تشكل أجواء الحزن ومشاهد المأساة طابعاً عاماً يبرز في ذكرى عاشوراء ويطبع معالمها بحيث يطغى على كل الجوانب الأخرى، من خلال إبراز الروح الثورية الممزوجة بأعلى درجات المأساة التي عاشها بطل كربلاء الإمام الحسين(ع)، وبما يميزها عن سائر المناسبات والأحداث التاريخية والدينية والمدارس التربوية والأخلاقية.
عاشوراء العَبرة والمأساة: لذا لا بدّ أن تستمر عاشوراء المأساة والمصيبة والعاطفة كما عاشت كل هذه السنوات في الوجدان الشعبي ليبقى الحسين(ع) في مصيبته يمثل الدمعة والعبرة التي لا مثيل لها في مدى الزمن.
وفي هذا الإطار يؤكد البعض أن إبراز الأبعاد الفكرية والتربوية والأخلاقية للثورة الحسينية، لا ينبغي أن يثار بالشكل الذي يلغي جانب العاطفة والمأساة، فهذا الجانب لا يمكن أن يلغى لأن مأساة كربلاء بقيت حية على مدى الزمن في العواطف والمشاعر والوجدان، وقد أكد الأئمة من أهل البيت(ع) على الحزن والعزاء وإبراز المشاعر الجياشة في موسم عاشوراء وبعده، ولكن ينبغي ملاحظة ما تمثله وتبرزه هذه المأساة من روحية عالية وأفق كبير وأخلاق سامية يمثلها الذين عانوا جراحاتها في مقابل سقوط أخلاقي وإيماني وروحي للذين وقفوا ليصنعوا هذه المأساة، وهذا البروز للجانب الأخلاقي والرسالي يزيد في التهاب المشاعر عند إتباع الحسين(ع)، لا إلى خمودها، أو الانكفاء عنها.
لقد تحرك الإمام الحسين(ع) من خلال الخلفية الأخلاقية التي ميزت ثورته بما تشكله من امتدادٍ لحركة رسول الله(ص) الذي قال:” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وميّزت شخصيته(ص) التي وصفها القرآن الكريم بقوله تعالى:{وانك لعلى خلق عظيم}، {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
ولذلك ما كان للحسين(ع) ان ينطلق لطلب الإصلاح في أمة جده رسول الله(ص) إلا من خلال تثبيت دعائم الأخلاق الإسلامية التي برزت بشكل جلي وواضح في كل مفاصل ثورته من خلال عمق علاقته مع الله ومع اصحابه وفي تعامله مع اعدائه ومع الناس من حوله.
الارتباط بالله:
ولذلك نستطيع التأكيد أن رسالة الحسين(ع) في كربلاء عنوانها المحبة وسمو الأخلاق ورفعة القيم. وقد تجلت خلالها الصورة المثلى في علاقته بالله والذوبان فيه، هذا الرب الذي عرف الحسين موقعه وعظمته، ومحبته لخلقه وعباده وتفضله عليهم رغم معاندتهم وجحودهم وعصيانهم له، كما عبّر ولده الإمام زين العابدين(ع) في دعائه: “تتنزل علينا بالنعم ونعارضك بالذنوب خيرك إلينا نازل وشرنا إلينا صاعد ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا بعمل قبيح فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنعمك وتتفضل علينا بالائك فسبحانك ما أعظمك وأحلمك وأكرمك”.
فما كان ليبادل محبة الله وحنانه إلا بأعلى درجات المحبة الصافية فكان لسان حاله:
إلهي، تركت الخلق طرا في هواك وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربا لما مال الفؤاد إلى سواكا
ولأن الله مظهره الحب في تأكيد رسالته ومشروعه في الحياة، كما قال لرسوله(ص) {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} فانه كان حاضرا في الموقع الذي يريد الله له أن يتواجد فيه، مهما كان هذا الموقع مكلفا، وشاقاً وصعباً، فهذا الرب الرحيم الودود والغفور، تهون لأجله ولأجل رسالته كل التضحيات، ولهذا كانت كلمته العظيمة عندما ذبح ولده الرضيع بين يديه: “هون ما نزل بي انه بعين الله” وهكذا كانت آخر كلماته قبل استشهاده: “بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله”.
وقد عبرت عن هذه الروح اخته السيدة زينب(ع) عندما قالت أمام جسد سيد الشهداء(ع) والصفوة من أصحابه، “اللهم تقبل منا هذا القربان”، فالمهم ان تصل هذه التضحيات إلى تحصيل رضا الله تعالى.
وقد تمثلت اخلاقياته العظيمة أيضاً في حرصه على الانفتاح على الله عز وجل حتى في وقت المعركة، وعند اشتدادها، حيث وقف يناجي ربه ويعظمه، ويؤكد المسؤولية عن رسالته وحفظ دينه في وقت كانت السيوف والسهام والرماح تنهال عليه من كل جانب.
لقد وقف(ع) ليحدد هوية هذه المعركة، وعنصر القوة الأساس فيها، وهو الله، وليؤكد على حضوره في كل الأوقات والمحن والشدائد.
