إلى وقت قريب جدا، لم يكن يخطر في بال الكثيرين من الطبقة السياسية الحاكمة والشارع العراقي، ان ثورة اصلاحات حقيقية ستنطلق بقوة في ظل وجود تحد كبير وخطير يمثله تنظيم “داعش” الارهابي منذ اربعة عشر شهرا.
والى وقت قريب جدا، لم يخطر في بال الكثيرين، ان ترتبك صورة المشهد العام في العراق، وتختلط الوانها، وتتشابك خطوطها، وتبدل معالمها، كمقدمة لتشكل وتبلور صورة اخرى، يبدو انها سوف تختلف عن الصورة التي ما زالت قائمة حتى الان.
منذ الحادي والثلاثين من شهر تموز/يوليو الماضي، وحتى هذه اللحظة، بدا الحراك الحاصل وكأنه حراك يمتد لشهور او اعوام، فمن تظاهرات جماهيرية في العاصمة بغداد وعدد من المدن العراقية انطلقت مطالبة بتحسين الخدمات، لا سيما الكهرباء، الى استجابة مترددة وخجولة وحذرة في بادئ الامر من قبل الحكومة الاتحادية، الى كلام صريح وواضح للمرجعية الدينية، على لسان معتمدها في مدينة كربلاء المقدسة السيد احمد الصافي، بضرورة اجراء اصلاحات حقيقية وشاملة، ودعوة الى رئيس الوزراء حيدر العبادي كي يكون اكثر شجاعة وجرءة ولايكتفي بخطوات ثانوية وشكلية، الى اعلان الاخير عن جملة قرارات فاجأت الجميع، من قبيل الغاء مناصب نواب رئيس الجمهوية نواب رئيس الوزراء فورا، وتقليص حمايات المسؤولين، والغاء المخصصات الاستثنائية للرئاسات الثلاث ومختلف المؤسسات والمتقاعدين، وكذلك تقليص عدد الوزارات، وفتح ملفات الفساد، اضافة الى قرارات اخرى تصب في ذات الاتجاه.
البعض وصف ما حصل بأنه “ثورة اصلاحات”، وبصرف النظر عن دقة ذلك الوصف، فأنه في واقع الامر لا يبتعد كثيرا عما يراد الوصول اليه.
فمطالب المتظاهرين، تمحورت بالدرجة الاساس حول تحسين الخدمات ومكافحة الفساد والمفسدين، رغم ما شهدته من شعارات ضد القوى الدينية واساءات ضد اصحاب التوجه الديني وتحميلهم مسؤولية ما يعانيه البلد من مشاكل وازمات، ناهيك عن “التسقيط” المتبادل بين هذا الطرف أو ذاك.
وكان لزاما على السلطة التنفيذية المتمثلة بالحكومة ورئيسها حيدر العبادي، التجاوب مع تلك المطالب، بعدما انطلقت إشارات إيجابية من خلال التعامل الحسن من قبل القوات الامنية مع المتظاهرين وعدم حدوث اي تصادم معهم كما حصل في تظاهرات مماثلة في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
وقد لاحت اولى مؤشرات وملامح التجاوب، بإعلان العبادي بعد تظاهرات الجمعة الاولى في الحادي والثلاثين من تموز/ يوليو الماضي، عن تخفيض مخصصات الرئاسات الثلاث الى النصف، والوزراء ومن هم بدرجتهم بنسبة 45%، ووكلاء الوزارات والمستشارين بنسبة 40%.
ومع الترحيب الشعبي والسياسي بتلك الخطوة، الا ان الكثيرين رأوا فيها انها غير كافية، فضلا عن ذلك فإن قرارات مشابهة اتخذت في اوقات سابقة من قبل مجلس النواب لم تجد طريقها للتطبيق وبقيت حبر على ورق.
