المنهج هو ما يميز الطرح العلمي عن غيره من الاطاريح الفوضوية ، لذلك حين يفتقد الطرح لأسس المنهجية البحثية سيشكل حاجزا اضافيا يمنع الانسان من رؤية الحقيقة . والفوضوية العشوائية هي الصفة التي تميّز الاطاريح الإلحادية في العالم ، حيث تحولت من ( موقف ) شخصي لعدم الاقتناع بالأدلة المطروحة حول وجود خالق لهذا الكون الى تنظيرات عقائدية اقرب ما تكون الى خصائص الدين . وهذه الفوضوية واللامنطقية الاعتقادية والذهنية موجودة في المجتمعات ذات الصبغة العلمية الحديثة ، اما في العالم العربي – المتأخر تقنيا – فهي تتركز وتكون اكثر كثافة ووضوحا .
ومن الغريب ان ينطلق الملحدون الى عالم التنظير الاعتقادي – وبهذه الصورة اللامنهجية – رغم ان التصورات الذهنية التي ينطلقون عنها غير واضحة المعالم ومشككة . ولعلّ اهم منطلقات الملحدين كانت تتمحور حول مجموعة من المفاهيم التي يعتقدون انها تشكل جوابا مناسبا للتساؤل الإنساني القديم الجديد : من أين ؟ ، او انها تفتح تساؤلا حول إمكانية الأديان الواقعية في اجابة الأسئلة المرتبطة بالوجود والظواهر الطبيعية . لذلك اعتمد منظرو الإلحاد على نظريات يعتقدون بقدرتها على تفسير الوجود ، كنظرية التطور او النشوء والارتقاء لداروين ، ونظرية الانفجار الكبير الكونية ، وعلى تلك الاطاريح التي تشكك في مقدسات ونصوص الأديان ، كالتي تناقشها تحت فصل الميثولوجيا الأسطورية.
كان الأساس الأهم للطرح الالحادي هو خضوع كل المناهج العلمية للمبدأ التجريبي ، وبالتالي افتراض مادية كل شيء وخضوعه للمعايير المختبرية ، وان العلم المادي اليوم قد احاط بكل شيء تقريبا ، وانه قادر على احتكار المعرفة واستلاب العقل ، لذلك يطرح الملحدون – بسذاجة – ان إمكانية إثبات الاله تساوي صفرا ، لان الاله الإبراهيمي بزعمهم لا يمكن اثباته من خلال الطرق العلمية المختبرية ، بل ويرون ان كل ما لم يثبت علميا ليس الا خرافة ، واغلب الملحدين في العالم يخضعون في ذلك لأسس وضعتها مجموعة من المؤسسات الدولية الأكاديمية بمظهر بريء هدفه تهذيب العلم ، فيما هم يضعون في الحقيقة اكبر الحواجز بوجه كل نظرية تنتهي الى الله ، كما فعلوا مع نظرية التصميم الذكي العلمية ، والتي حملت استدلالات معمقة ورصينة حول غائية التصميم الكوني ، لكن تم رفضها تحت مبدأ انها ترتبط بالاعتقاد الديني ! ، لذلك فتلك المؤسسات الأكاديمية وضعت منهجا مغلوطا منذ البداية يضع الحواجز امام العقل البشري ويسلبه ، فوجدنا شيخ الملحدين في العالم ( دوكنز ) يحاول القفز بسذاجة بحثا عن اجابة لهذا التصميم الذكي للكائنات الحية حين قال ما مضمونه ( يمكن ان نكون جميعا قد وُجدنا بفعل تصميم ذكي لكائنات ذكية في مكان اخر من الكون … ) .
والاحتكام الى العلم المادي امر حسن ونافع ، لكن ليس مع الاعتقاد بكفائته التامة ، فهناك ما هو خارج إطار القدرة العلمية ، فضلا عن ان العلم المادي ذاته ثبت انه لازال غير محيط بكنه الظواهر الكونية .
