18 ديسمبر، 2024 9:01 م

ثنايّة الثورات و الإعدامات

ثنايّة الثورات و الإعدامات

”الثورة، كما في الروايات، الجزء الأكثر صعوبة فيها، هو ابتكار نهاية لها”  ألكسيس دي توكفيل
 
منذ انقلاب ألقذافي على الملك السنوسي، الذي سمّاه، تجاوزا ، بثورة الفاتح من سبتمبر، وإلى فترة ما قبل انطلاق الربيع العربي، كان المواطن العربي، باستثناء السوري والعراقي والليبي وربما اليمني والموريتاني، لا يكاد يسمع أو يلفظ عبارة الثورة إلا لماما وبصفة عرضيّة. ولا تحيله  كلمة الثورة إلّا إلى تمثّل الثورات العظيمة  التي غيّرت وجه التّاريخ.
فالمواطن العربي،يذكر بإجلال،  الثورة الفرنسيّة التيكانت نقطة تحوّل في تاريخ أوروبا من المسيحيّة إلى اللادينيّة، والتيقضت على الملكلويس السادس عشر وزوجته انطوانيت وولدهما الذي مات في السجن وهو دون الثانية عشرة. كما قضت علىالنبلاءوالإقطاعيينوالإكليروس. لكنّها جاءت بظلم نابليون و الرأسماليين ومن قبلهم جاءتبقائد الثورة السفّاحالكبير “روبسبييرRobespierre الذي قطع رؤوس اثنين وثلاثين ضحية في ثمان وعشرين دقيقة!! وتباهى متفاخراً بقوله:”إنني سأجعل خط الحدود بيني وبين أعداء فرنسا من حولنا نهراً من الدماء”.كما جاءت بالطبيب جيلوتين مخترع المقصلةالتي قطعت رؤوسآلاف الأبرياء والشرفاء تحت شعار الثورة وقانون المشبوهين الذي وضعه Robespierreليتيح اعتقال وإعدام أي شخص يتّهم بالعمل ضدّ “الثورة”.هذا، إضافة إلى الزجّبأكثر من 200 ألف آخرين في غياهب السجون والتعذيب.
والمواطن العربي لا يزال يذكر بنوع من الرهاب،الثورة البلشفيّة الحمراء التي قضت على القيصريّة ورموزها حيث أعدمت، رمياً بالرصاص،  ليس القيصر فحسب بل وكافة أفراد عائلته دون استثناءلأحد.لكنّها سرعان ما جاءت بجوزيفستالين الذي وصف بالشيطان الأكبر لما أقترفه من أهوال وفضائع. حيثكان يعتبر مجرّد الاختلاف معه في وجهات النظر إنما هو دليل على مناهضةالثورة، وهو ما أدّى إلى حدوث عمليات تطهيرونفي وإعدام بالجملة. حتّى بلغ عدد الضحايا على يده حوالي خمسين مليون شخص، بين سنتي 1927 و1953.يضاف إليهم من نفّذجوزيف ستالينفي حقّهم عقوبات بالترحيل ألقسري إلى صحراء  سيبيريا الجليديّة، وكان من بينهم المناضل والمفكر الماركسي الشهيرليون تروتسكيLéonTrotsky، منظّر الحزب الشيوعي ورفيق لينين وستالين أثناء الثورة وقبلها.
ولا يزال المواطن العربييذكركذلك، الثورة الإيرانيّة التي خلعت الشاه وأسّست لجمهوريّة إسلاميّة تؤمن بولاية الفقيه ويحكمها الملاليبقيادته. لكنّهاعانت ، منذ البداية، صراعات بعض رجال الدين السياسيين على السلطة، و قد وبّخهم الخميني بقوله: “توقّفوا عن عضّ بعضكم البعض، كالعقارب.” ثمّ هي حاربت الأفكار المعارضة لها بالقتل بكل وحشيّة،وكان جزّارهذه الثورة  هو آية الله صادق خلخالي ، الذي أصدر بيانا – في نهاية الثمانينات – أشار فيه: “أنّه أعدم ما يقارب الألفي شخص، ومن المحتمل أن يكون بين هؤلاء بعض الأبرياء، ممن سيكافئهم الله، بمنحهم غرفة أكثر سعة من الغرف العادية في الجنّة، وحوريات أكثر جمالا”؟!. وقدظلّت الثورة الإيرانيّة منذ قيامها، فيصراع دائم مع الغرب، بل إنّها اليوم في مواجهة معه، مفتوحة على أبواب المجهول، لا يعلم  مداها أحد، وقد تعود بها إلى القروسطيّة.
أما الثورة المصريّة التي قادها عبد الناصر، فرغم أنّها اقتربت من الثورة في منجزاتها التي قرّبتها من الطبقاتالكادحة ،الفقيرة والمسحوقة، فإنّها بالأساس لم تكن سوى انقلابعلى الملك فاروق من قبل من عرفوا بالضبّاط الأحرار. وهذه مفارقة باعتبارأن أوّل ثورة شعبيّة في التاريخ البشري منذ 3195عاما، كانت ثورة المصريين القدامى على الملك بيبي الثاني في أواخر الأسرة السادسة. وهو الملك الذي حكم مصر طوال 94 عاما كاملة ومات وعمره قرنا من الزمن.وقد وصف المؤرخ المصري الكبير سليم حسن هذه الثورة، بأنها ”كالثورة البلشفية –تماما- قد حطّمت وهدّمت كلّ شيء..
