18 ديسمبر، 2024 10:18 م

ثلاثية البغاء والفكر والسياسة؟

ثلاثية البغاء والفكر والسياسة؟

البغاء مهنة مثل باقي المهن الأخرى التي تسعى للتربح المادي، ومن يدير هذه المهنة هم (قوادو الأجساد) الذين يبيعون الأجساد فقط لا غير، ولكن المجتمع عادة ما يحتقر هذه المهنة. فما بالك بقوادي الأفكار وداعري السياسة الذين يبيعون عقولهم ومبادئهم، بل يبيعون أوطانهم وشعوبهم مقابل ملايين الدولارات. وعليه فإن (قوادو الأجساد أشرف من قوادي الأفكار والسياسة).

بالرغم أنني قرأت كتاب (القوادون والسياسة: ظاهرة انحلال الصفوة وتاريخ البغاء في نصف قرن) أكثر من أربع مرات للكاتب المصري الراحل (عبد الله كمال) وناقشت فصل كامل منه في أطروحة الدكتوراه، وتحديدا التربح السياسي من الدعارة، إلا أنني اختلف مع الكاتب في جزئية بسيطة، لأنه قال ” قوادو الأجساد هم نتيجة طبيعية لظهور قوادي الأفكار وداعري السياسة” ص14. فاقتبستها لكن مع تغيير بسيط غير مقبول للكثير، فكيف يكون قوادو الأجساد أشرف من بعض المفكرين والسياسيين؟

عندما نطرح موضوع يتعلق بجدلية العلاقة بين قوادة الأجساد وبين الدعارة السياسية وأصحاب الأفكار العرقية والدينية والطائفية، تلك الأفكار التي كانت وماتزال الأساس في تشظي الهوية الوطنية والعربية، وتفكك المجتمع ونشوء ما يعرف بأزمة الهوية. فإننا أمام نوع من القوادة السياسية والفكرية والتي هي أبشع وأقذر من قوادة الأجساد. ولكن بالنتيجة فإن كلاهما تندرج ضمن نظرية الفيلسوف البريطاني (جون ستيوارت مل) بمعنى أن المنفعة هي المعيار الأول والقيمة العظمى للقوادين بجميع صنوفهم وأشكالهم، مع العرض أن مهنة القوادة الجسدية أقل خطورة وأخف وطأة من قوادي الأفكار وداعري السياسة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، ماهي خطيئة الفرنسية (مدام كلود) أشهر قوادات العالم في الخمسينات من القرن الماضي عندما كانت تدير أكبر شبكة دعارة في العاصمة الفرنسية باريس، واستطاعت أن توقع بأشهر رجال السياسة والفن والاقتصاد بالعالم، على غرار شاه إيران والرئيس الأميركي جون كينيدي، وموشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي وغيرهم من زعماء العالم؟ لا خطيئة لمدام كلود سوى أنها قدمت المتعة والراحة لزبائنها، مقارنة مع ما جاء به (حسن البنا) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين من أفكار إرهابية متطرفة دمرت البشرية؟

وما هو الضرر الذي عانت منه البشرية من دعارة مدام كلود، مقارنة بالضرر والعنف الذي اجتاح البشرية بسبب كتابات وأفكار الباكستاني (أبو الأعلى المودودي) وهو صاحب فكرة (الحاكمية الإلهيّة) بل الأب التاريخيّ لفكرة الحاكمية لله، ومن بين المفاهيم الرئيسة الأخرى التي قام أبو الأعلى المودوديّ بالتأصيل لها في متنه الأيديولوجي، مفهوم (الجاهليّة) الذي جاء به مقابلاً للحاكمية، والوظيفة التي يؤديها مفهوم الجاهليّة وضمن هذا البناء الفكريّ تأتي لدعم مفهوم الحاكمية، وتقوية النظريّة في بُعدها التكفيريّ. من هنا فالمودودي كفر كل المجتمعات التي لا تُسير شؤونها إلا على حاكمية الله؟