ولو اخذنا بعض الأمثلة وتناولنا ابعادها بتجرد سنلاحظ ان الانسان بكل منظومته المعرفية لم يستطع تفسيرها عبر آلياته المادية ، وانه مضطر لتناولها من خلال الدين او الفلسفة ، او لنقل الفلسفة الرياضية على الأقل .
الثقوب السوداء :
( لقد كان إعطاء فرضية وجود الثقوب السوداء أي مصداقية علمية أو الإيمان بوجودها كإعطاء مصداقية لوصفة سحرية أو إيمان بالشعوذات، وكان يهدد العلماء بخسارة مستقبلهم المهني. على الرغم من ذلك، تساءل العلماء عن إمكانية وجودها منذ القرن الثامن عشر . في غضون جيل واحد من علماء الفيزياء تحولت الثقوب السوداء من أضحوكة ونكتة إلى حقيقة مطلقة ومقبولة على نطاق واسع، وتبين أن الثقوب السوداء شائعة وكثيرة، حيث هناك ترليونات منه في كوننا، لم يسبق لأحد أن رأى ثقباً أسوداً ولن يراه أحد أبداً. ليس هناك فيه ما يرى فهو عبارة عن حيز من الفراغ و الفضاء، حيزٌ من اللاشيء، كما يحلو للفيزيائين أن يصفوه.
أن وجود الثقب يستدل عليه من تأثيره على ما يحيط به هذا يشبه عندما تنظر خارجاً وترى الأشجار تميل باتجاه واحدٍ، فستكون على حق عندما تستنتج أن رياحاً قوية تهب مسببة ميل وانحناء الأشجار بذلك الاتجاه على الرّغم من أنك لا ترى الرياح … إن المادة المندفعة باتجاه ثقب أسود تولد الكثير من الحرارة الناتجة عن الاحتكاك كما انزلاقنا على عمود الإطفاء (عمود يستخدمه رجال الإطفاء للنزول بسرعة) يجعل أيدينا ساخنة، يحدث الشيء ذاته مع المواد المندفعة باتجاه الثقب الأسود هذا يعني أن الثقب الأسود يدور حول نفسه (في الحقيقة الثقوب السوداء عبارة عن دوامات في قلب الفضاء) والمزيج بين الاحتكاك والدوران يتسبب في أن كمية كبيرة (احياناً أكثر من 90%) من المواد المنطلقة باتجاه الثقب الأسود لا تعبر “افق الحدث” بل تقذف كشرارات كتلك المنطلقة من آلة الشحذ عند الحداد وهذه المواد مرتفعة الحرارة تتموضع في تيارات نفاثة و تندفع عبرها إلى الفضاء بعيداً عن الثقب بسرعات عالية جداً (أقل بقليل من سرعة الضوء). هذه التيارات النفاثة يمكن أن تمتد لمسافة ملايين السنوات الضوئية وبشكل مستقيم عبر المجرة. تقوم الثقوب السوداء بتوصيف آخر بإعادة إنتاج النجوم القديمة في مركز المجرة و تدفع الغازات الناتجة عن العملية عبر التيارات النفاثة إلى الأجزاء الخارجية من المجرة. و من ثم يبرد الغاز المنطلق مع الزمن، ويتكتل ويتكثف ويشكّل في النهاية نجوماً جديدة، مجدداً حيوية المجرة بذلك و كأن هذه العملية هي نافورة الحياة المتجددة للمجرة . ).
كما ان الثقوب السوداء تؤثر بصورة خيالية في واقع الزمن حيث ان الدقيقة عند أفق الحدث – وهو المحيط بالثقب الأسود – تساوي الف سنة ارضية .
والفائدة التي تتلخص من ذلك ان الصانع المفترض للخلق المادي لابد ان يكون اعظم منه ، وكلمة اعظم لاختصار فلسفة طويلة في شأن الخالق ، وبالتالي كلما كانت مخلوقاته محجوبة عن إمكانياتنا لعظمتها كان هو اعظم واجلّ عن مثل قدراتنا .
