18 ديسمبر، 2024 6:16 م

ثلث كبار الشيوعيين العراقيين.. أبناء رجال دين!

ثلث كبار الشيوعيين العراقيين.. أبناء رجال دين!

لدى قراءتي الجزئين الثاني والثالث من كتاب ” العراق ” لمؤلفه حنا بطاطو،لفت انتباهي أن الكثير من قادة الشيوعيين هم أبناء رجال دين ! فحسين محمد الشبيبي عضو اللجنة المركزية للحزب الذي أعدم مع فهد عام 1949، نجفي شيعي،والده رجل دين ” معزّي”. وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي حسين أحمد الرضي ” سلام عادل “،الذي مات تحت التعذيب عام 63، نجفي شيعي،والده “سيد ” ورجل تقي. وعامر عبد الله،عضو المكتب السياسي للحزب،سنّي، أبوه مؤذن للصلاة في جامع بمدينة عنه. ووالد عزيز شريف وعبدالرحيم شريف خطيبا في الجامع نفسه،وكذلك كان والد شريف الشيخ.
وجمال الحيدري،كردي من عائلة الحيدريين،عائلة أسياد. ومحمد حسين أبو العيس،مسؤول مكتب الفلاحين بالحزب، شيعي “كظماوي ” من عائلة أسياد. ووالد بهاء الدين نوري، كردي، مدرس في جامع ساح رحيمين بالسليمانية. وجميع هؤلاء- لمن لا يعرفهم – احتلوا أعلى المواقع في قيادة الحزب الشيوعي العراقي.
والمدهش أن نحو ” 32%” من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي للمدة من( 1955-1963 ) هم من عائلات أسياد ! وأنهم متوزعون بين سنّة عرب وشيعة وأكراد!
فما أسباب أن يكون ثلث كبار الشيوعيين العراقيين،أبناء رجال دين ؟ لاسيما أن المفهوم العام للدين عند العراقيين هو الإيمان المطلق،وأن الشيوعية في مفهومهم العام تعني الكفر والإلحاد !
واللافت “سيكولوجيا”أن معظم القياديين الشيوعيين من أبناء رجال الدين،كانوا الأقدر على تحمّل أقسى أنواع التعذيب بشجاعة نادرة في رفض الاعتراف على رفاقهم، والأكثر إخلاصا لمبادئهم،والتضحية بأرواحهم من أجل معتقداتهم..بل بينهم من فعل الأكثر من ذلك. فعبدالرحيم شريف..كردي من عائلة أسياد ،وعضو اللجنة المركزية للحزب الذي قُتل عام 63..عندما رأى رفيقه في المعتقل القيادي جورج حنا تلّو قد ضعف أمام معتقليه وصار على وشك الكشف عن أسرار الحزب..قام بقتله! بمسدس كان قد نجح في إخفائه .
إن أحد اهداف هذا الموضوع الذي يأتي في الذكرى الثالثة والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي هو : تحليل سيكولوجي صرف للحالة التي يتحول فيها عقل الإنسان من منظور فكري معين الى منظور فكري مضاد ومناقض له، بغض النظر ما اذا كان مضمون هذا التحول إيجابيا أم سلبيا على وفق هذا المعيار أو ذاك. وأرى أنه يصلح لمشروع ثقافي ممتع (للمدى وطريق الشعب) يسهم فيه:
• شيوعيون قدامى يستبطنون الحالة ويتحدثون عن خبريهم في هذه المسألة تحديداً.
• باحثون نفسيون واجتماعيون من المهتمين بعلم النفس والاجتماع السياسي.
• مثقفون ماركسيون ومثقفون متدينون.
على أن تتسم المساهمة بالموضوعية والأسلوب المهذّب الذي يتعامل باحترام مع الفكرين الديني والماركسي،بعيدا عن المدح والقدح،وأن يكون التركيز فقط بالحالة التي يتحول فيها ابن رجل الدين أو ابن عائلة أسياد.. الى شيوعي أو ماركسي.
فالكاتب القدير حنا بطاطو يعزو سبب ذلك الى أن ” نسبة التعليم بين هؤلاء – يقصد أبناء رجال الدين – أكبر منها بين شرائح الشعب المتواضعة والمستاءة. ويضيف أنه : لا يستغرب على الإطلاق أن يكونوا هم في المقدمة ” (ص،313،الكتاب الثالث ). وأعتقد أنكم تتفقون معي بأن تفسير بطاطو هذا غير مقنع بمفرده وغير منطقي، ذلك أن المنطق يقضي بأن ينخرط هؤلاء في حركات دينية أو قومية أو وطنية، لا أن “يفرملوا ” عقولهم وينعطفون بها 360 درجة !

