23 ديسمبر، 2024 2:39 ص

ثورة الفكر العالمية – الحلقة الثالثة

ثورة الفكر العالمية – الحلقة الثالثة

الدولة الفاطمية كانت من اكبر دول العلويين وأكثرها عمارة وعلما . انتشرت دعوتها بين العرب في شبه الجزيرة العربية ، ثم بين قبائل البربر في افريقيا لا سيما قبيلة كتامة التي كانت درع هذه الدولة وعقيدة التشيع في افريقيا . ومن لم يكن مع هذه الدولة لم يكن ضدها في الغالب . لذلك اضطر العباسيون ان يحاربوا هذه الدولة بالأتراك بقيادة سبكتكين ومؤنس الخادم ، بعد ان بلغت حدودها كل شمال افريقيا وأهمها مصر . وهو نفس الخطأ الذي سترتكبه دولة ال بويه لمعالجة الانشقاقات الداخلية[1] . ومن كتامة كان بنو عمار في الشام لاسيما لبنان , حيث كان اليهم حكم وقضاء طرابلس الشام , وكانت لهم مكتبة تربو على المائة الف كتاب حرقها الصليبيون بعد ان استنجد بنو عمار ببغداد في عهد السلجوقية ولم تنجدهم[2] .

وفيما كان خصوم الفاطميين مثل الخارجي ذي الحمار ابي يزيد مخلد بن كيراد حليف بني امية في الأندلس يستبيحون المدن ويعيثون فيها خراباً ويجيزون الغدر ، كان الفاطميّون يعمرون البلدان ويؤسسون المدن الجديدة والجامعات . حتى ان الفاطميين حين ظفروا بحرم وعيال ابي يزيد ذي الحمار في القيروان وقد هرب هو امنوهم وأجروا عليهم الرزق ، الا انه عاد يقاتلهم ، وعياله بين يدي الفاطميين مكرمون ، ثم ان ذَا الحمار تعهد بوقف القتال وطلب اليهم إرسال حرمه وعياله ، ففعلوا ، لكنه حين وصلت عياله نكث العهد وغدر بهم[3] .

وقد حاول بعض كتاب السلطان ربط دولة الفاطميين بالقرامطة ، لكنّ الواقع إنهما لم تكونا كذلك قطعاً ، فقد حارب الفاطميّون القرامطة وطردوهم من الشام ومحيطها . وقد تعاونت قبائل طيء وعقيل مع الفاطميين في هزيمة القرامطة حينئذ ، رغم ان طيء الشام قاتلت الدولة الفاطمية فترة ، الا انها لم تباين الطالبيين فقد بايعت الشريف أبا الفتوح احمد بن جعفر امير مكة ، ثم عادت لتبايع الحاكم الفاطمي[4] ، إذ غلب على ذلك الزمان الصراع على النفوذ والملك في كثير من الأحيان . بل كان القرامطة حلفاء الأتراك في نصرة أهل السنة في دمشق ضد عقيدة التشيع الفاطمية[5] . حتى ان الخليفة الفاطمي اصدر كتاباً شديداً بلعنهم وتجريم افعالهم[6] . وقد كان القرامطة يلجؤون الى بعض بني القليص بن كلب بن وبرة في السماوة تحت شعار الانتماء لأهل البيت حتى قضى عليهم الشيعة الشيبانيون بقيادة بني حمدان وقد استعانت بهم الخلافة[7] .

لم يكن القرامطة سوى مجاميع من الموالي والاعراب الفوضويين في الفكر ، قاتلهم الشيعة من طيء وتغلب وشيبان وبني حمدان ، حتى ان القرامطة اسروا أبا الهيجاء بن حمدان والد سيف الدولة في طريقه الى الحج وقتلوا الحاج[8]. وكان ال الجراح من طيء أمراء قبائل الشام . وقد اصطف شيعة العراق خلف احمد بن محمد الطائي الذي كان على الكوفة لقتال القرامطة بعد ان طلبوا مناظرتهم ، فتم قتل هؤلاء القرامطة وابادتهم . فهرب قرمط ولم يجبه على دعوته الا الاعراب الجنابيون من قبيلة كلب . وكان بنو ثعلب وبنو عقيل من عرب البحرين في مد وجزر مع القرامطة حتى أبادوهم لاحقاً وغلبوا على البلاد . بل ان العرب الذين كانوا الى جانب القرامطة انهزموا لصالح المعز الفاطمي فكسروا جيش القرامطة حين حاصر مصر ، مما يكشف ان هذا الجيش تأسس على قاعدة من الموالي ومجموعة من الاعراب . وقد كانت قوة القرامطة ناشئة عن الاعراب الذين معهم ، وبعض من لا ركيزة حضارية له ، حتى ان بني ضبة الاعراب بين البصرة وهجر الذين كانوا في جيش العباسيين الذي خرج لقتال القرامطة انهزموا لصالح هؤلاء القرامطة وكسروا جيش العباسيين ، وبنو ضبة هم من كانوا حول السيدة عائشة يقاتلون علي بن ابي طالب في معركة الجمل ، الامر الذي يثبت انهم ظلوا بلا عقل هاد .

ان تحالف الأتراك والقرامطة ضد الفاطميين يثبت ان القضية برمتها كانت نزاعاً على الملك ، لا سيما ان هؤلاء الترك كانوا في الأصل من موالي بني بويه الشيعة الإمامية الذين حاربوا القرامطة[9] . وقد حصر القرامطة في حدود الأحساء الضيقة كدولة ، لما رفضته الناس من عقيدتهم رغم سيفهم ، كما حُصر جيرانهم الخوارج في عُمان ، وقد كانوا قريبين الى بعض ، يقاتلهم الشيعة من بني بويه جميعا[10] . فيما تم ارجاع الحجر الأسود من يد القرامطة عام 323 ه على يد الشريف العلوي عمر بن يحيى احد ذرية زيد الشهيد[11] .