ومن هنا يجب ان ننتظر اختراق حجب تلك المخلوقات لنتسائل عن امر حجب الخالق . كما ان هذا التأثير القريب من الخيال والعظيم حد الذهول لهذا ( اللاشيء ) – كما يعبّر عنه الفيزيائيون – وبهذا الصغر المفرط حد منع التصور لحجمه يفتح الباب واسعا للتساؤل عن حقيقة المادة وعن مفاهيم الزمن وعن الدقة في واقع الحجوم والأوزان ، وبالتالي عن كل منظومتنا المعرفية الكونية .
الرغبة والثنائية الجنسية :
لو افترضنا ان الصدفة والارتقاء نجحا في إيجاد الرجل بكل أعضاءه وأجهزته التي تفوق الخيال – وهو امر مستبعد وربما مستحيل لوجود التعقيدات الذكية الغير قابلة للاختزال – فهل يمكن للصدفة والارتقاء أن ينجحا في إيجاد كائن مماثل للرجل تمامًا ومخالف له في الجهاز التناسلي وهو المرأة ، بهدف التناسل واستمرار الحياة على الأرض ؟
لا اعتقد ان النظرية الداروينية الكلاسيكية او الحديثة المعدلة قادرة على الإجابة على هكذا تساؤل وفقا لمبادئ الانتخاب الطبيعي او الطفرات الوراثية ، لان الثنائية امر اوليّ بدئي ، كما انها فاقدة للضرورة الطبيعية الذاتية الفردية التي تُعتبر الأساس الفلسفي للتطور .
اما ( الرغبة ) فعلى ( المستوى البايلوجي المتعة او اللذة هي آلية رئيسية فيما يتعلق ببقاء النوع ، فالطعام يدفعنا لتغذية أجسامنا ، النشوة الجنسية تدفعنا لممارسة نشاط الحميمية ، ما يحفظ النوع بشكل عام . فلنسأل أنفسنا كم سيكون الامر مزعجا لو ان اللذة والمتعة الخاصة لم تلحق عملية البحث عن توأم الروح او شريك العمر الذي من المفترض ان يعيش معنا طوال الفترة المتبقية من حياتنا ؟ . وماذا عن الجهد الذي تتطلبه العملية الجنسية ، اضافة الى المصروفات التي ستسبقها وتصاحبها وتتبعها ؟ ، حتى لو كنّا نعرف ان حفظ النوع يتطلب كل تلك الأمور ، فإننا على الأغلب لن نجهد أنفسنا على الإطلاق من اجلها . فالإنسان من دون محفزات فورية وفاعلة كسول بطبعه . وفق علماء المجالات الطبية والبيلوجية فان المتعة نظام عبقري أنتجته عملية التطور ، اذ انه بالاضافة الى كل ما سبق يخفض مستويات التوتر والإجهاد النفسيين ) .
والتساؤل المهم الان : هل عملية ( التطور ) قادرة على انشاء الرغبة ؟ . أليس وجود الرغبة والمتعة – كنظام عبقري – يدل بوضوح على وجود مصمم ذكي ؟ .
ان عملية التطور – كما في تنظيراتها – ليست الا ( اعادة تأقلم ) للعضو الحي من حيث الشكل والحجم ليتناسب في وظائفه مع الظروف المستجدة بيئيا . او ظهور صفات ( عضوية ) جديدة نتيجة الانتخاب الطبيعي والطفرات الوراثية . وكل ذلك في عملية فيزيائية ( صمّاء ) بين العضو الحي والطبيعة .
لا يمكن لنا ان نتصور نشوء الرغبة والإحساس عن فيزياء صماء ، فما هي الحاجة العضوية الجسمانية للكائن الحي التي تجبره او تجعله بحاجة للممارسة الجنسية ؟ . ما هي فلسفة وجود تلك الأعضاء المتممة لبعضها في ثنائية مثيرة ، رغم ان الجسم لا يحتاج اليها وظيفيا او غذائيا ؟ .
ومن ذلك نرى بوضوح ان ( القصدية ) جليَّة في هذا التصميم الخلقي ، وان محاولة تشتيتها والادعاء بالصدفوية امر يتجاوز المنطق العقلي ويقيده بالسذاجة .
