اشتهر الشعب العراقي في حقبته الإسلامية تاريخياً، بأنه شعب صعب الإنقياد، لا يقبل الضيم، شديد النقد للولاة والحكام حتى شاعت هذه الظاهرة في الموروث الأدبي العربي والإسلامي عامةً فدرسها مفكرونا القدامى كالجاحظ في موازنة بين طبيعة أهل العراق وأهل الشام آنذاك. وحتى شخصية كبيرة مثل الإمام علي بن أبي طالب اشتهر بالشكوى منهم. وشاعت في أدب المرويات النبوية في مرويات البلدان أحاديث مزيفة عن العراق وأهله تكشف عن (اصالة الخروج) أي الثورة والخروج على الولاة والحكام بين العراقيين. حتى شاعت عبارة عبد الله بن الزبير المنسوبة غلطاً تارة للحجاج وتارة للإمام علي بن ابي طالب (أهل العراق أهل الشقاق والنفاق)- استعارها الحجاب من ابن الزبير- وهي عبارة تُضمر الحس النقدي والثوري العميق الذي أمتاز به اسلافنا آنذاك. بل واشتهروا بأساليب نقدية تهكمية ساخرة تتندر من الولاة بإضفاء الألقاب عليهم حتى أن مصعب بن الزبير -لما استولى على العراق- كان أول (بيان زبيري) يُعلنه: ( إنكم قد لهجتم بتلقيب أمرائكم فلقَّبَوني الجزار. فوالله ما بلغني عن أحدٍ منكم لقب لي إلا ونحرته كما ينحر الجَزُور). واستمرت الروح والطبيعة العراقية بهذه المواصفات (الخارجية=الثورية) إلى أن كُسرت شكيمتهم وأُخصووا بدخول المغول؛ الإنتكاسة التي كسرت الذات العراقية وجرحتها وهشمت كل عنفوانها وقدرتها ولم تستطع النهوض بعدها أبداً! حتى أشتهرت كلمات الفجيعة التي قالها المؤرخ ابن الأثير: (لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فياليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا). فتحكم برقاب العراقيين المغول والممالك والإيلخانيين والعثمانيين وساموهم سوم العذاب وجلدوا ظهورهم وهم صامتون خانعين كالعبيد، لا يلهجون بشئ ولا يتذمرون ولا ينقدون لعمق الإنكسار الذي اصابهم فرتسخت (عقدة الخصاء العراقية) هذه عبر القرون. ولم ينجح أحدٌ في معالجتها أو البدء بعلاجها سريرياً إلا نازلة (ثورة شعبان) فحتى ثورة العشرين لم تكن ثورة ضد طاغية محلي يتجرأ العراقي على رفضه! بل كانت ثورة (طاعة) للفقيه وشيخ القبيلة أمام (غزٍ أجنبي/ فرنجي). فبإستثناء (ثورة الشعبان) التي إمتازت بأنها (صرخة الذات العراقية) ضد الطغيان والعبودية والخنوع والذل لا نجد اي وقائع ثورية حقيقة كانت بهذه المواصفات الشعبية النابعة من (الأعماق العراقية)- بحسب مفاهيم علم نفس الأعماق- فمنذ تلك الثورة المباركة و(عقدة الخصاء العراقية) المزمنة والممتدة منذ عام 1258م (أجتياح المغول) وحتى عام 1991 عام الثورة الشعبية الشعبانية والعراقي (كائن مخصي) ولكن بعدها بدأ يستعيد (قابلية الإخصاب) و(الفحولة الرمزية) ليعلن ويصرخ ويقول: (لا). أليس من المعيب أن تُعامل (نازلة) بهذه الأهمية التاريخية و(النفس- جماهيرية) العلاجية للذات الوطنية بكل هذا الإستخفاف والتهوين وبخس الحقوق؟ ثم يرينا الدهر عجباً بـ(مؤسسة) لا حاجة للعراقيين بها باسم (السجناء) نحن العراقيين نعلم أن الإنسان كان يرمى في السجن لمجرد أنه يصلي أو لمجرد أن يقرأ راس المال لماركس أو اقتصادنا لمحمد باقر الصدر ! فلمَ يُغمر الإخوة السجناء (لأسباب طغيانية بحتة وليس لنضالهم السياسي المزعوم) بكل هذه الكرم الحكومي والإعلامي ويتم اغفال ذكر والتعمية على نأزلة ثورة شعبان التاريخية؟ لمصلحة من كل ذلك؟ لمَ هذا الخوف الشديد والرعب من الإعتراف بها وبشرعيتها وبشرعية حقوق ثوارها؟ هل هي الخشية من معرفة الفرق: بين من وقف بوجه الطائرة والدبابة الصدامية بغطاء جوي أمريكي وضوء أخضر علني لسحقها بكل عنف وقوة وبين من جاء على ظهر (دبابة أمريكية) كانت شريكة في سحق الثائر العراقي في شعبان؟
ملحوظة: كتبتُ هذه الأسطر، بعد أن قرأت، مدى الإستخفاف بمشاعر الشعب العراقي، بإعادة تأهيل رفاق حزب البعث الفاشي وسافاحي فدائيو صدام القتلة، في بنية العراق الجديد حكومياً مع توفير (خاوة مالية) بعنوان إمتيازات وحقوق وغير ذلك، في حين من ثار ضد حزب البعث النازي وشُرد في أقطار الدنيا من ثوار رفحاء لا (بواكي لهم).