أخلاقه مع نفسه ومع أصحابه:
وقد تمثلت أخلاق الإمام الحسين(ع) مع نفسه، التي كان حريصاً عليها، لأنها أمانة الله عنده، من خلال حرصه على أن لا يعرضها للذل والهوان، وكان قوله الخالد في كربلاء: “إلا أن الدّعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السّلة والذّلة وهيهات منا الذّلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون”.
وقال (ع):”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد”.
فقد كان حريصاً على أن يؤكد سمو نفسه وعظمتها، حيث رفض أن يبيعها بثمن بخس أو بسيط، وإنما بالثمن الأغلى الذي تستحقه وهو الجنة، وقال(ع): “إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما”.
وهذا ما تعلمه من والده أمير المؤمنين الإمام علي(ع) الذي قال: “ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها”.
كما تبرز لنا صورة أخلاق الإمام الحسين(ع) في علاقته مع أصحابه، الذين وصفهم بقوله: “ما رأيت أصحابا أفضل من أصحابي ولا أهل بيت أوفى من أهل بيتي”.
ولذلك كان حريصاً على حياتهم، وقد خاطب أصحابه في ليلة العاشر من محرم: “ان هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي فان القوم لا يريدون غيري”.
كما أنه في تعامله مع أصحابه لم يفرق بين جون العبد الأسود، مولى أبي ذر الغفاري وبين أصحابه من الكبار في مواقعهم وعشائرهم وكذلك لم يفرق بين أصحابه وأهل بيته، بحيث كان يأتي إلى مصارعهم ويخفف عنهم ويتحدث إليهم، ويبشرهم بما يردون عليه”.
من خلال ذلك قدم الإمام الصورة الحقيقية للقائد الذي لا تزيده رفعة موقعه وعظمته إلا تواضعاً وحباً وإخلاصاً وحرصاً على أصحابه.
وهذا ما نلاحظه في دعاء الإمام زين العابدين(ع): “اللهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي بقدرها ولا تحدث لي عزا ظاهراً إلا أحدثت لي عند نفسي ذلة باطنة بقدرها”.. وقد كان الإمام الحسين(ع) حريصاً على أن يستشير أصحابه فيما يريد الإقدام عليه وكان واضحاً في أبرز أهدافه وخطة حركته فخاطبهم قائلاً: ” انه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وان الدنيا قد تغيّرت وتنكرت وأدبر معروفها فلم يبق منها إلا صُبابة كصبابة الإناء، الا ترون إلى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاءه ربه محقاً فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما”.
أخلاقه مع أعداءه:
وكما تجلت أخلاق الإمام الحسين(ع)في علاقته مع أعدائه من خلال تعامله الايجابي معهم عند قدومه إلى كربلاء حيث بادر إلى تأمين الماء لهم حين قدموا لمحاصرته وهم عطاشى فقدمه إليهم رغم قدرته على منعهم عنه،كما فعلوا بعد ذلك.
كما تمثلت رفعة أخلاقه في حزنه وأساه على ما سيصيب أعداءه من خلال إغضابهم لله أثر ما سيقدمون عليه من قتله وقد فتح الإمام كل قلبه وعقله للحديث معهم ووعظهم وهدايتهم للرجوع عن غيهم، وحذرهم من غضب الله إن هم قاتلوه. وكان كلامه ناضحاً بالإشفاق عليهم.
ولم يصده عن أسلوبه الأخلاقي ما كانوا عليه من غلظة ووفظاظة وسوء، حتى أنه طلب منهم أن يتركوه يواصل طريقه أو يعود من حيث أتى، لكنهم رفضوا ذلك.
وانطلق الإمام(ع) يواجه تحدي هؤلاء وغطرستهم وظلمهم مع ثلة من أصحابه الأوفياء، حيث كان على استعداد لأن يضحي بكل شيء من أجل الرسالة.
تحديد دوافع الثورة:
وكان الإمام(ع) واضحاً في علاقته بالناس، من خلال الانفتاح عليهم وإيضاح الموقف لهم بشكل مباشر، ولذلك راح يحدثهم عن حرصه عليهم لان هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان، واحلوا حرام الله وحرموا حلاله، واستأثروا بالفيء وعطلوا الحدود ولذلك قال: ” وأنا أحق من غيّر” فلا بدّ أن يتغير هذا الواقع السيئ، وأكد على المسلمين انطلاقاً من كلام ومنهج رسول الله(ص) أن لا حياد بين الحق والباطل، فلا بدّ من موقف متقدم، فقال (ع):
“أيها الناس إني سمعت رسول الله(ص) يقول من رأى منكم سلطان جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهده يعمل في عباده بالإثم والعدوان فلم ينصر عليه بقول أو فعل كان حق على الله أن يدخله مدخله”.
وأعلن بكل وضوح أسباب ودوافع تحركه وثورته من أجل إحقاق الحق ومواجهة الظلم والباطل:
” ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه”، ولأجل ذلك انطلق لحفظ مستقبل الناس وحماية الحق.
هذه هي ثورة الحسين(ع) عنوان كبير لأخلاقٍ إسلامية ونبويةٍ سامية، وهي المنطلق لبزوغ فجر الأمة، لأنها منذ انطلقت في التاريخ، لا تزال تبعث الحياة في نفوس المظلومين والمستضعفين على امتداد الزمن.