23 ديسمبر، 2024 1:46 ص

ثورات العراق تتفجر من مدن الوسط والجنوب!!

ثورات العراق تتفجر من مدن الوسط والجنوب!!

قبل سنوات ، كنت قد نشرت مقالا مطولا ، أشرت فيه الى حقيقة مؤداها : أن أغلب إن لم أقل ، كل ثورات العراق الشعبية العارمة ، على مدار تاريخه المعاصر، تنطلق من مدن الوسط والجنوب، ثم تستعر نيران الثورة لتنضم اليها جماهير بغداد، وكانت فترات الاحتلال البريطاني للعراق والعهد الملكي ومنذ الاربعينات والخمسينات وما بعدها، وحتى الى يومنا هذا ، شاهدا على ما أقول!!

أحد النخب الثقافية ، وهو كفاءة ثقافية عالية ومقتدرة ، كان في وقتها، قد خالفني رؤيتي هذه لأحداث العراق، ظانا بأن ثورات الوسط والجنوب، لم تكن هي وحدها محرك الثورات في بغداد وبقية محافظات الغربية، التي قلما شهدنا لها انتفاضات، مثلما كانت تحدث في محافظات الوسط والجنوب!!

وبرغم أن الفقر ، وجدب العيش وبساطة الناس كانت هي السمة الغالبة على حياة العراقيين منذ الإحتلال البريطاني للعراق ، قبل ثورة العشرين وما بعدها، الا أن المحافظات المحسوبة على الغربية، لم تظهر فيها بوادر ثورة ضد الانظمة التي كانت تسمى بالقمعية وتلك التي تضطهد شعوبها وتذيقها مر الهوان..لكنني بقيت أصر على أن ما أشرت اليه أن ابناء الوسط والجنوب هم مادة كل ثورة ، على انها مستقاة من تاريخ العراق الضارب في الأعماق، والذي كان فيه شعب الوسط والجنوب المثال المفضل لاندلاع الثورات في العراق!!

الان ، وقد سنحت لي الفرصة ، أن أطلع على مذكرات كتاب عراقيين من محافظات الوسط والجنوب، فأيقنت ان ما أشرته من ملاحظات في مقالي عن تلك الثورات الشعبية كان قريبا من الواقع، وإن أهل الوسط والجنوب كانوا عروبيين ويقدسون العراق وكرامة شعبه ، ولهم من تاريخهم الزاخر بالبطولات ما يشكل مفخرة لأي عراقي، تغور في أعماقه الوطنية، ويسعى للثأر من كرامته عندما تداس عليها الأقدام، أو يشعر أن الوطن مهدد بالضياع أو أن خبز الكرامة مغمس بالإمتهان !!

كان جل كتاب العراق ونوابغه الشعرية والروائية والقصصية من محافظات الوسط والجنوب، وهم يشكلون على الدوام، منبع الافكار الثورية التحررية والنيرة، برغم ضنك العيش وفقر أحوالهم واحوال مواطنيهم، وما عانوه من شظف العيش، لكنهم هم أصحاب الفضل بأن رسخوا معالم الإبداع الثقافي والمعرفي والقيمي في نفوس الأجيال وهم من أشعلوا نيران الثورات والانتفاضات، ودخل كثيرون منهم السجون في أعوام نهايات الاربعينات والخمسينات وحتى الستينات، وها هم حتى هذه اللحظة يذكون في عقولنا جذوة الشعور بالكبرياء ، لأن أبطالا ميامين، بكل تلك الشجاعة ، وهم يواجهون الموت ببسالة من أجل أن تنتصر قيم الحرية والعيش الكريم الذي لم ينعموا به منذ عقود من السنين، على خلاف محافظات أخرى كان العيش فيها أكثر رغدا، والحياة لديهم أكثر يسرا، والاخرون من يتقلدون الوظائف العليا، بينما تعيش أغلب نخبهم وكفاءاتهم في أحوال لاتسر ، وشعبهم يرزح تحت نير الفقر والفاقة والحرمان، برغم كل ما ابدعوه في سجل العراق الثقافي والمعرفي والابداعي من سجل مشرف، يكاد يكون عنوان فخر لكل عراقي، وهم المتهمون بأنهم يدينون للآخر بـ (الولاء) ،ولكنهم أثبتوا عبر التاريخ، بأنهم لن يرضوا أن يكون ولاءهم الا لبلدهم وشعبهم وتاريخهم العامر بالمفاخر والحضارات، وكل ما يسر صفحات التاريخ في ألقه وتاريخه المشرق الوضاء!!

كنا أغلب من تعايشنا معهم في مرحلة الدراسة الجامعية والعمل في الميدان الاعلامي والبحثي في منتصف السبعينات والثمانينات وما بعدها هم من مبدعي ابناء الوسط والجنوب، وقضينا معهم أجمل أيام العمر، وقد نهلنا من نبوغهم الفكري والقيمي والفلسفي المتعمق ، ما يشكل زادا ثقافيا ومعرفيا لايقدر بثمن ، ولي مع رموزهم الثقافية والأدبية والفنية صداقات أعتز بها مادارت الايام!!

