لطالما سَمِعنا وقرأنا عَن مَقولة(الثورات تأكل أبنائها) لكننا لم نَختبرها على أرض الواقع، فنَحن مِن جيل لم يَعِش الثورات(المَجيدة) ولم يَرَها وهي تأكل أبنائَها، بل سَمِع عَنها وعَن شَهيّتها المَفتوحة دائِماً لأكل أبنائَها مِن الأجيال التي سَبقته، والتي عاشَت بل وساهَم بَعضها بأحداث هذه الثورات. يَكفينا قهراً أننا خَبرنا حَجم الكوارث والنتائِج المُشَوّهة التي يُمكن أن تنتُج عَن الثورات، بَعد أن عِشنا حُكم الأنظِمة الديكتاتورية التي أفرَزتها، والتي كنا نتمَنى زوالها أو إصلاحَها بطرق مَدنية حَضارية سِلمية دستورية، ظَنا مِنا بأن الشُعوب العَربية ونخبَها قد تعَلمت الدَرس وحفظته جيداً، وبأنها لن تعمَد مُجَدّدا الى الثورة وهَمَجيّتها وفوضَويتها طريقاً وأسلوباً للتغيير والإصلاح، بَعد أن ذاقت مَرارة الأنظِمة التي تفرزها الثورات والتي عاشَت تحت نير جَبروتِها لنصف قرن مَضى مِن الزمان.
لكن يَبدوا بأن ظننا لم يكن في مَحَله، وأن القدَر كان يُخبيء لنا أمراً آخر لم يَكن يوماً في الحُسبان، فالعادة جَرَت على أن لا يُلدغ المُؤمن مِن جُحر مَرّتين، والشعوب العربية تدّعي إيماناً يَبدوا أنه لم يَكن كافياً ليَقيها شَر اللدغة مِن جُحور أكثر عُمقاً وأشَدّ بُؤساً وأحلك ظلاماً مِن الجُحور التي لدِغَت مِنها قبل نُصف قرن. فبدلاً مِن إحكام العَقل وسَماع صَوت المَنطِق وتغليب المَصلحة العامة، أطلقت الشُعوب العَربية، تتقدّمها نُخبها القومية واليَسارية المُتكلسة الآديولوجيات والأفكار، العَنان لغرائِزها البدائية وإنقادَت لوَسوَسة الوَهم غير آبهة بما سَيَترَتّب على فِعلها هذا مِن نتائج كارثية على حاضِر ومُستقبل أوطانِها ومُجتمعاتِها وأجيالها القادمة، فيما كانت تظنه طَريقاً لإصلاح وتغيير الأنظِمة التي تحكمُها مُنذ سِنين. فالقوى الأجنبية الطامِعة بخَيرات هذه الدول، ومِن قبلها القوى الداخلية الظلامِية الطامِعة بالسُلطة والتي تتحَيّن الفرصة مُنذ عُقود للسَطو عَليها وعلى ما يَتبَعها مِن مال وجاه ونفوذ، كل هؤلاء كانوا بالمِرصاد لأي تَحَرّك حَتى وإن كان مُخلصاً لحَرفِه وتحويله بالوجهة التي يُريدون، وسُرعان ما أستغلوا طَيش شَباب هذه الشُعوب وقلة خبرَتِهم ليَركبوا مَوجة هذه التحَرّكات، بَعد أن رَصَدوا لها أموالاً وفضائيات وأحياناً مُرتزقة كما في ليبيا وسوريا لتجميلها وتصويرَها على أنها حَراك شَعبي وَطني ورَبيع عَربي سَتشرق بَعدَه شَمس الحُرية والديمقراطية في سَماء الوطن العَربي.
فماذا حَدَث بَعد أن إجتاح الرَبيع العَربي الذي طَبّل له مَلايين البُسطاء مِن المُحيط الى الخليج أغلب الدول العَربية؟ وماذا كانت نتيجة ثوراته التي إستلهَمَت أفكار مَن سَبقتها مِن ثورات؟ الجَواب هو إن ماحَدَث كان أسوَء مِمّا سَبقه بكل المَقاييس، والنتيجة كانَت مَأساوية وكارثية على الواقع السياسي والإجتماعي لدَرجة بات فيها الأمَل بالإصلاح مَعدوماً. إن المُستفيد الأول والأخير مِن ثورات الربيع، والذي أفرزته جَماهيرها بكامِل وَعيَها الجَمعي عِبر صَناديق الإقتِراع هي قوى الإسلام السياسي الرَجعِية الظلامية الراديكالية، أما أبنائَها(فباتَ طشّارهُم مالة والي)كما يَقول المَثل العراقي، وهانَحن نراها اليَوم تنهَش لحُومَهُم بَعد أن إنتهى دورَهُم فيها وباتَت كعادَتِها بيَد الإنتهازيين الذين إستفادوا مِنها ومِن الفوضى التي أحدَثتها بعد أن شَجّعوا وحَرّضوا عَليها، حَتى إذا آتت ثِمارها كانوا أول القاطِفين لها ولم يَترُكوا لأبنائها الحَقيقيين حَتى بَقاياها، بَل إنّهُم اليَوم أعداءُ لها ومُندّسون ومُخرّبون في بروباغندا السُلطة التي أفرَزتها الثورات.
في النهاية تحَقق ما سَبَق وقرأناه في الكتب وسَمِعناه من الأجيال التي سَبقتنا، وما حَذر مِنه بَعض الفلاسِفة والمُفكرين العَقلانيين التنويريين الذين لم يَستمِع اليهم أحَد، فقد جاءَ اليَوم الذي رَأينا فيه (Live) وعَمَلياً وليسَ فقط نظرياً ثوراتاً تأكل لحُوم أبنائِها بل وتنهشُها بوَحشيّة كما في تونس ومصر. وحَقيقة لا أدري لمَ يُكرر الإنسان وخُصوصاً العَربي والمُسلم أخطائه مَرّات مُتتالية؟ ولمَ تأخذه العِزة بالإثم في أغلب الأحيان؟ فكل تجارُب الثوارت أثبَتت أن أبنائَها هُم أول ولائِمها وضَحاياها، لكن بَعض الشُعوب لا تتعِظ ولا تتعَلم وتُعيد الكرّة في كل مَرّة بَدلاً مِن إتباع أسلوب التغيير السِلمي الدستوري. إن الثورة مِن الثورات، والثوَران مِن الثور، لذا هيَ فِعل هَمَجي فوضَوي لا يَنتِج عَنه سِوى الفوضى والدَمار، رَغم أن الثور أقل وَحشيّة مِن الإنسان أحياناً! فربما لو ترك للثيران أن تقوم ببَعض الثورات، ما كنا لنرى جُثثاً تسحَل وأشلائاً تعَلق ورؤوساً تقطَع، كما حَدَث مَع ضَحايا هذه الثورات.
[email protected]