في كل مرة احاول الكتابة عن السليمانية تلك المدينة الجميلة ومواقفها في مواجهة السلطة الحاكمة والديكتاتوريات المتعاقبة، اجدني امام قصص لا يمكن تجاوزها في رفض الظلم بعناد كبير يميز “عُبَّاد الله” في تلك البقعة بجبالها ووديانها التي تجذبك طبيعتها وازقتها برائحة لا يميزها سوى الباحثين عن الحرية، ولعل واحدة مو تلك القصص في قضاء رانية الذي يمثل “مهد” الانتفاضات والثورات التي سجلها اقليم كردستان منذ تسعينيات القرن الماضي.
وبعد العام 2003، اصبحت مدينة السليمانية الشرارة الاولى لجميع التحركات الرافضة لسياسة زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، التي يبدو بانه مازال يتعامل معها بعقلية الانتقام من “غريمه” السابق، الاتحاد الوطني الكردستاني، على الرغم من انهاء الخلافات والقاء السلاح بين الطرفين منذ نهاية التسعينيات، بعد استعانة البارزاني برئيس النظام السابق صدام حسين حينما سيطر الاتحاد الوطني الكردستاني وزعيمه الراحل جلال الطالباني على اربيل، وهرب زعيم الحزب الديمقراطي إلى محافظة نينوى، قبل ان يعيده النظام السابق الى اربيل بعد السيطرة على السليمانية، بالدبابات والمدرعات التي وصلتها من العاصمة بغداد، فالبارزاني لا يمكنه نسيان تلك الهزيمة ويحاول بين فترة واخرى ردها لاهالي السليمانية بطرق “خبيثة”، في مقدمتها جعلهم ضحية سرقاته لاموال النفط وواردات المنافذ الحدودية التي يرفض ارسالها للحكومة المركزية مقابل دفع رواتب الموظفين في اقليم كردستان.
لكن.. صبر الموظفين في مدن الاقليم وصل الى نهايته ليكون الخيار الوحيد هذه المرة الخروج بتظاهرات احتجاجية في جميع اقضية مدينة السليمانية ونواحيها، والتي تختلف عن التظاهرات التي قمعتها احزاب السلطة خلال السنوات السابقة لعوامل عدة.. اولها النموذج الذي قدمته احتجاجات تشرين في محافظات الوسط والجنوب من خلال مواجهة احزاب السلطة بما تملكه من مال وسلاح بصدور عارية وهتافات سلمية واصرارها على الاستمرار بالاحتجاجات واحياء ساحات التظاهر، حتى تحقيق جميع الاهداف التي اجبرت في بدايتها رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي وحكومته على الاستقالة، وثانيها.. ادراكهم بان السلطة في اقليم كردستان وخاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يدير الحكومة، يتعمد تجاهل معاناة المواطنين والازمات التي يعيشونها لانهم تحولوا لتجار هدفهم جمع الاموال في البنوك الخارجية لاغناء عوائلهم والمقربين منهم، اضافة إلى كشفهم حقيقة الازمة مع بغداد والتي اتضحت اسبابها بنقض البارزاني وحزبه جميع الاتفاقات التي تضمن حقوق المواطنين في كردستان من اجل الاستمرار بسرقة واردات النفط والمنافذ.
ليجد بعدها الشباب المتظاهر بطريقة سلمية تطالب بالحقوق انفسهم بمواجهة القوات الامنية التي تدافع عن احزاب السلطة باستخدام الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع في طريقة تتشابه مع السيناريو الذي ارتكبته القوات الامنية ضد محتجي تشرين، لتكون النتيجة العشرات من الجرحى وشهداء تجاوز عددهم الثمانية، وهو ما استفز المتظاهرين ودفعهم للتصعيد من خلال احراق جميع المقار الحزبية من دون استثناء، فالنيران التي التهمت مقر الحزب الديمقراطي وصلت لحركة التغيير والاتحاد الوطني الكردستاني الذي اصبح شريكا للبارزاني بعمليات القمع، في رسالة واضحة تؤكد بان جميع الاحزاب التي تمارس السلطة لا تختلف حينما تتعلق القضية بقتل الشعب للحفاظ على مصالحها، وكحال الاتهامات التي وجهت لمتظاهري تشرين من قبيل الجوكرية والعملاء للخارج، خرج علينا المستشار الاعلامي للبارزاني، كفاح محمود ليبلغنا بان “الميليشيات الولائية وحزب العمال الكردستاني يقفون وراء احداث السليمانية، واصفا اعمال حرق المقرات بانها وسائل قذرة”، لكن السيد المستشار لم يبلغنا كيف تيقن بان الموظف الذي لم يتسلم من راتبه سوى اربعة اشهر خلال عام كامل، تدعمه “المليشيات الولائية”، ولماذا لم يصف السيد كفاح سرقات سيده “بالوسائل القذرة”، لكنها سياسة التملق التي تفقد الانسان بصيرته في التمييز بين الصواب والخطأ.
لكن.. المخجل في تلك الاحداث موقف بعض الاطراف التي حسبت ظلما وزورا على احتجاجات تشرين، من المقيمين في اربيل وبقية مدن الاقليم وخاصة مدعي الدفاع عن الحريات، لانعلم ماهي اسباب صمتهم على قتل المحتجين في السليمانية ومواجهتهم بالنار، في وقت كانت اصواتهم عالية خلال احتجاجات تشرين، هل دماء موظفي السليمانية وشبابها تختلف عن دماء ابناء الوسط والجنوب اما انها “لعنة” المصالح التي اجبرت رئيس الجمهورية برهم صالح على الاكتفاء ببيان “هزيل” تجاهل فيه الشهداء والجرحى واكتفى بدعوة المواطنين الى احترام القوات الامنية والحفاظ على الممتلكات العامة التي تكون في نظره اغلى من دماء الفقراء.
الخلاصة… ان رفع العلم العراقي في تظاهرات السليمانية اكثر ما ازعج البارزاني وبقية احزاب السلطة التي لم تفهم حتى الان بان مايحصل “ثورة جياع” لا يمكن السيطرة عليها من دون تحقيق مطالبها وايجاد الحلول التي قد تصل للاطاحة بهم، فالدماء التي تسيل للمطالبة بالحقوق ثمنها قد يكون ازالة المتمسكين بكراسي السلطة ولو بعد حين، ….. اخيرا… السؤال الذي لابد منه… متى يتعلم البارزاني الدرس؟…