ولعلّ السذاجة هي الوصف المناسب للقراءات التي يطرحها الملحدون للاديان ، لا سيما الاسلام ، وخصوصا الملحدون العرب ، فهم يعيشون واقعا مستَلب العقل ، وتكاد نظرتهم تكون معدومة ، وغالبا لا يجيدون سوى ترديد ما لا يفقهون من تشويهات للنص الديني ، دون عمق ، او على الأقل محاولة تحليل تلك النصوص وإيجاد الأبعاد التي تتناولها .
ورغم ان الملحدين العرب عموما يحاولون ارتداء ثوب العلم ظاهرا الا انهم فقراء جدا من الناحيتين العلمية والفلسفية ، لذلك فذهنيتهم ساذجة جدا ، ولا يمكن لهم واقعا ان يخلقوا صورا ذهنية منتجة .
وَمِمَّا لفت نظري دائما الادعاء الفوضوي المتناقض الذي يتناول الصورة الفكرية لخاتم الأنبياء محمد ، حيث نراهم مرة يدّعون انه ليس الا بدويّ من الصحراء لا يفقه من العلم شيئا ، وان القران يعكس تلك البيئة الثقافية الصحراوية له ، ومرة اخرى نراهم يدّعون ان محمدا ليس الا سارق للنصوص السومرية واليهودية والمسيحية والأساطير العالمية ، مما يشير بوضوح الى شخصية مثقفة جدا ومطلعة بصورة عميقة على نصوص الحضارات الكبرى ! .
وهذه التناقضية تكشف ان الإلحاد العربي يعيش حالة مرضية ، ترتكز الى رؤى شخصية غير علمية ، وتحاول قذف الأديان وشخصياتها بشتى الوسائل العشوائية .
ولو ان الملحد العربي او غيره كان يتمتع بشيء من الانصاف العلمي لتسائل عن مصدر تلك الاخبارات العلمية التي جاء بها النص القراني ، وعن حقيقة معرفة النبوات بمثل تلك الحقائق في غير زمن اكتشافها ، فضلا عن البيئة الصحراوية ، التي ربما كان الغرض منها تكثيف التحدي للإلحاد المعاصر .
ومن تلك الآيات القرانية التي تفرض على المتّصف بالعلم البحث عن مصدرها والمناقشة في كيفية معرفتها وإدراكها :
( ثٌمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاْءِ وَهِيَ دُخَاْنٌ ) ..
وقد نقلت نصا سابقا للفيزيائي الشهير ( ستيفن هوكينج ) تناول فيه موضوع السماء الدخانية التي شكّلت بداية السماء الحالية .
( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِيْنَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوَاْتِ وَ الأَرْضَ كَاْنَتَاْ رَتْقَاً فَفَتَقْنَاْهُمَاْ ) ..
ولعلّ للآية هذه معانٍ في علم الله او عند الراسخين في العلم ، لكن هي ايضا تفرض تساؤلا واقعيا عن علاقتها بنظرية الانفجار الكبير ( Big Bang ) لا يمكن للملحد ( العلمي ) إغفاله .
( وَالسَّمَاْءَ بَنَيْنَاْهَاْ بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوْسِعُوْنَ ) ..
لن نتحدث في ( البناء السماوي ) الذي فرضه اكتشاف المادة والطاقة المظلمتين ، كتقريب اوليّ مُستأنَس لفكرة البناء تلك ، لكن على الباحث او على الملحد ان يخبرنا عن معرفة ( محمد ) بهذه الحقيقة الكونية المكتشفة حديثا والتي لم تكن معروفة قبله ، ولا بعده الا بقرون ، حيث الكون يتمدد ويتسع باستمرار .
( وَالشَّمْسُ تَجْرِيْ لِمُسْتَقَرٍّ لَهَاْ ذَلِكَ تَقْدِيْرٌ الْعَزِيْزِ الْعَلِيْمِ ) ..
وهذه أية اخرى تقول ان الشمس ذلك النجم العظيم الذي حفلت أساطير البشرية بذكره متحركة ، وأنها مخلوق يسير وفق تقدير ونظام ، وفي ذلك الزمن الذي نزلت فيه الآية كانت الشمس لازالت تُعبد من دون الله .
( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) ..
وهذا اخبار اخر يحكي حركة القمر ، اضافة لحركة الشمس ، وان كلاهما خاضعان لنظام وتدبير – تصميم ذكي – وليستا كما تصورهما الأساطير السابقة . اما رفع السماء بغير عمد فهو تحفيز قرآني معتاد لحثّ العقل المعاصر لنزول النصّ على التفكير والتدبر في تلك الآيات عبر آلة العلم ، لأنّ الإخبار المباشر عن كنه تلك الظواهر والحقائق لم يكن لتستسيغه ذهنية تلك العصور .
وكل تلك الآيات وغيرها تفرض أسئلتها وتبحث عن اجوبة حول حقيقة مصدرها ، يختصّ بذلك الملحد دون غيره ، والملحدين العربي بصورة اكثر خصوصية ، بل وهي تجبر العالم المنصف ان يجمّد اعتراضاته على النصوص الدينية – غير المحرّفة – حتى يجد مخرجا من واقع اعجاز تلك النصوص المصير الى ربّانيتها .
ورغم أني لا اثق كثيرا بقدرة الكثير من الملحدين على التحليل الذهني او النظر في الكليّات العقلية ، لكني دائما اتسائل هل يستطيع الملحد فعلا تمييز نقاط التحول في فهم النظريات المادية التي يتم استغلالها للدعوة للإلحاد ؟ ، كما في النقطة السابقة التي تناولت موضوعتي ( الرغبة والثنائية الجنسية ) ، بمعنى ان مثل هذه النقاط تجبر الباحث على تحويل نظره وفكرته نحو تأويل اخر اكثر مناسبة للمادة التي استخدمتها تلك النظرية لدعم ( فلسفتها ) ، وبالتالي إيجاد ( فلسفة ) يقلّ فيها الضغط الناشئ عن ( القصدية ) الجليّة في مادة تلك النقاط ، والتي لم تنجح النظريات المادية البحتة في تفسيرها .
واجد من اللطيف تناول مثال اخر يشرح هذا المعنى ( القصدي ) بصورة واضحة ايضا ، ولطافته في انه قد مرّ على كلّ البشر من حيث النفع والاستخدام ، انه ( حليب الام ) .
فحليب الام المحتوي على تركيبة غذائية كافية وتامة للطفل في أشهره الستة الاولى خصوصا ، والسنتين الاولى عموما ، يمكن القول انه معضلة تواجه ( العشوائية التطورية ) او ( التطور غير الذكي ) . فحسب مبادئ التطور يكون الكائن الحي خاضعا في تطوره لحاجات ذاتية ، اما ان يتطور وفقا لحاجات الآخرين فهذا ما يثير التساؤلات من النوع المعقد .
وهذا الحليب – اضافة الى كونه غذاءا متكاملا – فهو ايضا يتضمن الكثير من المنافع الاخرى ، كمقاومة الأمراض . وهو كذلك مناسب جدا لتركيبة الرضيع الصغير الجسدية والبنيوية او الفسلجية ، بما تحويه من بساطة ميكانيكية وتعقيد كيميائي او حيوي . لذلك يمكن القول ان انتاج كائن حي ل ( غذاء ) كائن حي اخرى غير متطابق مع المبادئ التي تستند عليها نظرية ( النشوء والارتقاء ) لداروين حول مفهوم التطور ، وتخالف ذلك المنهج كليا ، فيما تشير بوضوح الى قصدية وذكاء متعمد في التصميم ، ومن ثم الى الخالق الموجد .
وقد نجد الكثير من الملحدين – لاسيما في العالم العربي – يجهلون الكثير من الأمثلة والنظريات – او بعض خصائصها ومبادئها – التي تناولناها باقتضاب ، لأنهم عادة يسيرون مع التيار دون وعي واطلاع ، او هروبا من الأحكام والقوانين التهذيبية الدينية ، او كردة فعل على مشكلة شخصية او مجتمعية ، او للظهور بالمظهر العلمي وهما ، لذلك سيكون من الصعب توجيه اذهانهم ، لان الحديث الى غير المطلعين اكثر صعوبة من مناقشة الانسان المطلع .
