في 30 حزيران 1920 وبعد ما يقارب من ثلاث سنوات على الإحتلال البريطاني للعراق في آذار 1917 بقيادة الجنرال مود وتصريحه الشهير” جئنا محررين لافاتحين” انتفض شعب العراق من شماله إلى جنوبه بثورة وطنية عارمة زلزلت أركان قوة المحتل البريطاني للعراق وأربكت كل خططه التي كان قد أعدها للعراق الجديد تحت سلطة الإحتلال، ولم يكن يخطر ببال الساسة البريطانيين وحكامه العسكريين، أن تقوم ثورة تحررية في العراق بمستوى ثورة العشرين التي قال عنها شيخ المؤرخين العلامة علي الوردي ” لم تكن مفاهيم الوطنية والاستقلال وأمثالها مألوفة لدى العراقيين في الماضي، غير انها اصبحت متداولة بينهم في اثناء ثورة العشرين يلهجون لها ويهتفون بها، من الممكن اعتبار ثورة العشرين المدرسة الشعبية الأولى التي علمت العراقيين تلك المفاهيم، وكانت البداية للوعي الوطني الذي أخذ ينمو بعد ذلك بمرور الأيام” لقد استطاعت القيادات الوطنية والدينية من تجاوز عقدة الجهل والتخلف التي كانت تطبق على العراقيين جراء ماعانوه من قرون من سياسة الذل والاستبداد والحرمان الذي مارسته الدولة العثمانية في العراق، حوّلت العراق إلى لقمة سائغة في براثن المحتل البريطاني، وأيضاً سجلت الحركة الوطنية العراقية الناشئة في بداية القرن المنصرم في بغداد وبعض مناطق العراق في شماله ووسطه وجنوبه، حضوراً لافتاً للإنتباه استغل الفسحة التي وفرها الانتقال بين مرحلتين مهمتين هما مرحلة الدولة العثماني والاحتلال البريطاني، فنشطت الحركة الوطنية مستغلة بعض الصحف المحلية والمناسبات الدينية وكذلك علاقتها الجيدة بالرموز الدينية التي كانت تمثل الطوائف العراقية المنسجمة آنذاك، كالعلامة الميرزا محمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الاصفهاني وغيرهم من رجال الدين البارزين.
أولاً لابد من مطالعة الاسباب التي قادت الى ثورة العشرين، والتي هي في مجملها امتداد للأسباب التي أوجدها الاحتلال العثماني للعراق، من جهل وتخلف وأمراض وبطالة وتخلف وعدم اهتمام من الحكام للواقع العراقي ومتطلباته اليومية، وكان من تأثير تلك السياسات الفاشلة أن وصل العراق إلى أدنى مستوى سكاني له في تأريخه الحديث، كما يذكر ذلك الدكتور محمد سلمان حسن في بحث قيَّم نشره معهد الاحصاء في جامعة أكسفورد ذكر فيه إن نسبة السكان العراقيين قد بلغت في العام 1867 المليون وربع إلا قليلاً ، تقسمت على فئات سكانية ثلاث هي القبائل البدوية بنسبة 35% من سكان العراق، القبائل الريفية 41% من سكان العراق، واهل المدن بنسبة 24% من سكان العراق، وهي بيانات تظهر عمق التباين السكاني وتردي سوء أحواله المعيشية بالنسبة لبلد يعتبر من البلدان الحضرية على مرّ التأريخ، ومن الأحواض المهمة والرئيسية في انتاج الغلات الزراعية، لكن ماحصل خلال فترة العهد العثماني شهد تراجعاً كبيرا على كل المستويات، حتى إن العثمانين حين غادروا العراق مجبرين أمام قوة بريطانيا بترسانة أسلحتها الحديثة وجنودها المدربين واسطولها البحري والجوي لم تترك ورائها في بغداد غير ما يقارب الخمسين متعلماً للقراءة والكتابة، كما يذكر السفير الروسي في العرق في مذكراته، وكان العراق خلال العهد العثماني يتعرض
