18 ديسمبر، 2024 9:12 م

ثلاث مرتكزات مهمة ينبغي توفرها لبناء مُجتمع رصين

ثلاث مرتكزات مهمة ينبغي توفرها لبناء مُجتمع رصين

ثلاث مرتكزات مهمة ينبغي توفرها ، في الحد الأدنى ، ان كنا نسعى لبناء مجتمع عراقي واعد ورصين. مجتمع يلبي طلبات الجميع دون تفريق او تميز. وهذه المرتكزات او الخطوات الثلاثة ، لا علاقة لها بشكل النظام السياسي القائم ، ولكن لها علاقة بالانشطة السياسية الممارسة على مختلف أنواعها ، ولها علاقة كل العلاقة بالنشاط الاجتماعي العام الذي يهدف الى تقوية شعور المواطن بالانتماء الى الوطن. وللاسف هذه المرتكزات غائبة عن اهتمامات الحكومات القائمة منذ الاحتلال ٢٠٠٣ وكذلك غائبة عن برامج ونشاطات الأحزاب والتنظيمات السياسية وغير السياسية العاملة في ظل العملية السياسية الجارية حاليا. وحتى لو ورد لهذه المرتكزات ذكر في برنامج الحكومات او نهج الأحزاب والتنظيمات السياسية وغير السياسية فأن نتائجها خجولة.

قبل كل شيء هناك صنفين من المجتمعات الان في العالم. صنف بدائي ويستند الى الأصول في تكوين المجتمعات. وللأسف معظم المجتمعات العربية من هذا الصنف. ويسود في الأغلب سلوكية هذه المجتمعات الجهل والتعصب والانكماش. والصنف الثاني من المجتمعات فهي مجتمعات عصرية ومتطورة وتقوم العلاقة في تركيبها على الانتماء وليس الأصول. ويغلب على سلوكية هذه المجتمعات الانفتاح والتفاعل.

تحديد المواطنة في الصنف الاول يتم وفق الأصول التاريخية التي ينتمي اليها المواطن بغض النظر عن وعيه وثقافته ودوره في المجتمع. فهؤلاء يملىء عقولهم وسلوكهم الجهل والتعصب الأعمى. اما المواطنة في الصنف الثاني من المجتمعات فيتم تحديدها حسب مشاركة المواطن الإيجابية في المجتمع فهو يفرح عندما يفرحون ويحزن عندما يحزنون ويضع يده في بناء المجتمع عندما يفعلون. انه إذن عنصر فاعل في المجتمع بغض النظر عن اصله وثقافته. ان من يشارك أبناء المجتمع الذي يعيش فيه الافراح والأتراح ويسهم في البناء فهو ابن الوطن حتى وان كان لا ينتسب اليه.

من الخطأ كل الخطأ ان يبقى تعريف المجتمع مقرونا بالانتساب ، فهذه نظرة تعصبية ضيقة وجاهلة للوطن والمجتمع ، لاسيما وان التطور العلمي جعل العالم صغيرا حيث تعتمد المجتمعات فيه على بعضها البعض ولا مجال لها لان تعيش في العزلة التي كانت تعيش فيها في الماضي . ان الاصح وهو الدارج الان ان تعرف العلاقة بين المواطن والمجتمع بالانتماء وليس بالانتساب.

ولا تعطي بعض المظاهر التي تُمارس لهذا السبب او ذاك ، وهنا وهناك ، وأيا كان شكلها ، لا تعطي لأي فرد الحجة لان يأخذ من تلك المظاهر مبررا لان ينحو طريقا يغاير الطريق العام للتطور الحضاري ويغرد بها خارج السرب العقلاني. والمثل على ذلك انظر الى الانتماء الذي مثله بلال الحبشي بإنتماءه الى المجتمع العربي ، فبعد كل الذي جرى له في حينه على يد قُرَيْش رد بلال على حبشي اخر دعاه الى مغادرة مكة والعودة الى الحبشة قائلا: لماذا أغادرهم فلسانهم لساني ودينهم ديني.

أوربا وأمريكا وأستراليا وكندا وغيرها او ما تعرف بالعالم الغربي تقبل ان تمنح جنسيتها لمواطنين ومواطنات لا ينتسبون اليها في الأصول ولا حتى في الثقافات وتعاملهم من اول يوم يدخلوا أراضيها على انهم مواطنين لا فرق بينهم وبين المواطنين الأصليين. وأثبتت الأيام انها رؤيا صائبة اذ ان هؤلاء القادمون الجُدد ، سينتمون للمجتمعات الوافدين اليها ويندمجون تدريجيا في قيمها السائدة أسوة ببقية أبناء المجتمع الاصلاء.