انقسام الشيوعيين..نفسياً
أودت الكارثة المرعبة التي استهدفت الشيوعيين العراقيين عام (963) الى أن يُزج بأكثر من عشرة آلاف شيوعي في السجون العراقية.وفي تقديرات الشيوعيين، كان عدد القتلى في( 8 الى 10 شباط عام 963) لا يقل عن خمسة آلاف،فيما قدّر العدد مراقب دبلوماسي حسن الاطلاع بألف وخمسمئة. ويشير حنا بطاطو الى أن العدد المعلن رسميا بإعدام( 149 ) من الشيوعيين ليس صحيحاً. ويذكر ما يسميها ” طرفة!” رواها العقيد محمد عمران،العضو السوري في القيادة القومية للبعث أثناء المؤتمر القطري السوري الاستثنائي للحزب عام (964) أنه قال :”بعد المؤامرة الشيوعية ، طلب من أحد ضباط الجيش العراقي إعدام أثني عشر ولكنه أعلن أمام عدد كبير من الحاضرين أنه لن يتحرك إلا لإعدام خمسمئة شيوعي،ولن يزعج نفسه من أجل أثني عشر فقط “( ص: 304 ، الكتاب الثالث ).
وكان أن نجِمَ عن الانكسار النفسي هذا أن أنقسم الشيوعيون،الذين صاروا الآن قدامى،على النحو الآتي :
• قسم رجعوا الى ما كان عليه آباؤهم،فأطلقوا اللحى وأكثروا من السجود،ربما للتكفير عن خطيئة وطلب الغفران،معتبرين انتماءهم للحزب ذنباً عظيماً هم مسؤولون عنه وعليهم محوه بالإكثار من الصلاة وطلب الاستغفار..ومن يدري،فقد يكون بينهم مَن انتمى الآن الى أحزاب الأسلام السياسي.
• قسم عـدّ الحزب مسؤولا عن خطيئة تحولهم الفكري من الإيمان الى الإلحاد،فأكثروا من اللعنة عليه “الحزب ” كآلية نفسية في ترحيل الخطيئة على الحزب و تبرئة النفس وضمان الحصول على المغفرة،مع ان في الحزب مَن يصلّي ويصوم ويحتل مواقع متقدمة فيه.
• والقسم الأكبر ترك الحزب لهذا السبب أو ذاك،معتبراً هذه القضية مسألة شخصية.ومعظم أفراد هذا القسم ظلوا يحمّلون للحزب عتباً جميلاً، أو لوماً قاسياً على فرصة أضاعته استلام السلطة في (59) وكان مرافقو عبد الكريم قاسم وقيادة القوة الجوية بأيديهم،أو ودّاً مكتوماً في القلب شبيها بودّ لحبيبة نقية صادقة..مكتفياً بالسؤال عنها عن بُعد..باعثاً لها سلاماً مع صديق ، وداعياً لها أن يوفقها بالزواج ولو من ابن خال السلطة !
• وقسم غادر الحزب وصار معاديا له إثر محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم،متهمينه بأنه اذعن لطلب الحزب الشيوعي السوفييتي واضاع فرصة سهلة لاستلام السلطة حيث كان مرافقو الزعيم وقيادة القوى الجوية والانضباط العسكري..من كوادر الحزب..من بينهم ابن رجل دين ايضا هو الصديق (عزيز السيد جاسم)..الذي كنت وسيطا بينه ومحلية الحزب في الناصرية..وما عاد، فاستثمره صدام حسين في جريدة الثورة اولا ثم في مجلة (وعي العمال).وحين زرته في السبعينيات رأيت على مكتبه ادوية متنوعة..ولما شعر انني سأسأله عن احواله..اشار لي بعينيه الى حذر..وأفاض بما كان يكبته ويخشاه في سهرة بشارع ابي نؤاس..وانه قد سلك الطريق الذي حدده له الطاغية بعد ان منحه الفرصة لأن يكون مشهورا..واخفاه بعد ان صار عزيز مفكرا كبيرا.