وما هي جريمة مدام كلود مقارنة بكتابات وأفكار (سيد قطب)، فإذا كان المودودي الأب التاريخي لفكرة الحاكمية لله، فإن سيد قطب يعتبر الأب العربي لها. في الوقت نفسه يعد قطب العلامة البارزة والرائدة في التاريخ الإسلاميّ الحديث مؤسساً ومؤصلاً لأفكار العنف والتكفير والإرهاب، فهو الرائد والملهم لكل الجماعات والتيارات الجهاديّة الإسلاميّة التي تعتمد نهج العنف والإرهاب. على سبيل المثال لا الحصر، جماعة شكري مصطفي (التكفير والهجرة) وتنظيم (الفنية العسكريّة) الذي كان زعيمهم الإرهابي الدكتور صالح سرية، وصولاً إلى القاعدة وداعش. فهو المرجع الذي استندت عليه أفكارهم حينما شرعت في الانزلاق للعمل الإرهابيّ المسلح. ولعل من أخطر كتابات سيد قطب التي كانت وماتزال السبب الرئيسي في كل العنف الإرهابي عالميا جاءت في مؤلفاته مثلا (كتاب معالم في الطريق وكتاب لماذا اعدموني وغيرها) أما معالم في الطريق فيعتبر المرجع الرئيسي والمصدر الأساسي لكل معالم الإرهاب والقتل والتطرف التي تمارسه الجماعات الراديكالية الإسلامية.

وبعد مناقشة مختصرة لقوادي الأفكار، ننتقل إلى داعري السياسة، حيث أن أبرز مرتبات الدعارة والرقص السياسي هي، عندما يكون أحد قادة الأحزاب السياسية من أشد صقور اليمين الديني المتطرف قوة، ثم يخلع رداءه بكل سهولة وينفض عباءة أفكاره بالقمامة ويعلن عن كتلة سياسية جديدة مع الشيوعيين الستالينين. وقد نلحظ قائد سياسي إسلامي ينتمي إلى الطبقة الدينية الكهنوتية، ذو اتجاه عقائدي ومن يتهم طائفة أخرى بالإرهاب والتكفير، ثم بلمح البصر يتنازل عن عقيدته وطائفته ليلتحم بكل قوة ومحبة مع قادة الكتلة التكفيرية الإرهابية ذاتها. ومن ثم ينسحب هذا الدجل والنفاق والداعرة السياسية على جماهير ذلك القائد أو الحزب الفلاني أو الكتلة العلانية، حيث يقوم اتباعهم بالتصفيق والترحيب لمن كان إرهابي وقاتل وتكفيري في يوما ما. وهذا ما ينطبق على قول الشاعر البغدادي (سبط بن التعاويذي) “إذا كان رَبُّ البيتِ بالدفِّ ضارباً-فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهِمُ الرَّقصُ” وبما أن شيمة أهل السياسة وأصحاب الفكر الإرهابي هي ضرب الدف، أما الرقص فمن طبيعة الآخرون الذين يتبعون ويصفقون لهم. إذن هي الوثنيّة وعبادة الطواغيت. بالتالي فإن فرعون والنمرود وهتلر وستالين ونماذج كثيرة لا تخلو منهم الأزمنة على نفس القياس والشاكلة، الذين يعبدون الشمس والكواكب أو يعبدون البقرة.

وبفعل هذه الظروف الذاتية والموضوعية والثقافية وسوسيو-اجتماعية، تعاني المجتمعات العربية من التفكك، بينما ترتفع نسبة الطبقة السياسية المنافقة، لأنهم يقدمون معيارا صادقا ومشروعا في نظرهم، وذلك لأن مهنة القوادة الفكرية والدعارة السياسية لا يستطيع القانون أن يقهرها أو يقسرها، بل الأنكى من ذلك بعض قادة الأحزاب السياسية وما يطلق عليهم رموز دولة ومفكرون، شرعنوا الدعارة السياسية في دساتيرهم.