ما يجمع المواطنون في الدول الغربيّة وما يفرقهم هو القانون الذي لا يفرق بين مواطن وآخر ولا بين امرأة ورجل فالكل متساوين في الحقوق والواجبات. فليس في هذه المجتمعات الموصوفة في أعلاه مواطن مكرم وآخر غير مكرم. لا مواطن منزه ومفتوحة أمامه الافاق عَلى ما تتسع والآخر مهمش وتهمته عدم الولاء.

ما اعتدنا ان نذكره عن الفرق الحضاري بيننا وبينهم ( ما بين المجتمعات العربية والمجتمعات الغربية المتقدمة) ٣٠٠ او ٤٠٠ سنة. اي انهم متطورين عنا هذه المسافات. والوصف الدقيق لهذه المسافة اننا كنا نتساوى معهم قبل ٣٠٠ او ٤٠٠ سنة او كانوا هم في ذلك التاريخ على الحال الذي نحن فيه الان. فهم من حينه بدأوا يتسلقون سلم الاستقرار والتقدم والازدهار درجة درجة بينما نحن بقينا في سباتنا الذي كنا عليه وربما ركبنا السلم بطريقة معاكسة. هم وضعوا الدساتير والقوانين والاسس القويمة الضامنة للحريات والمبادىء ومارسوا الحياة وفق ذلك التصور وبما يجردهم من كل قيود الماضي المتعصبة والجاهلة وبدأوا بمسيرة بناء الديمقراطية والحريّة الشخصية والتعايش الاجتماعي السلمي. بل بنوا مجتمعات عابرة للتباين الثقافي والعرقي. بينما نحن حرصنا على تكريس عقد الماضي وتعصبه الاثني والثقافي. وما ينقل عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر انه قال بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ ان الفرق بيننا وبين الغرب او انهم يسبقوننا ب ٣٠٠ سنة وسنختصر هذه المسافة ب ٣٠ سنة وبعد نكبة حزيران سنة ١٩٦٧ قال ان الفرق بيننا ٦٠٠ سنة وان هذه المسافة تتسع ولا تضيق.

والآن نعود الى المرتكزات أو الخطوات الثلاثة التي ينبغي توفرها ان كنا نسعى لبناء مجتمع واعد ورصين وهذه المرتكزات هي التعليم والرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية. خدمات كثيرة غير هذه الأشياء تقدمها الدول الغربية لرعاياها ولكن الأساس هي هذه الثلاثة. التعليم يعني المدارس والمعاهد والجامعات. والصحة تعني المستوصفات الطبية والمستشفيات والادوية. والرعاية الاجتماعية تعني توفير فرص عمل لكل مواطن لكي يستطيع ان يكفل حياة أولاده وأسرته.

من العودة الى سجلات النظام الملكي الذي أسس الدولة العراقية الحديثة نرى انه ركز على هذه النقاط الثلاثة وحسب الامكانيات البسيطة المتاحة له في حينه. فقد شُيدت المدارس المجانية في عموم العراق ولم تستثن منه لا جبل ولا هور ولا صحراء. وشيدت المعاهد والجامعات المجانية. ووفرت المستوصفات الطبية والمستشفيات ووفرت الادوية المجانية. وربما كانت كلها بدائية وغير كافية وغير متطورة ولكنها كانت موجودة ومتاحة لمن يطرق بابها. فضلا عن الجهود المضنية التي بذلتها الحكومات في حينه من اجل توفير فرص العمل ورفع مستوى المعيشة للناس. والمثل على ذلك قائم في مجلس الإعمار.

والآن هل تحقيق هذه الخطوات (الثلاثة) في العراق بالشيء التعجيزي او ضرب من ضروب الخيال؟ أنا لا ألوم الحكومات القائمة بعد الاحتلال على هذا التقصير لوحدها وان كانت فرصتها واسعة لان المِحنة بدأت متزامنة مع بدأ الحرب العراقية الايرانية المشئومة وتحول الإنفاق الحكومي من التنمية العامة والشاملة الى المجهود الحربي. وصحيح لم تكن ظاهرة التراجع واضحة في حينه ولكنها كانت ملموسة عبر التقارير التي تنشرها الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة وكانت تشير بأستمرار الى تدني اسم العراق في اللوائح التي تنشر مقارنة مع الدول النامية الاخرى. وعندما انتهت الحرب العراقية الايرانية لم توجه الأموال التي توفرت لسد الثغرة التي حصلت في التنمية العراقية بكافة اشكالها ، بل وجهت للتصنيع العسكري المريب في أمره وصنع المدفع العملاق. ثم قليلا وكان العراق على موعد مع الحصار الجائر الذي لم يشهد العالم مثيل له منذ بدأ الخليقة. ثم الخاتمة الاحتلال الذي بعد ان حطم كل ماهو حيوي ومفيد للشعب العراقي ، كرس جهوده لتطبيق البرنامجين الاثني والطائفي في بلد يعاني منهما أصلا، وما كانت ثمرتهما الا القتل على الهوية والفساد.

