاضافة الى بناء المساكن للنازحين وتوزيع الاراضى على الموظفين والسكان بأسعار رمزية. كان تسليح وتحديث الجيش العراقى واتفاقية التعاون مع الاتحاد السوفيتى يمثل خطوة مهمة لتوسيع مصادر السلاح وكسر احتكار الغرب, كما تم تنفيذ مشاريع الارواء وبناء السدود الستراتيجية, ويعتبر تشريع قانون الاحوال المدنية الذى كان اكثر القوانين تقدما مقارنة بمثله فى البلدان العربية خطوة مهمة بالاعتراف بالمرأة ودورها فى العائلة والحياة., هذا بالاضافة الى قانون العشائر الذى يعامل ابناء العشائر مثل بقية العراقيين, وهذا القانون الذى شرعه الاستعمار كان يرمى الى ابقاء العشائر على روابطهم وانتماءاتهم العشائرية بعيدا عن الدولة والمواطنة. ان المثير لللاهتمام هو تبلور شعور وانتماء وطنى فى عراق يسير نحو الحداثة والتقدم. الا ان “ثورة” تموز قد افرزت ايضا حالة تمركز واستقطاب القوى السياسية التى صاحبها ايضا تصعيد استخدام القوة والعنف فى التعامل مع الاخر انطلاقا من احتكاره الحقيقة واصبح العراق فى موضع الريبة من قبل امريكا وبريطانيا. ان السؤال الذى لابد ان يطرح حول الامكانيات الواقعية لعراق مازال فى بداياته ودولة من صناعة الاستعمار , بموارد محدودة جدا وعدد السكان لم يتجاوز 6 ملايين نسمة فى الخمسينات. ان يطرح الاستقلال التام عن بريطانيا, خاصة الدعاية العنيفة الى قامت بها بعض الاحزاب فى تكفير النظام وتخوين رموز الحكومة منطلقا من نموذج مشكوك فى صلاحيتة من ناحية حرقها للمراحل التاريخية للتشكيلات الاقتصادية الاجتماعية واعتماده بالضرورة على جهاز بوليسى قمعى. كان الاجدر بالحزب الشيوعى العراقى ان يأخذ بافكار الاشتراكية الديمقراطية ويساهم فى العمل وايجاد حلول معقولة لقضايا الاستقلال الوطنى ومشكلات الديمقراطية, ان يكون فى موقع يسار الحزب الوطنى الديمقراطى الذى كان يراسة الجادرجى ويعمل مع بقية الاحزاب دون ان يكون نرجسيا متفضلا عليهم. كانت هذه الدعاية الحزبية نوعا من الشسفرونيا التى عطلت العقل والعقلانية وساهمت الى حد كبير فى انفلات الصراع بين الكتل والمنظمات السياسية وتصبح لاحقا, وعلى مدى 70 عاما منهجا للنخب التى سيطرت على الحكم. وسؤالا اخيرا: لنفرض ان النظام الملكى ما زال مستمرا فى ظل الاستعمار الانكليزى وعضو فى حلف بغداد مثل تركيا وباكستان وايران, هل كان يمكن ان تصيبه الفواجع والكوارث كالتى نعيشها الان منذ تموز 1967. لقد تعاونت تركيا بشكل جدى مع الغرب وفتحت البلاد لارساء قواعد عسكرية واصبحت لاحقا عضوا فى حلف الناتو, انظرو الى تركيا اليوم , دولة زراعية صناعية وسياحية وتعليم وخدمات صحية وتطور على مختلف الاصعدة ودولة اقليمية قوية. هل ان تركيا منقوصة السيادة, كما هو حال العراق!! ولماذا تحزمت نخبة المحاصصة بترحيل قوات الاحتلال بحجة عدم تكامل السيادة وعقدت معه اتفاقية عسكرية كان هو بامس الحاجة لها. كان على قوات الاحتلال ان تبقى فى العراق وتتحمل مسؤلية امن البلد الذى قامت باحتلاله, وهناك التزامات اخرى تفرضها قوانين الحرب والامم المتحدة. هل ان سيادتنا مكتملة الان بالرغم من وجود قوات تركية محتلة فى الشمال ووجود قوات ايرانية ايضا. ان “ثورة تموز” كانت سابقة لاوانها لاكثر من ثلاثة عقود وخروج قوات الاحتلال الامريكية لم يكن فى مصلحة العراق ايضا. ما زلنا بأمس الحاجه لتقييم سياستنا مع اغرب والشرقمن خلال التجارب التى عشنا بمراره كبيره معها, الان الاوان ان ندرك قوانا وقدراتنا الذاتيه فى خضم الصراعات العالميهونضع معايير جديه للسياده. اذا كانت القواعد الامريكيه فى كوريا وتركيه والمانيا مؤشرات لنكوص السياده, لماذا تقدم هذه الدول امتيازات جديده للقواعد الامريكيه التى تنوى الانتقال الى بولونيا مثلا. ان القضيه ليست نكوص السياده, وانما بالنخب التى لاتجيد غير الكذب والسرقه والاحتيال وهم على علم بانهم عالميا غير محترمون ولايملكون القرار.
ما زال الزعيم عبد الكريم قاسم يحتل مساحة واسعة فى وجدان العراقيين, خاصة لاخلاصه فى خدمة الدولة والشعب وامانته المطلقة على المال العام, خزينة الدولة,وعاش متواضعا بسيطا يقدم العون والمساعدة لكل من يطلبها منه. فى الحقيقة ان قصصا وروايات واحداث اخذت تروى حول الزعيم التى ترتقى به الى مصاف العظماء والمصلحين, انه نموذج وطنى ايجابى وتراث عراقى يرقى الى مستوى اسد بابل والف ليله وليله ولا شك فان بؤس النخبة الحاكمة فى زمن البعث ودولة المحاصصة وسرقاتهم واحتيالاتهم يجدد الحنين والحاجة الماسة الى قيادات وطنية نزيهه.