9 أبريل، 2024 5:23 ص
Search
Close this search box.

ثورات ربيع أم موسم لأكل الأصنام؟!

Facebook
Twitter
LinkedIn

احتفظ لنا الموروث العربي بصورة لواقع كانت تعيشه جزيرة العرب وهي في مخاض الانتقال من حالة التيه والضياع والتفرق والتشتت والقتل والقتال وعبادة الأصنام إلى وضع جديد تكون فيه البداية واضحة والغاية معروفة والسبيل بينة بالدليل ، وكان رائد الانتقال من حالة التيه تلك رجل بعثته السماء لينقذ قافلة البشرية التائهة في صحراء المادة حتى شارفت على الهلاك وهي في تيهها وضياعها عن غاية وجودها.
في مخاض الانتقال ذاك كان هذا المبعوث الإلهي وهو محمد(ص) يواجه شعبا بل شعوبا أدمنت معاقرة الأصنام بشتى صنوفها وألوانها وأنواعها ، جمادا كانت أو نباتا ، بهائم كانت أو بشرا ، ففلسفة الصنمية في زمن المخاض ذاك كانت فلسفة رائجة بصورة تجعل من يفكر ـ مجرد تفكير ـ بمواجهتها إنما يقرر بجرأة العوم ضد تيار هائل وجارف ومتمكن ، ولذلك كل دعوات الإصلاح ونداءات المصلحين الموحدين في ذاك الزمان كانت مقموعة بشدة ، ولا أحد يعيرها أذن صاغية بل لا مجال للتفكير بما تقوله تلك الأصوات ، لأن نظام الحياة المهيمن والحاكم انذاك كان نظاما صنميا ، مع الالتفات إلى أن أنفس الناس ميالة بتطبعها وليس بطبعها إلى الراحة والكسل وهاتان السمتان يمتاز النظام الصنمي بحرفية عالية في إنتاجهما وفنية تسويقهما.
ولعل من النافع توضيح فكرة بتطبعها لا بطبعها ميالة ، ذاك أن الإنسان مفطور ومطبوع على العمل بمعرفة لبلوغ الغاية من وجوده ، فهذا طبعه وسمته ، ولكنه لما جاء إلى هذا العالم (دنيا الامتحان) وكان الامتحان في الشهوات ، وكانت الحاجة إلى إشباع الشهوات في هذا العالم هي ورقة الامتحان ، والنجاح في الامتحان يتطلب من النفس الإنسانية أن تلتفت إلى حقيقة وجودها كونها من صنع الغني المطلق الله سبحانه ، وكونها صنيعته فما تشعر به من حاجة شهوية إنما هو عارض عليها وليس أصل فيها ، فالأصل فيها أنها صورة الغني وحاجتها وافتقارها هو سبيلها للعمل لبلوغ الغاية التي من أجلها خلقت وهي أن تكون صورة عاكسة لغنى الغني المطلق سبحانه ، لكنها للأسف اختارت الدعة والكسل واستسهلت طريق الاستجداء وكلما أوغلت فيه انكشف لها أنها تزداد حاجة وتزداد إراقة لماء الوجه حتى نشف وجهها من الحياء!!
فما كان منها إلا أن تطبعت على فقدان الحياء وضياعه من محياها وأوغلت في الذهاب بعيدا في مستنقع الشهوات والحاجات فلا تسمع منها غير صوت (أريد … أريد) وكلما أعطيت طلبت المزيد فصارت صورة من جهنم التي وصفها خالقها سبحانه{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}(ق/30) ، واستنادا إلى قاعدة (شبيه الشيء منجذب إليه) فالنفوس كانت ـ ويا للأسف هي اليوم ـ وما زالت متطبعة بصورة جهنم (تريد .. تريد .. هل من مزيد) ، وخالقها سبحانه أراد لها أن تكون صورة لجنانه لسان حالها يقول (أنا صنيعة الكريم وليس عند الكريم غير العطاء بدون حساب).
إذن فلسفة الأصنام في زمن الصيرورة ذاك كانت في أظهر صورها متجلية بجزيرة العرب ، وهي شائعة في كل العالم ، وكان العرب في أحيان يصنعون اصنامهم بأيديهم من التمر ، ويخرجون للصيد أو للتجارة أو لأي عمل يؤدونه وإذا ما داهمهم الجوع ولم يجدوا زادا يقتاتون به عدوا على آلهتهم المصنوعة من التمر فأكلوها ويبدؤون أكلها من رؤوسها حتى يأتون عليها كلها فيصبح المعبود في بطن العبد ، وبعد زمن يخرج الصنم قاذورة كما هي حقيقة النفوس التي صنعته وانخدعت به.
نحن اليوم كذلك في زمن صيرورة وانتقال من حالة تيه وضياع في صحراء المادة إلى حال هداية وسير إلى الله سبحانه ، ولذلك في هذا الزمان نرى موسم أكل الأصنام قد بدأ ، وهذا الموسم بدأ بأكل الرؤوس وهو لا يتوقف عند حد حتى يأتي على الصنم كله ويطرحوه قاذورة في مزبلة التاريخ (كما يقال) ، وما يسمونه اليوم ربيع الثورات هو في حقيقته موسم لأكل الأصنام ، ولكن هذه الأصنام المصنوعة ليست من تمر هذه المرة بل هي اصنام متطورة بتطور الحياة المادية ، أصنام اليوم رؤوس استعبدت الخلق عقودا متطاولة على مستوى السياسة والاقتصاد والاجتماع وحتى على مستوى الأنفاس والأحلام ، جاء اليوم الذي جاعت فيه الشعوب ونفد ما بزوادتها من الصبر فراحت تقضم وتهشم وتلتهم أصنامها بشراهة عجيبة غريبة وبفم مليان تصرخ (الشعب يريد إسقاط الرئيس)!!