وما يضيف الى الطين بلة ، ان طبيعة العملية السياسية الجارية في العراق ، بالشكل الموصوف ، وما يرافقها من ممارسات سياسية وغير سياسية التي عززتها تشريعات وقوانين ، ووضع المواطن العراقي الذي يمزقه الجهل والعوز ، وما يفوته من ذلك ، تتقاسمه الطائفية والعرقية. فهذه الأمور كلها مجتمعة تضع العراقيل بوجه اي إصلاح مهما كان بسيطا. ويا ترى ما الحل الان ونحن نرى بلدنا يتمزق وحال الشعب من سيّء الى أسوء ومناحي الحياة كلها تكاد تكون متوقفة بأستثناء استخراج النفط الخام؟

اعتقد الخلاصة المقدمة وان كانت موجزة تعبر بصورة جيدة عن كيف ألة الأمور الى هذا الحد المتردي. فعبرها أرادوا لنا ، او ان ينبغي علينا ، او هكذا رسم لنا ، ان ندرك ان الواقع المرير الذي نعيشه الان ، هو واقع سرمدي مفروض علينا ، بحكم تكويننا الاثني والطائفي ، ولا مناص من الهروب منه ، ولم يبق متاح بيدنا غير ان نسلم امرنا ، ونقول هذا قدرنا مكتوب علينا وليس أمامنا غير ان ننتظر الفواجع وهي تصيبنا دون تراجع.

وما يزيد الطين بلة ، ان كل المبادرات والمشاريع الاصلاحية التي تعرضها بعض الأطراف والأحزاب وعلى اختلاف مسمياتها ، تعرضها كلما دنت مواعيد الانتخابات البرلمانية ، ولا بد ان يكون بعضها صادقة ، فهي مبادرات ومشاريع إصلاح سياسي يسعى دعاتها الى تنفيذ برنامجها الاصلاحي عبر الفوز بالانتخابات البرلمانية. وعسى بالامكان ان اسأل هنا ، هل ان هذا ممكن الان؟ طبعا وبالتأكيد غير ممكن ، لان التوزيع الذي تقوم عليه العملية السياسية والموضوع بإحكام ، والظروف الاخرى ، تحول دون تحقيق اي توافق بخصوص أية برامج اصلاحية.

ان مسئولية الوطن هي مسئولية المجتمع قبل ان تكون مسئولية الدولة. لولى المجتمع لما قامت الدولة. واساس المجتمع الفرد. فحين ركزت على المرتكزات او الخطوات الثلاثة وضرورة توفرها ، قصدت خلق فرد جديد ومجتمع واعي لان يرعى مصالحه ومستقبله بنفسه ولا تملى عليه من طرف اخر. فيا ترى هل حان الوقت لان نعمل كما عملت وتعمل الان بقية الشعوب الاخرى من اجل بناء فردها ومجتمعها؟ فهذه المجتمعات تطرق كل مناحي الحياة دون الاتكال على منحى واحد فقط ، المنحى السياسي او منحى الدولة. ما بال بَعضُنَا ان يدخل البرنامج السياسي من الباب التربوي او من الباب الصحي او من باب الرعاية الاجتماعية؟ لماذا لا نسعى لان نبني إنسان يعي مصلحته ومصلحة مجتمعه ومستقبله دون ان يملي عليه اخر أين مصلحته ومصلحة مجتمعه؟ هناك جمعيات ومنظمات عراقية موجودة من قبل الان تعمل بهذا الاتجاه. ولكنها ضعيفة وغير فاعلة وبالتالي فأن انجازاتها بسيطة.

اعتقد بل واجزم ان الوقت الآن ملائم جدا لنا لان نضع أيدينا بأيدي ببعضها البعض ونتوكل على الله ونقول كفى لكل شيء سيّء ونسمعه عاليا انت ليس منا. تيمنا بحديث رسول الله (ص) من غشنا ليس منا. ونركز على بناء مجتمع سليم ينعم كل من فيه بالامن والرخاء وبالتعايش السلمي حيث يتمتع كل منا بالحرية الشخصية والفكرية التي تكفلها له كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية ، والاقتناع بأن التنوع الثقافي والعرقي تنوع جاري في كل مجتمعات المعمورة ، وان هذا التنوع لا يفسد الود بين مواطن ومواطن اخر من نفس المجتمع. ولنسير نحو خلق دولة ترعى مصالح مواطنيها جميعا دون تميز او تفريق.

لا شيء اخر أعز على المواطن مهما كان من الوطن. ولا يصار الى ذلك من غير الوحدة الوطنية. ان اليد الواحدة لا تصفق. لابد ان يتنازل كل منا للأخر من غير ان يسأل من الأولى ان يبدأ بذلك او بهذه الخطوة قبل الاخر.