وقد كانت هذه الدولة – رغم سطوتها وقدرتها العسكرية – تحترم بشدة عقائد الناس وان اختلفوا عن عقيدة السلطان الفاطمي ، وهذا واضح من اوامرها الرسمية التي تحرّم التعرض للمخالفين بسوء ، ومنها رسالة الخليفة الحاكم التي قرئت على المنابر ، رغم ما اشاعه عنها خصومها من اشاعات مضطربة خلاف ذلك[12] .

وقد عمد دعاة الفاطميين من العرب الى بث دعوة التشيع لعلي بن ابي طالب في دمشق الشام ، حتى جاء الأتراك – بقيادة افتكين الذي غدر بالبويهيين ونكث العهد معهم – واخرجوا الدعاة العرب منها وأعادوا الخطبة للعباسيين فيها .

ان الدولة العباسية لم تكن عملياً قائمة على الأرض سوى في بغداد ، اذ كانت الخطبة في افريقيا والشام والمدينة ومكة للفاطميين . وبهذا كانت دولة الفاطميين اكبر واقوى من الدولة العباسية ، الا ان كتبة التاريخ الرسمي تعمدوا إغفالها بسبب عقيدتها[13] .

لقد وقع على عاتق الدولة الفاطمية جهاد الفرنجة الأوربيين في بلاد الشام ، بعد ان اخذها هؤلاء الفرنجة من يد الترك السلاجقة ولاة العباسيين عليها ، والذين انهزموا سريعا ، وأبوا لاحقاً إجابة دعوة العباسيين لهم للجهاد ضد الغزاة ، حتى ان بعض أمراء السلاجقة صار في جيوش الأوربيين ، لذلك انفرد الفاطميّون بمعارك الجهاد هذه وحدهم ، اذ هم قد غزوا الأراضي الأوربية نفسها سابقا[14] .

ورغم سلطان التشيع في المغرب الإسلامي وافريقيا الا انه انكسر لأسباب ثلاث لاحقا ، بعد هذه البلاد عن العمق الحضاري التاريخي الارتكازي في العراق ، وشدة ضربات السلطان الرسمية على هذه البلدان بسبب عقيدة أهلها المخالفة للدولة العباسية في الشرق وللدولة الأموية في الغرب ، وكذلك هجرة القبائل التي كانت تمثل الحاضنة الفكرية لعقيدة التشيع من افريقيا الى الشام لأسباب سياسية . فقد انشغل المغاربة بقيادة ابن الشيخ بمعونة بني عقيل في قتال الأتراك والقرامطة في الشام والجزيرة بقيادة افتكين ، حتى قتل منهم خلق كثير[15] . وكما هو واضح من ولاية قبيلة كتامة على حلب بعد زمن الحاكم الفاطمي بقيادة شعبان الكتامي[16] .

ان الدعة التي يصنعها الملك هي التي نقضت دولة الفاطميين ، حتى أوصلت الامر الى تحكّم النساء في مقدراتها . وهذا حال كل من يتخلى عن حرارة العقيدة ويسوس ببرودة الدنيا . ويكشف عن الحاجة الى القيادة المعصومة على قمة السلطة ، والتي لا تستزلها الدعة والركون الى الدنيا او الخلود الى الأرض ، وهذا لم يكن الا في عقيدة الشيعة الأمامية ، بخلاف التشيع الإسماعيلي الذي كان عليه الفاطميّون ، فهم رغم كوّن دولتهم الأفضل والأنبل مع الخصوم ، الا انها انتهت الى الحكم الدنيوي الذي كان بحاجة الى حرارة عقائدية لاستنقاذ سلطانه . لكنّ الغريب ان يفعل اخر خلفاء الفاطميين ما فعله أواخر خلفاء العباسيين من استجلاب الأتراك اعزازاً لدولتهم ، الامر الذي كسر الدولتين معاً لاحقا . لكن يبدو واضحاً ان الأتراك والغز كانوا عموماً سبب اضطراب كل الممالك والعقائد الإسلامية .

حتى ان الفاطميين – في حركة جاهلة – افرجوا لعدو عقيدتهم المعز بن باديس عن افريقيا ، من خلال نقلهم قبيلة كتامة حاضنة عقيدتهم الى الشام لمواجهة الترك . فاستعان ابن باديس بكل قبائل الاعراب البدوية من العرب والبربر ، والتي لا تفقه سوى النهب والتخريب كما روى ابن خلدون ، فكسر شوكة دولة الفاطميين سياسياً بمعونة هؤلاء الاعراب ، وعقائدياً بعد ان لم يجد من يصده فكريا . حتى انتقضت الإمارات في اسيا وافريقيا عن سلطان الفاطميين .

 

[1] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 584

[2] اعيان الشيعة \ دار التعارف \ ج 1 \ ص 193

[3] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٤٩ – ٥٥

[4] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٧٢ – ٧٣

[5] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٦٦

[6] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٢٩

[7] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 401 – 402

[8] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٢٨

[9] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١١٠ – ١١٨

[10] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٢٠

[11] اعيان الشيعة \ ج 1 \ ص 537

[12] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٧٦

[13] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٦٢ – ٦٥

[14] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٨٥ – ٨٨

[15] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٦٦

[16] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٧٨