المجتمع العربي المعاصر، إذن، كان بالأساس انقلابيّاأكثر منه ثوريّا. لذلك فمنذ خمسينات القرن الماضي توالت الانقلابات على الدول العربيّة بوتيرة سريعة، لا سيما في سوريا والعراقوالسودان واليمن وموريتانيا. وهو ما ساهم  بشكل أو بآخر في تردّي أوضاعه إلى اليوم، لأن العسكر ليس مؤهلا للحكم الديمقراطي الرشيد ولو قام بانقلاب ناجح. ومكانه الصحيح بالثكنات والجبهات القتالية، وليس بدوائر القرار السياسي، التي لها رجالاتها التي تكوّنها النضالات الحزبيّة.
إلاّ أنّه، ومنذ انطلاق الربيع العربي من سيدي بو زيد، وهو الذي أدّى إلى سقوط الأنظمة السياسية في كل من تونس، ومصر، وليبيا واليمن- ولو بصفة غير جذريّة-وإلى وشك نهاية النظام في سوريا وربّما في  البحرين، وغيرها من بلدان الوطن العربي الكبير،  قفزتكلمة الثورة إلى واجهة الإحداثوالتداول.وأصبحت لها جاذبيّة خاصة ووقع سحريّ في النفوس. وبدرجة أقل طفت على السطحعبارة الحداثة التي طغت على الأحداث السياسية والثقافية في إطار جدليّة القدامة والحداثة، لا سيما في تونس،بداية، بعد عرض فيلم نادية الفاني ”لا ربّي ولا سيدي”والبث التلفزي لفيلم الرسوم المتحركة الفرنسي الإيراني “برسيبوليس”. وقد أعتبرتهما شريحة واسعة من التونسيين مسيئان للإسلام فيما أعتبرهما الحداثيون مجرّد تعبيرات فنيّة مؤشرة على حريّة التعبير والإبداع الضروريّة لمرحلة ما بعد الثورة في سياق تحقيق أهدافها .يضاف إلى ذلك المطارحات الفكريّة  الجريئةوغير التقليديّة التي قدّمها المفكر الإسلامي التونسي محمّد الطالبي  حول الصحابة ووصفه لهم بعدم العصمة ووصفه للسيّدة عائشة، إحدى زوجات الرسول بالعهر.ثم  تواصلت جدليّة الاصالة والحداثة، أثناء الحملات الإنتخابية في  كل من تونس ومصر، بل وحتى في ليبيا بعد مقتل القذافي وانقسام المجلس الإنتقالي بين محافظ وحداثي أو إسلامي ويساري. ولا أخال أحدا في العالم العربي كلّه، اليوم، من الماء إلى الماء، لم يستعمل كلمتي الثورة والحداثة مرارا وتكرارا، بمناسبة وبغير مناسبة لغاية ركوب الموجة الثوريّة والحدثيّة، التي اكتسحت كل الفضاءات الإجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والفنيّة، لابل وحتّى الرياضيّة.
اللافت في هذا السياق، أن تداول هذه التعبيرات،غالبا ما يكون في غير مكانه،ومجانبا للصواب، لأن المفهوم الشعبيلها غير مفهومهاالإصطلاحي أو المعجمي.
 فليس من أهداف الثورات، أن تُحدث التغييرات الجذرية الشاملة والفورية. لأن ذلك عصيّ على أية ثورة، سلميّة كانت أم مسلحة ودمويّة. ثمّ هو يتطلّب عصا سحريّة، أزعم أن لا أحدا يمتلكها بعد النبيّ موسى الذي نجا بفضلها على فرعون الذي استحقّ الثورة عليه وهو القائل بصلف”مَا أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سبيل الرشاد”
ولكن الجماهير الشعبيّة عادة ما تنتظر من الثورة، إحداث التغيير الشامل والفوري لكل مناحي الحياة. وهو ما لا طاقة لأية ثورة به مهما كان زخمها. إلا أنّ الثورة لا تكون كذلك إلا إذا أحدثت انقلابا جذريا، هائلا ومتدرّجا في السياسة والبُنية الاجتماعية ، فبشّرت بالعدالة وجاءت بالمساواة وقضت على الظلم و المحسوبية والرشوة وما إلى ذلك من الآفات الاجتماعية و الاقتصادية
وأحاطت بالفقراء، ووفّرت الصحّة للجميع، والشغل للعاطلين أو المعطّلين  عن العمل.
وأوقفت تدهورالاقتصاد وصحّحت مساره بما ينقذه من الإفلاس.وهو الفعل الأهم الذي لم يحدث إلى اليوم، لا في تونس ولا في مصرولا في ليبيا. ذلك أن الشعوب العربية المتحررة الآن أفلتت من قبضة العسكر لتجد نفسها في قبضة محترفي الإسلام السياسي أو الإسلامويين. في حين أن العسكر والشيوخ الإسلاميين ليستوظيفتهم ممارسة السلطة. بل إن مهامهم الأساسيّةومكانهم الطبيعيهو ما بين الثكنات العسكرية وجبهات القتال وما بين أقبية الجوامع  ومنابر الدعوة ليس أكثر.وفي خلاف ذلك يكونون قد خانوا الوطن والدّين واضروا يهما،في آن معا، من حيث أرادوا خدمتهما. تؤكد ذلك وتدعمه كل تجارب الحكم العسكري في كافة أرجاء الوطن العربي وتجارب الحكم ‘الإسلاموي’ في كل من إيران و أفغانستان والصومال..