للأوبئة والأمراض الفتاكة والفيضانات لعدم وجود أي ظروف صحية أو بنى تحتية تساهم في تطوير ثرواته الطبيعية وحمايتها من الظروف الطبيعية، وكان من نتيجة ذلك أن تركت الجيوش العثمانية العراق وانسحبت منه للبريطانيين وهو في أسوء حالاته، في بداية عهد الاحتلال البريطاني للعراق، انشغلت سلطة الاحتلال التي كان يمثلها الحاكم السياسي ويلسن بترتيب أوضاعها الداخلية وترسيخ أقدامها في العراق، من خلال جملة إجراءات وقوانين منها التضييق على الحركة الوطنية ومنع صدور الصحف المستقلة، وعدم الاستفادة من طبقة الأفندية والملائية في اشغال الوظائف العامة، واستعاضت عنهم بالاتراك والهنود واليهود لتضمن ولائهم لها، وقامت بزيادة الضرائب على المنتوجات العراقية البسيطة، كذلك اشاعت نظام الاقطاع في ريف العراق وقسمت الأراضي على شيوخ العشائر وحرمت الغالبية العظمى من الفلاحين من الاستفادة من الارض التي يعملون عليها وحولتهم إلى عبيد ومستأجرين لدى فئة قليلة من الشيوخ، الذي اثبتوا ولائهم للمحتل البريطاني، فكان من نتيجة ذلك أن بدأ التذمر يأخذ طريقة بين أوساط وشرائح المجتمع العراقي سواءا في بغداد أو غيرها من مدن وبلدات العراق، كما في الكاظمية والفرات الأوسط في النجف وكربلاء والديوانية والسماوة والموصل. وبدأ تظهر إلى العلن المطالبات بضرورة استقلال العراق وسيادته وانتخاب حاكم عراقي أو عربي لحكمه، ولقد استغلت الحركة الوطنية الفرصة المناسبة التي اتاحها الاستفتاء الذي قام به الحاكم البريطاني ولسن بايعاز من حكومته لاخذ رأي العراقيين بشكل الحكومة التي يرونها مناسبة لمستقبل العراق، ولقد كان جواب الشيخ عبدالواحد الحاج عسكر ممثلاً لعشائر الفرات الأوسط على سؤال الحاكم البريطاني: هل ترغبون بحكم بريطانيا أم تفضلون حكومة وطنية عربية؟ نريد حكومة عربية وطنية، وفي بغداد والكاظمية كان يتردد نفس الجواب، وهو ضرورة أن تكون للعراق حكومة وطنية بعيدة عن سلطة الإحتلال البريطاني، وبدل الإصغاء إلى مطالب العراقيين قابلت الحكومة البريطانية الموقف الوطني للعراقيين بحملات مطاردة واعتقالات ونفي لرموز الحركة الوطنية، متوهمة من انها بهذه الطريقة ستستطيع السيطرة على العراق، وكان رأي ولسن أن العراق يجب أن يحكم بقضة من حديد على غرار الطريقة المتبعة في ادارة الهند، وان العراقيين كغيرهم من البلدان المتخلفة، غير قادرين على حكم انفسهم بأنفسهم، وتناسى الدور المهم لرجال العشائر سواءا في شمال العراق أو في وسطه وجنوبه وكذلك الدور المهيمن لرجال الدين في المجتمع العراقي، وبعد عدة اجتماعات ومشاورات في بغداد وكربلاء والنجف والكاظمية، قام بها مجموعة من رموز الحركة الوطنية والدينية في العراق أمثال علوان الياسري وسيد نور الياسري ومحمد رضا الشيرازي وكاطع العوادي وجعفر ابو التمن والشيخ عبدالواحد الحاج سكر وعبدالكريم الجزائري ومحسن ابو طبيخ ومرزوك العواد وعبدالوهاب الوهاب وهبة الدين الشهرستاني ومحمد الصدر ومهدي الخالصي وعمر العلوان وغيرهم، في نيسان ومايس 1920 في كربلاء والنجف، مهدت لصدور الفتوى الدينية الشرعية لمرجع الطائفة الميرزا محمد تقي الشيرازي باعلان الجهاد المقدس ضد سلطة المحتل البريطاني : مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والامن ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الانكليز عن قبول مطالبهم.