البارحة إستعادت ذاكرتي بهذا التاريخ، ما كتبه أحد مبدعيهم ، إسمه حامد فاضل، ومقالة بعنوان: (دار السيد مامونة) ويبدو ان لديه إسهامة ككاتب، وبخاصة في مجال العمل القصصي والروائي، والرجل يسرد قصية حياة نضال أبناء السماوة في مقارعة العهد الملكي ، وكيف كانت مدينته معقلا للانتفاضات ضد طغيان نوري السعيد، وكيف واجه اغلب مثقفي وطلبة المدارس الثانويات السجون والمعتقلات ، لانهم شاركوا في التظاهرات والانتفاضات المطالبة بالحرية، وكيف كانت قصائد الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري تهز عروش الطغاة في بغداد، ولهم مع ثوار بغداد ونخبها علاقات وطيدة ، وهم في كل محافظات الوسط والجنوب من كانت لهم إسهامة في ثورات العراق ضد الطغيان وكل من لايريد للعراق أن يعيش أبناؤه بخير وأمن وسلام، وهو يسرد نضال زملائه في تلك الفترة في مدينة السماوة ،وكيف ، أجج ثوار الوسط والجنوب الثورة، وتعرضوا لزجهم في السجون والمعتقلات ، حتى أقيم العهد الجمهوري، ثم تبدأ معاناتهم مرة أخرى مع كل العهود التي مرت على العراق، والتي لم يجد فيها أبناء الوسط والجنوب بكل ما يكتنزونه من ثروات وعقول نيره ونخب وكفاءات تشكل مفخرة للعراق، واذا بالغرباء والطارئين ومن ارتضوا ان يرهنوا ارادة بلدهم لدول اقليمية، وهم يحاربونهم ، ويحرمونهم من فرصة أن يجدوا لهم مكانا للعيش الآمن الكريم، وترى أحوالهم تتحول من سيء الى أسوأ، وهم من حكموهم بإسمهم، واذا بهم، وقد أذاقوهم مر الهوان!!

ما أشبه الليلة بالبارحة.. وما أن أقرا ما يجري من أحداث في العراق قبل ثورة العشرين وحتى الى يومنا هذا، وكأن تاريخ العراق الآن يعيد نفسه، وان كل ثورات تلك المحافظات وانتفاضاتها تواجه بالقمع ، ويلقى بمن يشارك فيها في السجون والمعتقلات، ويتهمون بأنهم (مثيرو الشغب) و(الغرباء) ، وآخرون يتهمونهم بأنهم (غوغاء) وما دروا أن كل حرائر العراق أشادت بهم، وببطواتهم وصولاتهم، وهم من معادن العراق النفيسة، التي حفروا في سجل تاريخهم الناصع البياض ،أنهم ابناء العراق الغيارى البررة الميامين ، وهم أكثر عروبة من كل من يتشدق بالعروبة، أو يرفع رايتها زيفا وظلما، ويريدها مجرد ستار لتمرير أطماع ومراميه واهدفه غير المشروعة، ويظل أبناء الوسط والجنوب مخزون الثورات والانتفاضات، وكأن الأقدار كتبت عليهم هكذا..وهم يستحقون اليوم أن يكتب عنهم التاريخ ، أنهم الابناء البررة والسواعد السمر التي أشادت حضارات العراق، وأسهمت في رفعة شعبه، الى حيث الذرى والمنازل الرفيعة!!

لقد كانت محافظة ذي قار ، معدنا ومقلعا للثور، منذ الأربعينات بل والعشرينات من القرن الماضي، وهي موئل انطلاقة الفكر العروبي العراقي والفكر التقدمي الحر النبيل من كل الألوان والعقائد ، وهي شعلة كل الافكار المتوقدة الاصيلة ، ولرجالاتها مفاخر رفيعة في تأريخ العراق، مثلما هي الان البصرة والنجف وكربلاء والسماوة والديوانية وبابل والكوت، لتشكل روافد العراق ومناهل ثرواته الكبرى، وهم من يعلق عليهم أهالي بغداد وكل المحافظات الاخرى التي لم تشاركهم هذا الشرف الرفيع، الآمال في أن يسهموا في إعادة العراق الى حيث يتمنى العراقيون من عزة ورفعة، لكي يرفعوا عن شعبهم غائلة ظلم السلاطين ، والفقر والفاقة والحرمان، وهم يعيشون على بحيرات وكنوز من الثروة، واذا بأحوالهم وهي تنحدر من قاع الى قاع، ويتحكم في رقابهم، الغرباء ومن أرتضوا ان يدينوا بالولاء لدول أخرى!!

أنتم من تعلق عليكم الآمال، يا أبناء الوسط والجنوب، وابناء بغداد الغيارى في أن تعيدوا للعراق وجهه العراقي العروبي الأصيل، وإن (نامت) ضمائر بعض ابناء المحافظات الاخرى من الغربية أو (إستترت) لاسمح الله، فهي لأن الأقدار حكمت عليهم بـ (4 إرهاب) ومسميات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان ، وهم قلوبهم معكم..ولن يقبل التاريخ ان يبقوا متفرجين ، وأبناء جلدتهم من الوسط والجنوب يتحملون وحدهم اعباء وزخم المواجهات والانتفاضات دون أن يعينهم أهالي الغربية في محنتهم هذه وتحمل أعباء هذا الشرف الرفيع.. وقد صدق فيهم رب العزة بقوله تعالى: (( وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)).