لعل الصبر قد نفذ، وبدأت جموع المتظاهرين، تزيح عن عيونها وقلبها الكمية المتبقية من الحلم والرزانة والصبر. مسلسل التظاهرات، الذي ضرب محافظات العراق، بادرة جيدة وخطيرة تنذر له لبداية مرحلة جديدة، من الإصرار والقوة لتحديد القرارات ورسم المواجهة الحقيقة بين الجموع والطبقة الحاكمة. واضعف الإيمان في هذا، هو إثبات الوجود وعدم الرضوخ القاتل، حول ما يجري في البلاد. اثنا عشرة عاماً، من الضياع والتراجع الى المربع الأول.
الكهرباء وسوف نطلق عليها اسم ” ثورة الكهرباء”، ان صح التعبير. فما يجري من هيجان شعبي وتظاهر منظم، لا يعني هذا عمل ارتجالي قط، بل مدروس ومنظم بصورة أن كانت بسيطة. رغم التصاق ملف الكهرباء بالصورة، الا ان لم تكن هذه الخدمة فقط، هي المقصودة. بل هي الشرارة، الذي ينطلق منه المتظاهرون. هذه الثورة هي انقلاب على الواقع ومحاولة لتغيير النتائج. كثيرة هي الأسباب، الفساد، والتدهور الأمني، والمحاصصة، وارتفاع نسبة الأثرياء على حساب الجماهير المستضعفة، اي نستطيع ان نرسم أيدلوجيتها بأنها، ثورة برجوازية على الرأسمالية والإقطاع!.
المجتمع المدني هو نواة هذه الحراك، وهذا التحول الخطير الذي نقصد به. المجتمع المدني وجد ليكون قيادة وسطية، ومساندة للنشاط السياسي، وملئ الفراغ الحاصل بينهما، وهذا ما عملت عليه قوى الناشطون، منذ ولادة المجتمع المدني في العراق. حيث المبادرات المدنية والنشطات كانت هي شريان الحياة النابض للمواطن، بعيدا عن البرنامج الحكومي طيلة السنوات الماضية.
اليوم وفي بادرة غير مسبوقة، رأت القوى المدنية. مبدأ المساندة لم تنفع شيئا، بل حان الآن تبادل الأدوار بين المدنيون والسياسيون، لما تمتلكه هذه القوى من كفاءات ورجالات مستعدة لتقديم الأفضل. مثقفون وفنانون وأدباء وأكاديميون نزلوا الشارع بحالة أشبه بالهستريا, دون سابق إنذار، بل سبقها الضغط ومرارة العيش وتأخر عجلة الحياة.
السؤال هنا، هل سيتمر المجتمع المدني بتحريك نفسه وقيادته، الى النتيجة المقصودة؟ ام يصطدم به الانتماء السياسي؟ الايدولوجيا التي يمضي بها المجتمع المدني، وخصوصا في العراق، هي “مسيسه”. وان كان مستقلا، لكن صعود المنظمة المدنية، دون دعم السياسي لها شي من ضروب الخيال. لذا سوف ينتج انقسام نوعي وفكري، بين المطالبين والمتظاهرين. ونقصد هنا بين ” الناشطون ذو النزعة السياسية” والناشطون الخيريين” الذي يعملون بالمدنية، لإنتاج حكومة أكثر تطوراً ملائمة لطموحاتهم. ناشطون يرون الحزب الفلاني هو الأفضل، وآخرون يرون غير ذلك. وهنا تكمن صعوبة انتصار الرأي, بين تفريق الرؤى والحلول.
المخاوف تكمن في النتائج. إذا تحول المجتمع المدني إلى مجتمع سياسي، وترك المدنية وتحولها الى السياسة، ستكون فجوة كبيرة في المستقبل حول مصير الاثنين. فلم ينجح تبادل الأدوار بقدر تحديد الأدوار. المدنيون والناشطون، لابد من بقاءهم بالدور الرقابي على النشاط السياسي، وذلك من خلال خلق قيادات ناضجة وواعية، تعي مبدأ الحقوق والمراقبة. أما إذا تدنى النشاط المدني وتحول الى سياسي فسيسقط في فخ ” السلطوية”. وسيرى نفسه قد أسمك بالراية المقطعة والمكسورة ” الحكم” ولم يستطيع النهوض الا بعد سنوات.
ما نحتاجه الآن، هو تكوين جيل سياسي قادم، يمكنه من إدارة الملفات بصورة متزنة وبمهنيه عاليه. فالقائمين في الساحة السياسية نضب نتاجهم، والتعويل باقِ على رجالات المستقبل القريب.