هي هكذا .. ليس عندي سوى ذلك .. ما أن أتذكّر شعلان أبو الجون حتّى تتلألأ أمام عينيّ ثورة العشرين كأغصان الشجر في أعياد الكريسمس تتدلّى منها أسماء أبطال العراق رفاق أبو الجون كلمعان النجوم .. إنّ لحظات تذكّري لأبو الجون يعني حضور لمجد عراقي يذكّرنا بأمجاد حجزت مكانها في سفر العراق التاريخي بين أنصع صفحاته .. وكثيراً ما أفسّر بيني وبين نفسي سرّ هذه “الأولويّة” في الحضور لأبو الجون فأفسّرها بشخصيّته الفريدة من نوعها الّتي تمزج ما بين المشاكسة المحبّبة مع الغضبة ضدّ كلّ ظلم .. لذا فهي حالة لا بدّ وتكون تنتصر بالفطرة للحق وللمبادئ ولكلّ الأعراف الجميلة الّتي نسينا منها الكثير مع الأسف وضاعت وسط فورة اللهاث خلف أطماع متطلّبات المدنيّة .. كما وشخصيّة مثل هذه كشخصيّة بطلنا أبو الجون يحبّها الناس لعلمهم المسبق بأنّ صاحبها ينتفض دون قراءات معمّقة أو تنظير أو اجتماعات تثقيفيّة تحضيريّة لتفجير النفس وسط الحشود لنيل الحور العين أو لطاعة الوليّ الفقيه الطاعة الحيوانيّة العمياء .. فكلاهما , المشاكسة وقيم الرجولة اجتمعتا في شعلان أبو الجون واجتمعت في رفاقه من أهل النخوة والجيرة الحسنة والحياء والسلوك القويم وبطولة فاقت لربّما بطولة ذلك الصحابي “عمير بن حمام” الّذي ما أن سمع الرسول يخطب فيهم في معركة بدر يغريهم بالجنّة منتصراً للرسول قائلاً “يا رسول الله ما بيننا وبين الجنة إلا أن يقتلوننا هؤلاء ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلونكم هؤلاء فرمى التمرات وقال والذي نفسي بيده أنها لحياة طويلة إذا بقيت أأكل هذه التمرات بخن بخن ” وسبب تفوّق أبو الجون على ذلك الأنصاريّ الشجاع برأيي هو انتخاء أبو الجون للوطن وللأرض وللعرض أي دفاع عن واقع ولم يكن لشهوة الجنّة أو الحور العين رغم إيمانه بهما ولكنّ الانتخاء أسرع من استعادة ما استقرّ في الأعماق منذ الصغر لأنّ البطولة “فورة دم” من فوق لا من تحت يعني غيرة ونخوة لا أطماع تحرّك الإنسان فالدفاع عن القيم والوطن هما جنّة على الأرض أدرك ذلك أبو الجون ورفاقه فكلاهما الوطن والقيم “في اليدّ” فهو دفاع واقعي عنهما مبني على ردّة فعل سريعة دون هوادة لأنّ الخطر داهم أمّا من ينتظر الجنّة اليوم شريطة دفاعه عن الوطن والأرض فهو عبث يستوجب إحظار أسباب الماضي فكمن ينتظر “عشرة عصافير على الشجرة !” ..
دعواتي لك بكلّ خير يا أبو الجون ورحم والديك رحمةً لا تنتهي فوق “الفاتحون” وفوق الصدّيقين وفوق الشهداء والصالحين .. درجات ..
مع ثوّار العشرين مع أهل الغيرة والنخوة والوطنيّة الحقّة عشائر جنوب العراق الّذين هبّوا هبّة رجل واحد أركعوا أعظم امبراطوريّة وقلبوا حالها من حال إلى حال بالفؤوس وبالخناجر وبالفالات “وبالمكاوير” وجعلوا الشمس تخسف بها رغم امتلاكها التسليح الفائق بكثير عن ما يمتلكه شعلان ورفاقه ورغم جيشوها الضخمة وتدريبها العالي تخسر بسبب انكسارها في ثورة العشرين جميع حروبها فيما بعد وتهبط درجات ..
لم ألتق بك يا أبو الجون ولم أعرف حقيقة ما فعلت لكنّني سمعت بك قرأت عنك لكن قراءة وسماع من القلب إلى القلب …. ولذا كانت ثقتي بك أنا وغيري من العراقيين وبرفاقك بما تملكون من عراقيّة صافية آنذاك لا بدّ وأن تكون كذلك حيث الفطرة السليمة لا زالت تعمل في النفوس لا غشّ فيها .. عراقيّة عشائريّة لم تتلوّث بعد بالمحاصصات ولا بالأحزاب الدينيّة الكهنوتيّة الّتي لا همّ لها سوى اللطم والقطيع وقيام الليل ولبس النقاب وتسويد سواد الجبهة والركوع والسجود ليل نهار والهرولة والركض والاعتناء باللحية وبالفرج “وفق الشرع !” وبالشاربين وبالنحنحة وبالمبالغة في إشراك البسملة مع كلّ جملة ومع كلّ حوار أو حديث والصلاة والتسليم الدائمين على آل البيت وتدارك خبائث المرحاض وطاعة المرشد والوليّ الفقيه ودوام التسبيح باللسان وانتظار الجنّة والحور العين .. وأمّا أكل مال اليتيم والأرامل ونهب اموال الشعب وفتح المشاريع الضخمة خارج العراق وشراء أسهم أعتى الشركات ودعوة دول الجوار للعمل بالعراق ما تشاء ووهب أراضي العراق ومياهه وآباره النفطيّة مقابل السماح والرضا وإطالة امد البقاء في السلطة وتقبّل الرشا من أتفه وأحقر الدول فإلى الجحيم وبئس المصير ..