19 ديسمبر، 2024 1:13 ص

ثلاثي لينينغراد العراقي

ثلاثي لينينغراد العراقي

كان يمكن لعنوان هذه المقالة ان يكون – شبّر/ عارف / القرة داغي , اي حكمت شبّر ومحمد عارف وكامران القرة داغي , وكان يمكن ايضا ان يكون – ثلاثي لينينغراد العراقي ومصيره , وكان يمكن ان يكون ايضا – و ببساطة – حلقة جديدة برقم جديد ليس الا في سلسلة مقالاتي عن (عراقيين مرّوا بموسكو) , والتي احاول ان اسجّل فيها تاريخ العراقيين , الذين درسوا بروسيا في النصف الثاني من القرن العشرين فصاعدا , والذين لم يكتبوا هم انفسهم – وكما ينبغي ان يكتبوا – عن تجربتهم و تاريخهم الممتع والجديد في مسيرة المجتمع العراقي , وكذلك لم يكتب عنهم – مع الاسف – الآخرون ايضا بشكل عام , ولا عن دورهم اللاحق ( والمبدع ) في مسيرة الحياة العراقية بعد تخرّجهم , والذين ( طمغتّهم! رسميّا وشعبيّا) النظرة العراقية الساذجة جدا ب ( الطمّغة ) ( والطمّغة باللهجة العراقية تعني الختم) الماركسية – اللينينية – الستالينية – السوفيتية , وهي نظرة , أقل ما يمكن وصفها , انها بليدة بكل معنى الكلمة , والتي لازالت الى حد ما قائمة ( وبشكل من الاشكال) رغم انف كل الحقائق الموضوعية (وغير الموضوعية ايضا) مع الاسف الشديد .
ثلاثي لينينغراد تبلور صدفة وفي اطار جامعة لينينغراد العريقة اوائل الستينات من القرن العشرين , اذ تم ارسال هؤلاء العراقيين الثلاثة للدراسة في تلك الجامعة , وهم حكمت شبّر- للدراسة في كليّة القانون ( قسم الدراسات العليا) , ومحمد كامل عارف للدراسة الاولية في كليّة الصحافة , وكامران قرة داغي للدراسة الاولية في كليّة الفيلولوجيا ( اللغات وآدابها). جمعتهم قبل كل شئ عراقيتهم طبعا واختصاصاتهم في العلوم الانسانية عامة والسكن في نفس الاقسام الداخلية للجامعة, و لكنهم – مع كل تلك العوامل – اصبحوا قريبين الى بعض بعد ان اكتشفوا ان افكارهم ( واحلامهم الفكرية ايضا ) توحّدهم . يقول البعض انهم جميعا كانوا يساريين , ولهذا اصبحوا قريبين الى بعض , ولكن معظم الطلبة العراقيين آنذاك كانوا يساريين بشكل او بآخر , فلماذا برز هذا الثلاثي اللينينغرادي بالذات؟ . لقد وحدّتهم بذرة الابداع , التي كانت كامنة في اعماقهم , فمحمد كامل عارف كان قاصا عراقيا واعدا وصحافيا حتى قبل ان يصل الى الاتحاد السوفيتي , وحكمت شبر كان يحلم ( في اعماقه ) ان يكون شاعرا , رغم انه كان خريج كلية الحقوق ( هكذا كان اسمها آنذاك) من جامعة بغداد ويملك الحق ان يكون محاميا في العراق , وكامران قرة داغي كان مشروعا لكاتب في مجال الترجمة و الصحافة, حيث يمكن ان يستخدم عدة لغات كان يتقنها آنذاك بشكل رائع , وهي الكردية ( لأنه كردي) والعربية ( لأنه عراقي) والانكليزية ( لأنه درس في كلية بغداد الشهيرة) , وأضاف الى تلك اللغات عندئذ اللغة الروسية. وساهمت الاحداث التي كانت تحيطهم في الاتحاد السوفيتي بتقريب بعضهم الى البعض ايضا , فبعد انقلاب 8 شباط 1963 تأسست لجنة الدفاع عن الشعب العراقي برئاسة الجواهري الكبير خارج الوطن , واصبح هذا ( الثلاثي!) نواة هذه اللجنة في لينينغراد , ولم يكن ذلك عفويا بالطبع .
بعد انهاء الدراسة , عاد الثلاثي الى بغداد , واصبح الدكتور حكمت شبّر استاذا جامعيا في كلية القانون وصدرت اطروحته بالعربية ضمن كتب وزارة الثقافة والاعلام , واصبح محمد كامل عارف صحافيا بارزا وارتبطت باسمه صفحة (آفاق) التي أسسّها في جريدة الجمهورية البغدادية , والتي لعبت دورا متميّزا ورائدا في مسيرة الصحافة العراقية والثقافة العراقية آنذاك , واصبح كامران قرة داغي مترجما حرّا في الصحف والمجلات والاذاعة والتلفزيون والمركز الثقافي السوفيتي , مترجما يشار اليه بالبنان , كما يقول التعبير العربي الجميل , اذ ارتبط باسمه عمله الابداعي المستقل كمترجم , اي خارج التعيين الرسمي في الدوائر الحكومية كما كان يسعى الجميع , وهو موقع جديد ومبتكر خلقه كامران نفسه لحاضره ومستقبله . واستمرّت علاقات الصداقة والودّ و التواصل بين ذلك الثلاثي اللينينغرادي في بغداد مثلما كانت في لينينغراد , وكنت شاهدا – من بعيد – على ذلك التواصل الجميل بينهم في بداية السبعينيات ببغداد , رغم اني لم اكن قريبا جدا – نسبيا- من ثلاثي لينينغراد ذاك .
لكن الرياح العراقية تجري عكس ما تشتهي سفن العراق المحمّلة بثروات وادي الرافدين , اذ ان مقود تلك الرياح بايدي مراقبين خارج الحدود الجغرافية لدجلة والفرات , وهم الذين يوجّهون اتجاهاتها حسب رغباتهم ومصالحهم , و هبّت تلك الرياح – وبقوّة شديدة – من خارج الحدود و ( طشّرت) الثلاثي اللينينغرادي العتيد , وليس فقط الثلاثي …
لازال ( أقطاب!) هذا الثلاثي يتفاعلون مع الحياة بحيوية وابداع كل من موقعه الجديد, ولازالوا يتواصلون مع بعض من بعيد ومن قريب ايضا , رغم ان عواصف تلك الرياح اللعينية فرّقتهم عن بعض …
كم اتمنى ان أقرأ يوما ما ذكرياتهم عن مسيرتهم باقلامهم هم , اذ ان هذا يعني , اننا سوف نقرأ صفحة في غاية الاهمية في تاريخ العراق المعاصر, وصفحة رائعة الجمال في تاريخ المذكرات…