صوت ما كان الناس يجرؤون على ترديده حتى في المنام ، لكنه اليوم صار حقيقة تنام وتصحو عليها كل شعوب الأرض بلا استثناء وبمختلف الالسن والألوان ، وإذا كانت صورة الرئيس في المنطقة العربية ـ منطقة المخاض ـ هي صورة الزعيم السياسي ، فهذه الصورة في باقي بلدان العالم ربما غيرها فتكون صورة الرئيس هي الزعيم الاقتصادي (وقد انهار صنم الاقتصاد) ، أو الزعيم الاجتماعي (وقد انهارت القيم الاجتماعية تماما بتفكيك الأسرة كونها الخلية المؤسسة للمجتمع) ، ولعل آخر صنم قارب السقوط هو صنم المؤسسات الدينية التي احتلبت الشعوب باسم الدين ومصت دماءهم وكرامتهم وأفكارهم وفرغتهم تماما من إنسانيتهم التي كرم الله سبحانه بها مخلوقه.
فما يحدث في المنطقة العربية اليوم هو نفسه المخاض الذي حدث إبان دعوة رسول الله محمد(ص) ، فالناس قبل دعوة محمد(ص) ما كانت تجرؤ على أكل الأصنام ولو ماتت جوعا ، ولكنها في زمنه صارت تأكل الأصنام ، وموسم أكل الأصنام في هذا الزمان ذكره الموروث الروائي للروايات الواصفة لأحداث آخر الزمان حيث ورد في رواية طويلة نأخذ منها محل الشاهد ؛ عن [يعقوب السراج قال قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) متى فرج شيعتكم ؟ قال : فقال إذا اختلف ولد العباس ووهى سلطانهم وطمع فيهم من لم يكن يطمع فيهم وخلعت العرب أعنتها ، ورفع كل ذي صيصية صيصيته…..]( شرح أصول الكافي – مولى محمد صالح المازندراني – ج 6 – ص 255).
ربما يقول قائل ما يحصل اليوم هو من صناعة أمريكية بعد أن وعى الأمريكان درس العراق وما كلفهم إسقاط الصنم من خسائر بشرية ومادية ومن سقوط سمعة سياسي وتبعه اقتصادي فضلا على السقوط الاجتماعي ، كان لابد أن يجدوا سبيلا لإسقاط تلك الأصنام وجعل شعوبها تأكلها وتخلع أعنتها ، فكانت سياسة الصوت المنادي (الشعب يريد إسقاط الرئيس) خاصة وأن الشعوب العربية بعد أن ضاعت تماما في صحراء المادة صارت تتمسك بوهم الخلاص فتراها على كل طبل راقصة من دون أن تتبين (من الطبال)؟!!
نعم هذا المقال لا ينفي وجود اليد الامريكية في طبخ الاصنام وتهيئتها للأكل ولكن النتيجة هي ماذا؟؟ النتيجة هي أن الاصنام صارت تؤكل ، بغض النظر عمن صنع هذا الطبق المفضل للشعوب ، بل أن يد القدر الإلهي واضحة في تهيئة هذا الأمر ، وليس الامريكان ولا غيرهم سوى أدوات صنعت هذا الحال ولكنها لا يمكن أبدا أن تكون هي من خطط له ، فالتخطيط له أكبر من عمر أمريكا بضعف السنوات إن لم يكن أكثر ، ولكن الفعل تم بيدهم وهذا هو القانون الإلهي (الظالم سيف أنتقم به وأنتقم منه) وهذا ما تحقق بالفعل ، فلا يوجد عاقل يقول أن الامريكان هم من طبخ سقوطهم وانهيارهم المهول اقتصاديا!!
تماما كما كالوا للناس وتآمروا عليهم ، كيل لهم ووقعوا في نفس الحفرة التي حفروها وبالغوا في جعلها عميقة لتستوعب انهيارهم وسقوطهم المريع ، فأمريكا اليوم تماما هي غيرها قبل الانهيار الاقتصادي ، ولذا حتى تحافظ على بقايا هيبتها فهي قريبا سترتكب حماقة ، كحماقة هيروشيما ونكازاكي ، فمن المعلوم أن الأحمق يمكن أن يرتكب الحماقة نفسها مرتين ، ولذا على الناس أن تبحث بجد عن طوق نجاة ينجيها مما سيداهمها بغتة ، وتدبروا قول الله سبحانه وتفكروا فيه حيث يقول عز من قائل{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}(الأنعام/44) ، وقال جلت قدرته{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(العنكبوت/53) وتفكروا أن هذه الآية الثانية ورادة في سورة العنكبوت التي ضرب الله سبحانه المثل في وهن بيتها لعلكم تنظرون وتتدبرون وتتفكرون وتذكرون وتعقلون.  

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب