يبدو ان الكتل والاحزاب والمليشيات المسلحة الحاكمة في العراق، لم تستوعب بعد طبيعة ثورة تشرين العظيمة، ففي الوقت الذي شملت فيه هذه الثورة معظم المدن العراقية، واشتركت فيها جميع فئات الشعب، اضافة الى كافة النقابات المهنية والعمالية والجمعيات الفلاحية وطلاب المدارس والجامعات والوف النساء، ما زالت هذه الكتل والاحزاب تتعامل معها على انها شبيهة بالتظاهرات المحدودة او المناطقية، والتي تمكنت من انهائها، اما بالتحايل عليها بوعود وردية وبعض الاصلاحات الشكلية، او بالصاق تهم باطلة تبرر لها استخدام القوة العسكرية. وكان اخرها انهاء انتفاضة البصرة التي راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى. بل انها ما زالت ترى ان هذه الثورة ذات مطالب خدمية، تخص توفير بعض متطلبات الحياة الضرورية كالماء والكهرباء، في حين تحصن الثوار في جميع الساحات بشعارات سياسية غاية في الاهمية، في مقدمتها “الشعب يريد اسقاط النظام” او “نريد وطن من دونكم”.
وفق هذا السياق، فان هذه الطغمة الفاسدة لن تتخلى عن اساليبها القمعية لانهاء الثورة، على الرغم من الفشل الذي واجهته في ساحات التحرير والخلاني والسنك، وكذلك في مدينة الناصرية والعمارة والديوانية والبصرة وكربلاء والنجف وبابل. حيث صمد الثوار بصدورهم العارية امام القوة العسكرية والرصاص الحي الذي استشهد فيها المئات وجرح الالاف. وهذا ما يفسر اصرار هذه الطغمة على تشكيل حكومة من داخلها، او من شخصيات مستقلة تدور في فلكها، لتبقى ممسكة بالسلطة وادواتها القمعية وقواتها العسكرية. وبالتالي لا نستبعد لجوء هذه الطغمة الى الحل الامني، على حد تعبيرهم، واكتساح ساحات التحرير بالقوة لانهاء هذه الثورة العظيمة، خاصة وانها تلقى الدعم والتاييد من امريكا وايران، اللتين تخشيان مجيء حكومة وطنية من رحم ساحات التحرير، تنهي نفوذهما في العراق، وربما في عموم المنطقة. في حين كان من المفترض على هذه الطغمة الاستسلام للامر الواقع والاستجابة لمطالب الثوار، وافساح المجال امامهم لتشكيل حكومة وطنية مستقلة، بديلة لحكومة عادل عبد المهدي المستقيلة، تتمكن من انقاذ العراق من محنته التي طال امدها، والنهوض به من جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والامنية والتعليمية والثقافية.
هذه الثورة وهي تدخل شهرها الثالث، تواصل نشاطاتها السلمية لاسقاط هذه العملية السياسية برمتها، من حكومة فاسدة وبرلمان مزور ودستور ملغوم وقضاء مسيس ومؤسسات محاصصة طائفية وعرقية، ومليشيات مسلحة. الامر الذي بات يهدد السلطة بالانهيار الكامل، او هروبها خارج العراق خشية من زحف الثوار الى المنطقة الخضراء من جميع المدن العراقية. اما خارطة الطريق للثوار، فقد ترجمتها مطالبهم التي كتبت بجميع اللغات. فمنها ما تحقق مثل اسقاط الحكومة، والموافقة على تعديل قانون الانتخابات جزئيا، وذلك باعتماد الدوائر
المتعددة والترشيح الفردي، واعتبار الفائز هو صاحب الأصوات الأعلى، ومنها ما زال يراوح مكانه مثل تشكيل مفوضية انتخابات مستقلة بعيدة عن المحاصصة الطائفية لمنع عمليات التزوير، او بيع صناديق الاقتراع او حرقها، بدل تشكيل هيئة مزورة من القضاة بالقرعة، ومنها ما لم يتحقق بعد مثل اجراء انتخابات مبكرة باشراف الامم المتحدة، ومنع جميع الاحزاب والكتل الطائفية والعنصرية والارهابية من الاشتراك فيها، وخاصة تلك التي شاركت في العملية السياسية منذ الاحتلال وحتى يومنا الحاضر. لكن يبقى الهدف المركزي قائما، وهو رحيل هؤلاء الاشرار وتشكيل الحكومة الوطنية المستقلة والكفوءة، التي يتم في ظلها تحقيق مطالب الثورة دون استثاء. اذ بدون تحقيق هذا الانجاز سيعيد هؤلاء الاشرار انتاج انفسهم في سدة السلطة.
