بالأصل إن التوحيد لله سبحانه كإله واحد لا شريك له ولا شبيه ولا مثل ولا مثيل ولا مثال ولا ند . كذلك إن الله عزوجل كخالق للمخلوقات كلها وللكون والعالمين كلهم ، هو مدار وأساس الديانة الزرادشتية والأديان السماوية كلها بشكل عام ، لكن العديد من المؤرخين والباحثين لم يفلحوا من فهم دقيق وصائب لفكرة التوحيد الزرادشتية ، ولفكرة قوة النور والخير مقابل فكرة الشيطان ، بالتالي فهموا وتوهموا إن الزرادشتية قائمة أسسها على مبدأين ، هما : النور والظلام ، أو الخير والشر ، وهما بحسب فهمهم قوتان متساويتان ، لكن العكس هو الصحيح في ذلك .
لقد جاء ذلك الفهم الخاطيء بالحقيقة بعد وفاة نبي الله زرادشت ، حيث طرأت على الديانة الزرادشتية تطورات وتغيرات وتحريفات وإضافات لم تكن موجودة بالأصل فيها ، بخاصة بعد حادثة الأسكندر المقدوني التي أشرنا اليها أكثر من مرة ، وهي حرقه للمعابد وكتاب [ الآويستا ] الديني الزرادشتي خلال هجومه على بلادفارس وآحتلالها عام 325 ق ، م .
وقد تناسى هؤلاء بعد عدم تدقيق وآستقراء صحيح لكتاب ( آويستا ) والنصوص التوحيدية الخالصة الواردة فيه إن الحجر الأساس في الديانة الزرادشتية ، هو التوحيد والوحدانية والفردانية المطلقة لله الخالق سبحانه وحده لا شريك له .
ففي الديانة الزرادشتية التوحيدية لا إستقلالية أبدا لصراع قوى النور والظلام ، أو قوى الخير والشر ، إذ كلاهما غير خارجة إطلاقا عن سلطان الله جل في علاه ولا عن إرادته ومشيئته وسننه المبثوثة في الكون والحاكمة عليه . وهذا مؤداه الحقيقي ومعناه ومغزاه الواضح ، كل الوضوح إن الله تعالى الخالق لكل شيء ، وهو سبحانه المدبِّر لكل شيء ، وهو وحده تعالى المؤثِّر في العالمين والحاكم عليهم .
عليه ، نجد إن عقيدة التوحيد ، هي أصل الأصول في الديانة الزرادشتية ، أما الثنائية فهي طارءة عليها ودخيلة فيها ، وقد إلتبس هذا ، أي الثنائية المزعومة على الكثيرين الذين بحثوا في الديانة الزرادشتية ، وذلك – كما قلنا آنفا – لعدم مراجعتهم الإستقرائية والتحليلية الدقيقة والصحيحة للنصوص والآيات التوحيدية الخالصة الواردة في ثنايا كتاب ( الآويستا ) ، منها ، وهي الأهم والأولى لآتِّخاذها مصدراً ومداراً في المتابعة والإستناد والقبول أقوال النبي الكريم والحكيم زرادشت نفسه :
ألف / { إلهي .. الآن ، ومن البداية يداي مبسوطتان أدعوك وأصلِّي لك وأسألك العافية والطمأنينة } ينظر كتاب ( آويستا ) ، تقرير وتحقيق جليل دستخواه ، الترجمة الفارسية ، ج 1 ، ص 7
ب / { إلهي .. خالصا مخلصا توجهتُ اليك ، فأكرمني بثواب الدارين } ينظر نفس المصدر والمقرر والمحقق والترجمة والصفحة المذكورة
ج / { إلهي .. فليخسإ الشيطان الضعيف والملعون والرجيم والمطرود }. ينظر نفس المصدروالمقرر والمحقق والترجمة المذكورة ، ج 2 ، ص 581
في هذا الشأن أيضا يقول الباحث الكوردي فرهاد عبدالحميد : ( لكن لنعرف ، لماذا آنتشرت هذه الأفكار من إن الديانة الزرادشتية ، هو دين ذو إلهين للتعبد . لقد صدر هذا المفهوم للعديد من الكتاب ، حيث أخطأوا في أن < أهريمن > ، أو < أنغرمينو > [ أهريمن وأنغرمينو ، هما لفظان أطلقهما زرادشت على الشيطان ، ومازال اللفظ أهريمن مستعملا في اللغة الكوردية حتى اليوم كلفظ ودلالة على الشيطان . م عقراوي ] ، هو قوة أمام ومقابل < أهورامزدا > ، [ أهورامزدا : يعني الله الحكيم العليم في لغة زرادشت وخطابه . م عقراوي ] ومنافسا له .
وقد توضَّح لدينا إن نصوص الغات [ الغات هو نصوص آويستائية . م عقراوي ] لم تصرِّح بأن < أهريمن > ، أو < أنغرمينو > ، هو مقابل ل< أهورامزدا > ، لكن بالشكل الذي تم فيه وصف الخير فقد تم وصف الشر أيضا ) ينظر كتاب ( زرادشت وفلسفة التوحيد ) ، جمع وإعداد فرهاد عبدالحميد ، النسخة الكوردية ، ص 127
ويقول الباحث الايراني الزرادشتي أرباب كيخسرو شاهرخ في نفي الثنوية عن الديانة الزرادشتية : ( إن لفظ أهورا الذي أطلقه زرادشت على الذات الأحدية كثير في جميع أنحاء الآويستا ) ينظر كتاب ( زرادشت النبي الذي يجب أن يُعْرَفَ من جديد ) لمؤلفه أرباب كيخسرو شاهرخ ، النسخة الفارسية ، ص 56
كذلك في هذا الصدد يقول الباحث العربي الدكتور الشفيع الماحي أحمد في دحض فكرة الثنائية عن الديانة الزرادشتية : ( فكرة التوحيد إذن قوية في الدين [ قصد الدكتور أحمد هو الدين الزرادشتي . م عقراوي ] لا تكاد تخفى على أحد ، والثنائية التي خدع بها الكثير ليست منبثقة في الأصل من التوحيد ، وإنما من فكرة الصراع والتنافس بين قوى متوهمة ، ولعل هذا ما قاد بعض الباحثين الى التحفُّظ تارة والإستدراك تارة أخرى في أصل الإعتقاد الزرادشتي ، فقال جماعة منهم : إن الثنائية في الدين نظرية ، ومال آخرون الى تأكيد أن الثنائية هي ثنائية في الظاهر فقط ) ينظر كتاب ( زرادشت والزرادشتية ) لمؤلفه الدكتور الشفيع الماحي أحمد ، ص 39
فالذي أوردناه آنفا من مختلف المصادر والوثائق ، هو أدلة دامغة على توحيدية الديانة الزرادشتية وبُعدها من جانب آخر عن الثنائية التي أُلصقت بها ، أو إنه قد أُسيء فهمها.