18 ديسمبر، 2024 7:52 م

كنت في مكتبٍ للتأمين أنتظر دوري فرغبت بتناول قدح من القهوة. وهي متوفرة هنا مجاناً في أكثر المكاتب والعيادات والشركات والمستشفيات . تتناولها حسب طلبك وذوقك. فطلبتُ من الموظفة مساعدتي بإعدادها لي في ماكنة القهوة .وحينها جرى إتصال هاتفي بيني وبين ولدي المهاجر في بلد آسيويٍ بعيد. ضرب به رسول الله الأكرم مثلاً عندما قال ((أطلب العلم ولو في الصين )). ولم يهاجر ولدي لطلب العلم فهويحمل شهادتين في الهندسة ولكنه هاجر للأمن والأمان والعمل. فاليوم أصبحت للهجرة أسباب عديدة. وأثناء المكالمة سألتني الموظفة وكانت عربية :كيف تحب قهوتك؟ فأجبت من اللون البني الفاتح, وبلا سكر و كافايين .فبادرني ولدي مازحاً: ماذا يا أبي هل هذه زوجة أخرى!؟ فقلت له: يا بنيّ هذا ثمن مرارة الغربة والحسرة على وطنٍ أبعدنا الأشرار عنه. بعد أن إقتحمت عصابة مسلحة دارنا وقيدتك وأمك وأباك وسلبتنا ما نملك. بعد أن ضربتنا وكبلت أيدينا. وبعد أن أبدى المسؤولون إهتماماً بالأمر لمكانتنا في المجتمع . وأمرت الأجهزة الأمنية كافة والعسكرية خاصة بحمايتنا. وبقدرة من رب العالمين ألقت السلطة العسكرية القبض على أحد الجناة .وشاهدناه معتقلاً بأم العين. ولكن بقدرة قادر أيضاً إختفى هذا المجرم وأختفت القضية ولم يعُد لها وجود. والأغرب إن أحد المسؤولين الأمنيين قال لي: لماذا يا أستاذ لم تبلغنا بوجود أموال بهذا الحجم في دارك وتعطينا فقط مائة دولار كل ليلة لحمايتك.
فقلت لولدي: يا ولدي أن ثمن الغربة أني آمنٌ في بلد يُحتَرَمُ فيه الأنسان .ومَنْ قدمتْ لي القهوة وهيأتها لي موظفة تحترم الزبون والمراجِع. فهكذا هي دوائر الدولة والمؤسسات هنا لا رشى ولا تمييز ولا تهميش.مجتمع يحكمه القانون . والقانون فوق الجميع إن كانوا مقيمين أو مواطنين .مجتمع سيارة الشرطة ومن عليها مُهابة مُحترمة .لا يستطيع أحد تجاوزها إن أطلقت صافرتها ولايجازف أحد بعدم الأمتثال لأمرها .مجتمع الكلُّ يتعاون مع الشرطة ولا يخفي عنها شيء.بلد لا فرق بين عرقٍ وآخر .ولك الحق في إبداء رأيك دون مساءلةٍ . وإن كان مخالفاً لسياسة الدولة وبرامجها, كما أكتب وأنشر من مقالات واضحة صريحة.مجتمع هيأت فيه الدولة لكبار السن من ذوي الدخل المحدود السكن بأجرٍ رمزي لا يتجاوز ال 150 دولار شهرياً.و الرعاية الصحية والأجتماعية الكاملة مجاناً من علاج ودواء ونقل للمستشفيات والعيادات والخدمة المنزلية . خدمات تتضمن إرسال معين لك ليعينك في الحمام وقطع أظافرك وطبخ طعامك. مجتمع وفرت فيه إدارة المدينة مبيتاً لمن لا سكن له, ممن هم في سن العمل ولكن لا يمتلكون دوراً تأويهم(( هوم لس )) فوفرت لهم ملاجئَ للمبيت والأستحمام وتناول العشاء والفطور المجاني . يغادرونها في الصباح ليفتشوا عن عمل. بلد يعرف شعبه الحلال والحرام دون حاجةٍ لولي فقيه ولا معممٍ جاهلٍ يُفتي عليك دون علم حقيقي بأمور الدين السمح وتعاليم الله السمحة الرحيمة. تعاليم مَنْ قالَ (( كتب على نفسه الرحمة )). مجتمع لا يحق لأحد أن ينتقدك لدينك أو مذهبك, حتى إن كنت غير متدين أو كافر .تعلن عن كفرك معاذَ الله بالكتابة بأحرفٍ كبيرة بارزة بلغتين (أنا كافر).
ومع كل هذا أنا على أتمِ إستعداد للتخلي عن كل هذا. إن توفرت لي الكرامة والأمن في بلدي . فليس عندي أغلى منه ولا أحبُّ.ولكن كيف ومتى ؟؟ .وكيف يستتب الأمن في بلدي؟. والحكومة بأركانها تعترف وتقول إن جرائم الخطف هذه جرائم كبرى. تهدد أمن البلد. ولا يمكن السكوت عليها .وإنها أمرتْ بإجراء التحقيق و الكشف عن الخاطفين وإحالتهم للقضاء. وبنفس الوقت تفاوضهم . فكيف لا تعرف الأجهزة الأمنية من هم الخاطفون ولمن ينتمون وهي تفاوضهم؟ كيف لا تعرف الأجهزة الأمينة مصدر الفدية التي صادرتها الحكومة من الطائرة القطرية ؟ ألم يسأل المحققون مَنْ كانت معه الأموال عن مصدر هذه الأموال؟ ولمن ستُدْفَع هذه الفدية؟ أمْ إنَّها لفلةٌ وتمييع للقضايا ليسدَلَ عليها الستار كالعادة . وكيف آَمنُ على نفسي وعائلتي في بلدي . والخاطفون يتجلون ويسرحون ويمرحون بسيارات مضللة, بكل حرية وشوارع العاصمة دار السلام التي إفتقدت الأمن والسلام.مخترقين السيطرات ومقرات الأجهزة الأمنية بكل صلفٍ ووقاحة.
لقد أطلق الخاطفون سراح الشباب الناشطين السبعة, بعد أن عصبوا أعينهم ورموهم على قارعةالطريق. بعد مفاوضات مع الخاطفين وربما بعد توسل وتذلل . لأن رائحة فساد الدولة وتخاذلها مع عصابات الجريمة المنظمة أزكمت الأنوف.
ألم يقل أحد رؤساء الوزارات بعد قتل صحفي ((لا بدَّ للقانون والعدل أن يُحاسبَ الجاني وأنا ولي الدم)) وهكذا يصرح اليوم السيد رئيس الوزراء مستنكراً. ويَعِدُ بالحساب . ولكنه يعني إنَّ الحساب يوم يحساب لا اليوم.
أنا في سني: هذا أقول كل ذرة من تراب بلدي فيها رائحة الجنة . إن توفرت لي فيها الكرامة والأمان. وأنا على إستعداد للعيش فيه والعودة لوطني الذي هُجِرْتُ منه عنوة. وأقتاتُ على كسرة خبزٍ يابسٍ وماء غير ملوث بخيانة الساسة والحكام. فللغربة ثمن دفعناه.