البعض يشيع ويروج وينصح بحقن الدماء، ويطالب الثوارالقبول بانصاف الحلول، بمنح فرصة جديدة الى الحكومة المرتقبة لمعالجة افات الفساد المالي والاداري، وانهاء المحاصصة الطائفية، وحصر السلاح بيد الدولة وحل المليشيات المسلحة وانهاء الامتيازات والمحسوبية. لكن هؤلاء قد نسيوا او تناسوا بان مثل هذه الوعود فقدت مصداقيتها، جراء التنصل عنها من قبل جميع الحكومات السابقة. بل سبق لمثل هذه الوعود ان وظفت لخدمة محاولات الالتفاف على مطالب الثوار ودماء الشهداء. اذ كيف يمكن تنفيذ مشروع اصلاحي، في ظل عملية سياسية طائفية، وفي ظل احزاب وكتل فاسدة ومليشيات مسلحة وقضاء مرتشي؟ ثم كيف يمكن سن قوانين او تعديل دستور يتعاكس مع مصالحهم او يحد من وجودهم اصلا في سدة الحكم؟ ثم اين كان هؤلاء قبل ثورة تشرين العظيمة؟ ثم هل هذه هي المرة الاولى او الثانية او الثالثة او العاشرة التي يتخلى فيها هؤلاء الاشرار عن وعودهم؟
دعونا نسترسل اكثر، فاية حكومة سواء كانت وطنية مستقلة، او حكومة تكنوقراط او ذات كفاءة واختصاص، لن تستطيع تحقيق اي مشروع اصلاحي في ظل هيمنة الاجندات الاجنبية وادواتها المحلية المتخمة بالسلاح، فالحكومات مشروطة بوطنيتها بوجود دولة مستقلة ذات سيادة، ارضا وجوا ومياها وحدودا اقليمية، لتكون قادرة على اتخاذ قرارات لا مرجعية لها غير المصالح الوطنية، والتحصن ضد التدخلات الاجنبية، وخاصة من قبل امريكا وايران اللتين تعملان على تدمير العراق دولة ومجتمعا. ان مثل هذه المواصفات وكما هو معلوم للجميع غير متوفرة حاليا في العراق، يضاف الى ذلك وجود العراق في ذيل قائمة الدول الفاشلة، كون حكومته فقدت سلطتها على ترابها الوطني وعلى تامين حدودها وتفشي الفساد الاداري والمالي في اجهزتها ومؤسساتها وغياب النظم القضائية مقرونة باختلالات بنوية وركود اقتصادي وانهيار قيمة النقد الوطني. ناهيك عن الصراعات الدينية والعرقية بين الكتل والاحزاب الحاكمة التي تهدد الوحدة الوطنية وهجرة السكان ونزوحهم في الداخل من منطقة الى اخرى.
اما التهديد بالفراغ الدستوري وغياب الدولة والمؤسسات، اذا اصر الثوار على رفض اية حكومة يتم تشكيلها من قبل الاحزاب الحاكمة، الامر الذي قد يؤدي الى
الفوضى واحتمالات الحرب الاهلية، فهذا يدخل في باب الابتزاز والارهاب السياسي، الذي تعودت الكتل والاحزاب الطائفية على استخدامه كلما وجدت نفسها في مازق. فهذه ليست المرة الاولى التي تمارس الحكومة المستقيلة او المنحلة تصريف الاعمال، سواء ضمن الفترة الزمنية التي حددها الدستور بثلاثين يوما بموجب المادة 61، او وفق الفقرة السابعة التي تسمح بهذه الطريقة او تلك ان تكون المدة مفتوحة وفقا لاحكام المادة 76 من هذا الدستور. وخير دليل على ذلك عدم حدوث فراغ دستوري مدة ثمانية اشهر، وعلى وجه التحديد ما بين شهر اذار تاريخ تكليف نوري المالكي بتشكيل الحكومة بعد انتخابات سنة 2010 الى شهر تشرين الثاني من نفس السنة. حيث مارست فيها الحكومة المنتهية تصريف اعمال الدولة دون اية مشاكل ذات قيمة، او تميزت في خطورتها عن المشاكل التي كانت قائمة قبل الانتخابات. وفي كل الاحوال فان الخشية من الفراغ الدستوري وفقدان الحكومة سلطتها المركزية المحددة، السماح لقوى اخرى بملء الفراغ، مثل المليشيات المسلحة او المجموعات الارهابية المنظمة، فان العراق يعيش في هذا الفراغ منذ الاحتلال ولحد يومنا الحاضر. وان من يحكم العراق فعلا هي ذات المليشيات التي يخشى منها. بل ان هذه المليشيات قد تغولت بعد انسحاب القوات الامريكية من المدن العراقية قبل ثمان سنوات، وتمركزها في قواعد حصينة في طول البلاد وعرضها؟
نعم الثورة في طريقها الى الانتصار لتوفر جميع عناصر القوة فيها، من قيادة وتنظيم وادارة والية عمل وارادة فولاذية، الى جانب بروزها كثورة وطنية تحظى بتاييد عموم الشعب العراقي واسناده في جميع ساحات التحرير والاعتصمات. يقابلها استمرار السلطة في غطرستها وعنجهيتها، وفسادها وسرقتها لاموال الدولة والعبث بشؤون البلاد والعباد. حتى بات الدفاع عنها من قبل ازلامها واقلامها الماجورة امرا صعبا ومخجلا.
ان هذه الثورة التي خرجت من رحم شعب عظيم له مواقف مشهودة في مقاومة الظلم والطغيان والدول المحتلة، لم تات من فراغ او مقطوعة الجذور عن ماضيها المشرف، رغم القفزة النوعية التي حققتها. ومثل هذه الثورة وبهذه المواصفات لابد لها من تحقيق نصرها النهائي عاجلا وليس اجلا. خاصة وان الثوار قد اثبتوا قدرتهم على الصمود واستعدادهم للتضحية والفداء واعلانهم شعارا في جميع ساحات التحرير، يقول للذين يهددون باستخدام القوة، ستجدون الف ثائر في الامام والفا اخر ينتظر.