23 ديسمبر، 2024 12:51 م

ثور، ماتادور ونظارة

ثور، ماتادور ونظارة

طالما جذبت اهتمامي لعبة مصارعة الثيران ليس لأني اراها رياضة حقيقية ولا لأنها جذابة وممتعة بل هي على العكس من ذلك في نظري، ولكن مع كل هذه السلبية التي احملها لها، الا انه ورغم كل ذلك اجد نفسي مشدودا لها وبقوة. وهذا الشد ليس بمعنى تتبع اخبارها او معرفة ممارسيها فهذا ليس من اهتماماتي بالمطلق ولو قلت اني لا اعرف أي شيء عن اسماء لاعبيها وعناوين ملاعبها لما جاوزت الواقع ولا حتى بشعرة واحدة. اجد نفسي منجذبا اليها لسبب اخر لأنها باختصار تشكل لوحة تعكس الواقع الذي نعيشه وكلما انظر الى مقطع منها اعيد التفكير تكرار ومرار والتأمل فيما يجري من وقائع واحداث ويعطيني هذا النظر فيها دفعة معنوية هائلة بأن لا اشعر بالإحباط مما يجري ومما ارى واسمع بل ويزيدني اصرارا ان لا اكون انا ومن احب من الناس (وهم كل الناس لا استثني احدا) ان نكون احد عناصر هذه اللوحة الدموية المروعة المقرفة في بؤس اخلاقها وقتامة مشهدها.

اما لماذا تشد اهتمامي فأقول وبتفصيل تأملاتي وخلاصاتي لكم التي استوحيها من هذه اللعبة فهي كما يلي:

1- الغباء المزمن للثور الذي يواصل اداء دور الضحية ولا يتعلم من تجارب أسلافه ومعاصريه من اقرانه بل يكرر في كل مرة نفس حركاته البلهاء في مطاردة عدو وهمي. عدو لا وجود له، بل عدو يخرج من العدم الى العدم، عدو لا يعرف له لونا لأنه فاقد الاحساس بالألوان ولا يمكن له ان يميزها. عدو لا يمكن ان يشكل خطرا على الثور ابدا حتى لو اراد ان يكون فعلا عدوا للثور ولن يكون لأنه ليس بخاطر معاداة الاغبياء. ولكن الثور يصر على مناطحة هذا العدو العدمي ويتحفز بكل ما يملك من قوة لمهاجمته بلا تردد ابدا. الثور يعرف ان مصارعه الماتادور يحمل سكاكين قاتلة يظهرها حينا ويخبأها اخرى وفي كلا الحالين يواصل التصديق وبحماس شديد بأكاذيب المصارع وبدلا من ان يوجه ضربة لهذا المصارع القاتل يواصل هجومه على اللا شيء حتى تخور قواه وعندما يبدأ جزاره بتسديد ضربات قاتلة له لا يتوقف عن مهاجمة العدو الوهمي بل يستمر في صراعه لأنه قد ادمن على تصديق الكذبة التي اختلقها عدوه واوهم نفسه بها وصار مؤمنا بها الى حد انه يواصل الموت عليها كل مرة ولا يقدر ان يصدق ولا حتى لمرة واحدة ان صاحب السكين هو عدوه الحقيقي وان السكين التي يحملها سوف يذبح بها بل يواصل تكذيب الواقع والتشبث بالأوهام حتى بعد تغرز كل سكاكين عدوه في ظهره. وهل اغبى واشد حمقا من ذلك

2- الخبث الذي يتسم به هذا المصارع فهو يصنع اوهاما لضحاياه ويتلاعب بها قبل ان يقتلها ولا تجد عنده ذرة رحمة لما يفعله بها من رذيل الاعمال ولا يفكر وان للحظة واحدة بأن يعتقها من القتل، بل يصر على ان يراها مضرجة بالدماء مواصلا طعنها يزداد قسوة عليها وتلاعبا بها كلما رأى منها ضعفا وانهيارا يتملكه زهو بأعلى مستوى عندما يثخنها بالجراح يتبختر جذلا مرحا فرحا بنجاح سخريته ومن غباء ضحيته. وكلما ازداد خبثه ودهائه زادت مكاسبه وعلا نجمه وصار مهابا قويا عظيما تصفق له النظارة بحماس وتهزج باسمه وتتعالى صيحات تشجيع وحماسة له من نظارة محتشدة.