ويبدو ان المرجعية الدينية قرأت الاحدث بدقة وعمق، وقدرت انها بلغت نقطة حساسة وحرجة تتطلب منها التدخل من قبلها بدرجة اكبر، وبالفعل فان ما جاء على لسان خطيب جمعة كربلاء المقدسة يوم الجمعة الماضي، يمثل نقطة تحول وانعطافات كبرى من شأنها ان تضع الجميع على المحك، لاسيما من بأيديهم زمام الأمور، وبالتحديد رئيس الوزراء، الذي خاطبته المرجعية هذه المرة تصريحا لا تلميحا، داعية إياه ان الى التصرف بشجاعة وجرأة، وهي ارادت ان تقول له بطريقة او باخرى “اننا ندعمك ونساندك في كل خطواتك وإجراءاتك الإصلاحية، فلا تتردد ولاتجامل ولاتهادن، وهذه فرصتك لأثبات قدرتك على اتخاذ قرارات حازمة وحاسمة”.
وخطاب المرجعية في السابع من شهر آب/اغسطس الجاري، يشابه من حيث الظروف المحيطة والتهديدات المحدقة بالبلاد، خطاب الثالث عشر من شهر حزيران/يونيو 2014 الذي أعلنت فيه المرجعية الدينية فتوى الجهاد الكفائي، التي لولاها لاستباح تنظيم “داعش” الإرهابي مزيدا من المناطق والمدن العراقية.
ولعل الربط بين التظاهرات الجماهيرية، وتدخل ودعم المرجعية الدينية، واستجابة رئيس الوزراء، يجعل قراءة وتحليل تداعيات الوقائع والاحداث اكثر دقة وموضوعية، يضاف الى ذلك تأييد واستجابة مختلف القوى والمكونات الشخصيات السياسية وغير السياسية، ومن ثم مجلس النواب، حتى وان كان ذلك التأييد وتلك الاستجابة متأتيان من الجو الضاغط باتجاه الإسراع بأجراء إصلاحات حقيقية اكثر من وجود قناعة حقيقية ورغبة صادقة.
واليوم، حتى اكثر المتشائمين باتوا يمتلكون نزرا يسيرا من التفاؤل، وان كان يشبه نوعا من الحذر والتوجس، فالمؤشرات على الاستجابة لمطالب الجمهور باتت واضحة الى حد كبير، وان كانت بعض القرارات الإصلاحية تحتاج الى وقت لتطبيقها، واستمرار المرجعية الدينية بالدفع نحو تفعيل تلك القرارات، والتأشير لمواطن التلكؤ والمماطلة والتسويف، وقيام رئيس الوزراء بعرض وتوضيح كل مستجدات الرأي العام، والافصاح عن هوية الرافضين والمعرقلين للاصلاحات، من شأنه إعطاء دفعات قوية يمكن ان تفضي الى ترجمة القرارات الى واقع عملي على الارض.
واذا كان متوقعا ان تتعطل الإصلاحات، اذا دخلت قرارات العبادي- او البعض منها- في غياهب ومتاهات البرلمان العراقي، وهذا ما اعتاد عليه المواطن العراقي، وخصوصا بالنسبة لمشاريع القوانين التي لها مساس مباشر بواقعه الحياتي العام، فهذه المرة القضية مختلفة، لان معظم أعضاء البرلمان-ان لم يكن جميعهم-ومعهم كتلهم السياسية التي ينتمون اليها، باتوا يدركون صعوبة او استحالة تبني اية مواقف تتقاطع مع مطالب الجمهور وقرارات العبادي الاخيرة، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن البرلمان العراقي سارع الى الإعلان عن حزمة إصلاحات تنسجم وتتوافق بإطارها العام مع حزمة إصلاحات العبادي.
وسواء كان البرلمان جادا في طرح ومناقشة حزمة الإصلاحات، او انه ركب الموجه، فإن حراكا من نوع آخر شهده البرلمان، لاحت مؤشراته الاولى في جلسة الثلاثاء (11/8/2015) والى ما بعدها. وهذا الحراك سيقطع الطريق على الانتهازيين والوصوليين، في الوقت الذي يعطي زخما اكبر لـ”ثورة الإصلاحات”، على أمل ان تُخلْق واقعا جديدا، وتصحح اكبر قدر من اخطاء الماضي، وهي كثيرة وكبيرة، ومعقدة وشائكة.