كان هناك على الدوام ومنذ فجر الانسانية حجة الحادية كلاسيكية ، تتحدث في قضية كبرى هي ( وجود الخالق ) ، لكن بالنفي ، وتلك الحجة كانت تحت عنوان ( أزلية المادة ) ، بمعنى ان المادة موجودة بلا بداية ، لذلك هي ستظل بلا نهاية ايضا . وقد ردد الملحدون منذ القدم هذه المقولة ، وكان لهم مسمّى ( الدهريين ) . وهي في جوهرها تفترض ان المادة – بما هي أزلية – ليست بحاجة الى ( موجد ) او خالق ، وبالتإكيد ان هذا الاستدلال ساذج جدا وغير علمي بتاتا ، لكن مع هوى الانسان لا غرابة احيانا ، لان افتراض الأزلية للمادة يحكم مباشرة بعدم وجودها .
ومع ذلك جاء العلم الحديث ليسقط تلك الحجة بالضربة القاضية بعد الآلاف من السنين التي تم ترديدها فيها ، حيث افترضت نظرية الانفجار الكبير ( Big Bang ) ان الكون نشأ عن انفجار شُذيذة منفردة غير مرئيّة ، كانت تضم كل هذه المادة وهذه الطاقة رغم تناهي صغرها الى درجة ال ( لا شيء ) ، بلا قوانين ولا ابعاد ، ولم يكن حينها من مسمّى . ثم جائت دلائل الإشعاع الميكروني الخلفي للكون لتؤكد صحة هذه الفرضية ، وحصل عالمان على جائزة نوبل بسبب تلك النتائج .
وكان المسبار ( كوبي ) من الإنجازات الكبيرة في تاريخ الفيزياء الفلكية ، ( وقد زوّدنا هذا المسبار بدليل يؤيّد نظرية الانفجار العظيم حول الكون ، فالإشعاع المايكروني كان عبارة عن طيف جسم أسود مثالي تقريبًا ، كان عند نشأة الكون ناتج من حرارة عالية جدا بعد الانفجار العظيم ، ثم بدأت درجة الحرارة في الكون النشأ تنخفض تدريجيا بسبب تمدده السريع وبدأت المادة تتكون كجسيمات منفردة من ضمنها الإلكترون و البروتون ثم تكونت منها ذرات مع انخفاض الحرارة ، فتكون غازي الهيدروجين و الهيليوم ، ثم بدأت تلك الغازات تتجمع وتبني نجوما ومجرات ، وتزايد الكون في الاتساع وانخفاض درجة حرارته حتى وصل إلى الحالي حيث أصبحت درجة حرارة الكون نحو 3 كلفن . تلك حرارة الكون البالغة الآن 3 كلفن هي التي يقيسها المسبار كوبي ، وتبين القياسات الاختلافات الصغيرة جدا في درجة حرارة الكون الناشئة عن تكون المادة في القديم في مناطق ظهرت فيها المجرات وتجمعات المجرات فيما بعد ، حتى وصل الكون إلى تكوينه الحالي الذي نشاهده إما بالعين المجردة أو مع ابتكارنا لآلات بصرية وهوائيات تساعدنا على مشاهدات أكثر وأعمق للكون ) .
وملخص كل ذلك ان المادة ( مُحدثة ) وليست ( أزلية ) ، وهي ستنتهي لاحقا . ولمّا كان العدم عدماً فهو ليس قادرًا على إيجاد الوجود ، لان افتراض ذلك محض الجنون ، كان من اللازم التحول الى افتراض اخر اكثر عقلانية .
اخيرا … أيها الملحدون ( العرب ) – او غيرهم – ان ( عدم المعرفة ) لا يعني ( عدم الوجود ) أبدا ..
فمن منا كان يعرف ان هناك ( طاقة مظلمة ) و ( مادة مظلمة ) فيما كانتا ولازالتا تشكلان اكثر من ٩٠ ٪ من الكون ! ..
ما لا تعلمون ليس ( خرافة ) بل هو ( مجهول عندكم ) .. ونفي المجهول جهل .