وكان انطلاق شرارة الثورة من الرميثة في السماوة والتي جائت رداً على اعتقال الشيخ شعلان أبو الجون شيخ قبائل الظوالم، من قبل معاون الحاكم السياسي في الرميثة، والتي كانت السبب المباشر بإعلان الثورة والعصيان على السلطة البريطانية، وكان أول عمل قام به رجال العشائر الثائرين انهم قاموا بقتلاع خطوط السكة الحديد المارة بالرميثة، وأعلنوا الثورة رسميا في ذلك اليوم 30 حزيران 1920 وخاضوا مع القوات البريطانية معارك طاحنة كان من أشهرها “معركة العارضيات” التي أذهلت القادة البريطانيين من ناحية استعداد العشائر التي شاركت بتلك المعركة من البو حسان وبني ازيرج والظوالم، والتي كبدت البريطانيين خسائر فادحة في الأرواح والمعدات واجبرتهم على الانسحاب من بلدة الرميثة الى الديوانية، وانتقلت الثورة إلى باقي المحافظات والمدن والبلدات العراقية، وفي 11 تموز من نفس العام اجتمع رؤوساء قبائل المشخاب في مضيف الشيخ عبدالواحد الحاج سكر واعلنوا الثورة وقاموا بمحاصرة الحامية البريطانية في أبو صخير والاستيلاء عليها وكذلك مهاجمة الباخرة “فاير فلاي” واضطرارها الى الانسحاب الى الكوفة، حيث اشتركت عشائر آل فتلة وغزالات وآل شبل وآل ابراهيم في تلك الثورة، وانتشرت الثورة بعد ذلك إلى كل مناطق الفرات الأوسط في الكوفة وكربلاء والنجف والحلة والديوانية، وحقق الثوار انتصارات كبيرة في معارك بارزة تعتبر صفحات ناصعة من تأريخ العراق الحديث كما في “معركة الرارنجية” القريبة من الكفل في 24 تموز 1920 والتي قادها الشيخ عبدالواحد الحاج سكر ومرزوك العواد والتي وصفها الحاكم العسكري البريطاني هالدين “بالكارثة” لما تكبده الأنكليز من خسائر فادحة بلغت أكثر من نصف قواتهم المهاجمة في تلك الموقعة.
إن الملاحم البطولية التي سطرتها القبائل العراقية والثوار في كل المناطق التي شهدت الثورة كانت البداية الحقيقية للجهد الوطني الموحد الذي أرغم البريطانيين على الاستجابة لمطالب الحركة الوطنية بضرورة استقلال العراق وتشكيل حكومة وطنية وحاكم وطني أو عربي لقيادة العراق، وقد تحصل ذلك بعد تشكيل أول حكومة وطنية عراقية في العصر الحديث في تشرين 1920 رغم كل الإشكالات التي رافقت هذا التشكيل المشوه وكذلك تتويج فيصل ابن الشريف حسين ملكاً على العراق في 23 آب 1921 وانضمام العراق إلى عصبة الأمم المتحدة في العام 1932 ، ليتحقق للعراقيين الكثير مما طالبوا به وضحوا لأجله من خلال تلك الثورة المباركة.
اليوم نحن في العراق أحوج مانكون لثورة تكون بمستوى ثورة العشرين ورجالها وعشائرها ورموزها الوطنية والدينية، بعد أن أوصلت الطبقة السياسية الفاسدة وحكوماتها التابعة لمشاريع أمريكا وحلفائها في المنطقة، العراق إلى طريق مسدود من الاصلاح، وإعادة العراق إلى مكانته الطبيعية التي يستحقها، بل إن هذه الطبقة قد فرطت بكل سيادة العراق وثرواته، وساهمت في تمزيق مكوناته الاجتماعية ونسيجه الوطني، من خلال توجهاتها الطائفية والمناطقية، وتحويل مؤسسات الدولة ووزارتها إلى اقطاعيات حزبية وعشائرية، لم يشهد لها العراق في تأريخه الحديث من مثيل، نعم العراق اليوم بحاجة إلى ثورة كبرى عظيمة، تستلهم مبادئها من مباديء ثورة العشرين الوطنية التحررية، التي قامت لتخلص العراق من تبعيته لسلطة الاحتلال البريطاني، وتحق حقوقه وتعلن سيادته، فتحيَّة لرجال العراق أبطال ثورة
العشرين، عبدالواحد الحاج سكر، ومرزوك العواد، وكاطع العوادي، وشعلان ابو الجون،عبدالكريم الجزائري ومحد الصدر، ومحمد مهدي البصير، ووهاب عبدالوهاب، وجعفر ابو التمن، ويوسف السويدي، وقبائل آل فتلة وبني حسن وآل ابراهيم، والظوالم، وكل رموز وعشائر العراق الشريفة التي لايسعها هذا المقال المتواضع.