لا شك بان المرحلة التي عاشها العراقيون ايام السلطة الدكتاتورية السابقة هي إستثنائية في كل شيء بامتدادها الزمني وبإستبدادها السياسي وبقمعها لكل ما هو إنساني . كل ذلك لا يمكن نكرانه أو تجاهله , غير أنّ هذه الحقيقة رغم مرارتها , لا تجيز بأنْ نجعل منها ثوبا يتلبّسنا كقدر لا فكاك من قبضته . أنّ سنوات الماضي , هنّ وفق معايير صرامة الحتمية التاريخية , صرْنَ بكل تأكيد , ماضيا لا يستحق حتى عرضه في صالونات للبغايا , لأنهنّ ــ ربما ــ يتعففْن من صفحاته السوداء . وقد يعترض معترض ,وهو محق , بأنّ آثار ومساويء مرحلة الماضي لا زالت ماثلة في أزقّة أذهاننا , أقول نعم ,لكنها بلا روح , فهي أشبه شيء بجلد أفعى منزوع , يجفل الرائي أوّل وهلة , لكنه سرعان ما يتنبّه له ويتيقّن بأنّه ليس أكثر من جلد لا حياة فيه .
في الأوضاع الحالية , يفترض , ووفق الحسابات المنسجمة مع المرحلة ومتطلباتها ,أنْ تكون ذواتنا طوع إرادتنا , لتزيح عن كاهلها ركام الماضي بكل صوره الإستبدادية العنيفة , وأيضا , لتسْتلّ سيف حريتها وتشهره بوجه كل مظاهر العنف والإستلاب التي ما عادت مقنعة حتى لمعتنقيها .لا ننكر أنّ ذواتنا بارعة في رسم شبح لعدو ما زال يمسك بزمام الامور ونتخيّله ُممْتلكا لقوة سحرية يستطيع بها دعوتنا مكبّلين لولائم عرسه الدموي , فبلغ الامر بالبعض , نتيجة إستسلامه لهذا الوهم , أن تذهب به ظنونه بأنّ هذا العدو بصدد القيام بإنقلاب عسكري ضد الحكومة . هكذا هي مهارة الذات في صنع الوهم .
أنّ أخطر ما في حاضرنا العراقي , هو تفاعل ثنائية الثقافة والسياسة وحضورها الملحوظ في الساحة ,فأنّ الهدم والبناء مرهونان بتآلفهما أو تقاطعهما , ويؤسف أنّ الواقع الراهن يعكس توسّع الفجوة بينهما بالرغم من أنّ بعض المظاهر تشير الى عكس ذلك ,وهي مظاهر قد لا تكون دقيقة أو صادقة أصلاً .
السياسي بشكل عام , لم ينتصر تماما على ذاته , فظلّ أسير خطابه الموزع بين الإلتصاق بإجواء حقبة المعارضة التي عاشها سابقا وبين حاضر عنيف ينظر له في معظم الأحيان بعين الماضي أيضاً , فتراه يبرّر الإخفاقات الحاصلة على مستوى الحراك السياسي وما يتمخض عنه من سلبيات , فيردّه الى فقدان الحالة الأمنية , متناسيا الدور الذي يلعبه هو , بشكل مباشر أو غير مباشر , في رفد وتائر العنف بالنمو من خلال تبنّيه , عمدا أو جهلا , لخطاب يزرع فيه ما أمكنه , من الأسلاك الشائكة لا بل من العبوات الناسفة أمام الآخر ليمنعه من الإقتراب الى مملكته , وكذا هو رد فعل الآخر أيضا . وفي قبال هذا الدور هناك دور المثقف الذي يشكل ثاني إثنين من الثنائية التي أشرت إليها . فهو الآخر ما زال يختلق وهم التهميش فيصيّره شماعة يعلّق عليها برود همّته في عدم تفاعله كمثقف , في الكشف عمّا ينبغي كشفه والسعي لبلورة خطاب يتجاوز الاطر التي يتعامل بها السياسي مع الأحداث . فظلّ خطابه تعوزه الرؤية الجلية التي يخترق بها حجب التمظهرات الآنية , ليستشرف آفاق المستقبل بكل إحتمالاته , وهذه النقطة بالذات هي التي تميز رؤية المثقف عن التعامل المهني للسياسي مع الحدث . وازاء هذه الإشكالية , يصبح لزاما على ( صنّاع ) الثنائية المذكورة من وقفة نقدية شاملة توضع فيها الرؤى والأفكار على بساط البحث الجدي البعيد عن الشعارات الجاهزة وإلاّ فمن دون هذه المراجعة النقدية الشاملة , سوف نترك ذواتنا , ليس كمثقفين أو سياسيين فحسب , بل كأفراد من هذا الشعب , تدور في فلك يريده المتربصون لنا , لنبقى محلقّين فيه بأجنحة كارتونية .