خبرة شخصية
كانت ” الشطرة ” تسمى في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ” موسكو الثانية ” لكثرة ما فيها من شيوعيين ومثقفين تقدميين. وكنا ونحن صغارا، يحذرنا كبارنا من الاقتراب من بيت ” التميمي ” لأنه مراقب من الشرطة والأمن، الذين كانت لهم أيامها رهبة مرعبة. ولقد عرفنا فيما بعد أن أحد أفراد هذه العائلة المحترمة كان شيوعيا،وقيل لنا انه كان أصغر سجين مع ” فهد ” . وكان هذا السجين الصغير آنذاك هو الذي ترأس فيما بعد نقابة الصحفيين ..” شهاب التميمي ” الذي أكرمه نضاله بأن وضعه على رأس السلطة الرابعة ! وغادر الحياة من غير ان يكريم له من الحزب الذي ضحى من أجله احلى سنوات عمره.
وكنا في ستينيات القرن الماضي عصبة من الشباب تضم ابن أكبر تاجر في الشطرة،وابن رجل دين بارز فيها،وابن فلاّح يجيد قراءة ” الأبوذيه” وشاب اسمر صار فيما بعد شاعرا مشهورا.. زامل سعيد فتاح، وأنا. والغريب أن صديقنا ابن رجل الدين كان أثقفنا في غير الدين ويدهشنا بعقله الذي كنا نعدّه آنذاك موسوعيا. وكانت له نباهة خبيثة! منها انه قال لنا بمناسبة عودة والده من الحج،إن موسم الحج الى مكّة في زمن الجاهلية مأخوذ من طقوس عبادة إله الخمر ” ديونيسيوس “. فسأله صديقنا أبن الفلاّح وهو يحتسي ” حليب السباع ” : ” صدقه للحجي ..ما تكلي منو دنسوس هذا ؟” فأجابه ساخرا : “من عشيرة الخلفوك ،تبقى غبي.. آني ما أعرف اشلون لينين اتبناهم للفلاحين المتخلفين “.
وحقاً ، كنت أنا أيضا لا أعرف من هو ” ديونيسيوس ” .. فقصدت صباح اليوم الثاني مكتبة ” نعيم العصفوري ” ليسعفني بأصل ديونيسيوس وفصله . ( بالمناسبة : مكتبة نعيم العصفوري كانت أشهر مكتبة تقدمية في الشطرة،انتقل بعدها الى شارع المتنبي،ومات عصاميا).
وكان ابن رجل الدين هذا يصدمنا في حالة إبهار ، ويضع عقولنا في حالة تحدّ وتساؤل عن أمور ليست في برامج عقولنا ” الفريش” والعطشى للمعرفة..منها مثلا أننا كنا نتحدث عن الزواج فقال لنا : إن النبي سليمان كان مغرماً بالنساء الجميلات ، وأنه ورث حب النساء هذا عن أبيه داود الذي كانت له 99 زوجة،فزاده سليمان بخمسمئة وواحدة ” يعني 600 زوجة !”
كنت أنا ابن رجل دين أيضا ، فوالدي أسمه ” الشيخ حسين ، وليس حسين حاف ” .وتعني الشيخ في ريف الجنوب العراقي الرجل المؤمن لمن هو ليس ” سركالا ” أو إقطاعيا . وكنت في بدايات شبابي اكثر العصبة ورعاً على قلتّه! فلاطفت ابن رجل الدين قائلا :
– أنت ما تكلي اشلون ابن فلان ..وكيل المرجع الفلاني !؟
نظر أليّ وقال :
+أكيد حضرتك تعرفه لفرويد ..تدري شيكول : نحن من خلقنا الإله بأنفسنا ثم أخذنا نعبده.
فرددت عليه :
– اللعنة عليك وعلى فرويد .
ولما شعر صديقنا ابن الفلاّح أن ” الكعده ” ستتحول الى ما يتعب الرأس ، صدح ببيت من الأبوذيه : ” حبيبي لا تشد راسك سلامات “. وختمه ” اليوم أريد أحباب كلبي ” . واغرورقت عيناه بالدموع ، فعلّق عليه ابن رجل الدين ساخرا : ” هي ابن الكح…هسه أنت ما إلكيت وحده تحبها إلا بنت الشيخ !” وكان صديقنا ابن الفلاّح هذا قد عشق ابنة شيخ عشيرته الذي كان إقطاعيا متنفذا وصديقا لمدير أمن الشطرة!
كان “تحرشنا” في الدين مزاحا..ما كانت فيه اساءة له.وتدور الأيام ليأتي زمن يثبت فيه بالمطلق ان الذين اساءوا للدين هم من استلم السلطة من قادة احزاب الآسلام السياسي،الذين كرّهوا الناس فيه ،والذين بسببهم تنامت ظاهرة الالحاد بين الشباب العراقيين بعد ان ثبت لهم ان احزاب الاسلام السياسي تحولت الى شركات فتحت خزائنها لنهب المليارات في حال تنطبق عليه مقولة جهنم..يسألونها هل امتلأت تقول هل من مزيد.وان الكفر الحقيقي هو من خان ما اؤتمن عليه ومن تخرج عليهم الناس في الشوارع والساحات تهزج بأعلى الأصوات (باسم الدين باكونه الحراميه).
نقلا عن المدى