23 ديسمبر، 2024 3:25 ص

لقد إبتلى العراق منذُ نشوء الدولة العراقية الحديثة وخاصة بعد ظهور الأحزاب الأيديولوجية بمختلف مسمياتها على الساحة السياسية بقادة سياسيين تميزوا بالآنا وحبهم للسيطرة والإستعباد السلطوي تحت غطاء الشعارات (الوطنية) البرّاقة التي كانت تسوّقها أحزابهم في أدبياتها والتي ما من شك قد آمن بها المبدئيون ممن إنخرطوا في تلك الأحزاب عن إيمانٍ وقناعةٍ ودفعوا حياتهم ثمناً لها، لكن الإنتهازيون من تلك الأحزاب كانت لهم الغلبة دائماً بإعتلاء المناصب وإحتلال المراكز الأولى في السلطة وهم في غالبيتهم قد إنحدروا من الطبقات الشعبية المسحوقة حاملين معهم عُقد الفاقة والحرمان التي ورثوها من بيئتهم.

غير أن الحال قد يختلف مع البعض الآخر الذين نشأوا تحت نفس الظروف لكنهم لم يتمكنوا من بلوغ المناصب لزهدهم في السلطة ومغرياتها ولقناعتهم من أن هدفهم هو تحقيق حلمهم في بناء دولة يسودها العدل وتنحصر تحت لوائها الفوارق الطبقية، مما أتاح (لرفاقهم) المتطلعين الى السيطرة وحب الذات سرقة جهود نضالهم ومن ثمّ إزاحتهم من المشهد السياسي لينفردوا بالحكم ويبدأوا بتسخير الإستحقاقات السلطوية المكتسبة من مواقعهم لمصلحتهم الخاصة، لا بل تعدّت إستحقاقاتهم الى تجاوز القوانين النافذة أو حتى تغييرها لتتلائم مع تطلعاتهم الغير مشروعة.

إنّ القادة الثوريون الذين تدعي أحزابهم بأنها إنبثقت من الشعب والى الشعب تعود، سرعان ما يتأثرون بسلوك الطبقات التي يطلقون عليها (البرجوازية) ممن نبذوهم خلال فترة حياتهم النضالية وبطريقة مشوهة لا تمت للواقع بشيء، إذ أن معظم تلك العوائل (البرجوازية) العريقة قد غرست في سلوك أبنائها الصفات النبيلة لتكون وسيلة ردع أخلاقية لهم إذ ما تجرؤا لعمل غير حميد يسيء الى عراقة عوائلهم وسمعتها (ولنا في ذلك مئات الأمثلة على بساطة معيشتهم ونبل سلوكهم).

فلقد طبّق الثوريّون مقولة الكاتب البريطاني ويليام غودوين: ” الثورة تحدث نتيجة الإستبداد والطغيان، ولكنها نفسها حُبلى بالطغيان”.

لقد حاولتُ في هذه المقالة ان أكون مُنصفاً فبحثتُ عن رئيس واحد جاء عن طريق الأحزاب الثورية/الأيديولوجية التي أطلق البعض عليها ظُلماً (أحزاب الشعب) لإعطيه كمثلٍ على شواذ

القاعدة التي أوردتها في مقالتي هذه عن دكتاتورية الحكام الثوريين وفسادهم وترفعهم على الشعب فلم أجد !!.

ولا أعلم لماذا يطالب (المناضلون) الشعب بدفع ثمن نضالهم بمليارات الدولارات حين يتبؤون المناصب الحكومية فيعوضوا سنوات (نضالهم) المعدودات على أصابع اليد بالعيش الرغيد والحمايات التي يفوق تعدادها جيوش بعض الدول في العالم، وتباح ميزانية الدولة بملياراتها لهم حتى الى يوم مماتهم، ثمّ يورثوها لأبنائهم وهكذا دواليك، وحيثُ يمسك كل (مناضل) بمصباحه السحري ليفركه ساعة ما يشاء هو وافراد عائلته ليخرج المارد ويقول له “شبيك لبيك” إنّ العراق بين يديك.

فمن الذي سيدفع للشعب العراقي ثمن نضاله لأكثر من خمسين عاماً قضاها بالإنقلابات العسكرية والتناحر الأيديولوجي بين الأحزاب، والحروب التي أخذت منه مئات الآلآف من أبناءه، وحصار جائر تجرع فيه الويلات والمآسي، وإيثار قلّ نظيره قدم فيه تضحياته على مذبح القرابين الذي بات في كل شارعٍ وزقاق لا بل حتى داخل كل بيت عراقي، وحيثُ تنتظر كل عائلة عراقية دورها في الهلاك أما بسقوط قذيفة على سطح الدار أو بإنهيار سقف الدار على من فيه نتيجة الأمطار والفيضانات أو إنهيار سد لم تولي الحكومات المتعاقبة الإهتمام اللازم لصيانته، أو تدمير الشارع بمن فيه بسيارة مفخخة، ومن سيدفع للملايين من الأرامل واليتامى والمعوقين والمهجّرين ثمن نضالهم ؟!!.

مسكينان هما المهاتما غاندي ونيلسون مانديللا، حيثُ لم يطالبا شعبيهما بثمنٍ لنضالهما اللذين أفنيا سنوات عمريهما لخدمة القضية التي آمنا بها .

لقد فقد الشعب الثقة بالأحزاب الأيديولوجية وبمن أطلقوا على أنفسهم (المناضلين) الثوريين الحاملين للشعارات الديمقراطية وحكم الشعب مع أول حادثة قتل وترهيب طائفي أرتكبت بإسم الثورة في نظامها الجديد، ومع أول حادثة فساد كان أبطالها قياديي تلك الأحزاب، ومع أول وعد نقضه منظّريهم الذين ملؤوا الدنيا ضجيجاً بوعودهم بشمس الحرية والرخاء والعدل التي ستشرق على الشعب حالما يستلمون السلطة، لكن غيوم الفساد والقتل السوداء التي نشرتها أحزابهم المافيوية قد حجبت الشمس الموعودة عن سماء العراق منذ زمنٍ بعيدٍ.

وأختتم مقالتي بقول الكاتب الفرنسي جان جينيه: “الهدف الرئيسي للثورة هو تحرير الإنسان، وليس تفسير أو تطبيق بعض الأيديولوجيات المتطرفة”.