3- جمهور يعشق القتل ويرى في القاتلين ابطالا ويرى في الخبث ذكاءً مفرطا وفي القسوة مهارة وابداعا ويخصص مراتب عليا ويصبح السفاح الجزار مثلا اعلى لهم ويشجعوا أبنائهم على الاعجاب هذا الخبيث الغليظ عديم الاحساس متحجر القلب وتعليق صوره وكيل المديح له والاشادة ربما حتى في اشعارهم. جمهور يرقص على انغام الموسيقى الساحرة ويتبادل كلمات عشق رومانسية ويتبادل الزهور الفواحة العطرة، يدعي تخمة بمشاعر رقيقة ويبالغ بمظاهر الرفق والرقة الانسانية وبأشياء اخرى لربما لا تليق بأحد الا ان تكون من صفات ملائكة خيالية اقترحها البشر لحمل كل ما عجز عن بلوغه من سمو خلق ورقي، ولكن مع كل ذلك لا يهتز لهذا الجمهور الانيق الوسيم الرقيق جفن ولا ترتجف له شعرة وهو يرى الخبث والمكر يطيحا بضحية بريئة في مشهد دامي مروع ولا ذنب لهذه الضحية سوى انها جاءت الى هذا الوجود بقدرات ذكاء محدودة ولم يكن لها من الامر شيء. جمهور يرى من حقه ان يهزا بآلام غيره وتوجعه ولا يخاطر بمراجعة نفسه عن قبح المشهد وشناعة الفعل، يرى كل ذلك من حقه فقط لأنه مختلف عنه وان غيره ادنى منه في قوة الدهاء. ويواصل هذا الجمهور الحضور في كل مرة لمتابعة هذا الفصل المفجع وعلى التصفيق للمجرم ويزداد اكبارا له كلما برع واوغل في جريمته. ويظن ان الضحية ليست بريئة بل تستحق الهزء والقتل بذنب اختلافها عنه.

تشدني هذه اللعبة السخيفة على الاصرار ان لا اتقمص دور الثور الغبي في أي لحظة يتسنى لي ان اعيشها وان لا اطارد اوهاما وحكايات جوفاء يخلقها عدوي، بل تعلمني ان اصوب نظري بحدة الى السكين وصاحبها دائما وابدا وان لا احيد عنهما ، بل وان اواظب على مهاجمتهما ما حاولا مصارعتي، وان يكون الاصل عندي والقاعدة ان كل حركة من هذا الذي يريد ان يصارعني هي خطوة جديدة لقتلي لا احسن الظن به ابدا لأنه ما جاء يصارعني الا ليقتلني واني متى سهوت عنه وان لطرفة عين فلن يغير ذلك من الحقيقة بشيء ولن تكون تلك فرصة له ليبدل رأيه بل انها ستكون فرصته السانحة لتنفيذ خطته في ذبحي والسخرية مني.

وتعلمني ان احتقر هذا الجمهور الذي يسمي القتلة لاعبين عظاما ويسلمهم الريادة والقيادة ويدهم يخوضا في الحلبة منفردين يعينهم كومبارس لا يتورع عن ممارسة الجريمة بل ويضحي بنفسه احيانا لتكتمل الجناية.

وان اهزأ من هذا الجمهور المتوشح بعناوين التحضر لان استحقاقه الحقيقي هو الاحتقار لا غير هو وكل دعاويه ومظاهره التي يسميها حضارة وتمدن ورقي.

قاتل كهذا المصارع الخبيث لا يخطر في بالي ان اسميه عظيما لأنه لا يجدر به الا ان يدعى سفاحا ميت القلب. واحذر ان تراودني فكرة تعظيمه لأنه متى حصل ذلك لي وان في غفلة فسوف افقد كامل انسانيتي التي هي سر وجودي وبخلافها لن اكون ذي جدوى ولربما يفضلني حتى الصخر القاسي.

من حلبة المصارعة هذه خرجت بموعظة تقول: لا تكن ثورا ولا تعظم سفاحا ولا تعجب بمتأنق وسيم يصفق لجريمة.