23 ديسمبر، 2024 8:51 ص

ثقافة النزول إلى الشوارع

ثقافة النزول إلى الشوارع

بمناسبة نزول ملايين المصريين إلى شوارع المدن المصرية هذه الأيام , تطالب الرئيس محمد مرسي بالتنحي عن السلطة , حفلت وسائل إعلامنا ومواقع التواصل الإجتماعي عندنا بالعديد من المقالات والتعليقات التي راحت تقارن بين الشعبين ( المصري والعراقي ) والبلدين ( مصر والعراق ) .
وبغض النظر عن بعض الشطحات الكتابية والدعوات السطحية الصادرة من بعض البسطاء , الداعية إلى السكون والسكوت والهدوء في العراق , وحمد النعمة التي نحن فيها وشكر السياسيين لديمقراطيتهم , غلب طابع الإنتقام من العراقيين , والتشفّي بمواقفهم , والإنتقاص منهم جرّاء سكوتهم على الظلم وخنوعهم للحكّام الجائرين والمتسلطين .
قابل ذلك إشادة وتمجيد بشعب مصر , وتصنيفه في خانة الشعوب الحيّة واستعراض شواهد ودلالات على عدم سكوته في وجه الظلم والطغيان .. نحن في هذا المقال سنسلط الضوء على ما هو أعمق وأدق مما كتب وقيل في لحظات غضب واضح وردّ فعل طبيعي على نشاط يقوم به شعب شقيق .
لا نحمل لمصر وشعبها – كعراقيين – سوى المحبة والتقدير , لذا حينما نتطرق إلى صفات امتاز بها شعب مصر على مرّ التاريخ , فإنها لا تعني الإساءة له ولا الإنتقاص من كرامته .. والأمر نفسه يسري علينا نحن كعراقيين .
لم يُعرف شعب مصر يوما خلال تاريخه الممتد إلى سبعة آلاف سنة من الحضارة والبناء بأنه شعب متمرد أو عنيف أو رافض للظلم والطغيان , بل عُرِف عنه العكس من ذلك , فهو شعب مسالم ودود خنوع يرضخ للظلم والطغيان . ولعل تاريخه المتمثل بالعبودية للفراعنة لا مراء فيه .. وهكذا دخول عمرو بن العاص إلى أرض الكنانة وفتحها بيسر وسهولة , ولاحقا حكم الغريب عنها وعن أرضها محمد علي باشا الألباني لها وأسرته الممتدة إلى فاروق , ومن ثم انقلاب جمال عبد الناصر عليه .
ولعل من غرائب البوستات السياسية التي نشرت في اليومين الأخيرين , صورة للرئيس الراحل عبد الناصر وهو يعلن تنحيه عن السلطة بعد هزيمة حزيران 1967م , وخروج الملايين من المصريين إلى الشوارع لإرجاعه إلى السلطة , إلى جانب صورة للرئيس مرسي وهو يعلن تمسكه بالسلطة وخروج الملايين من المصريين تطالبه بالتنحي عنها .
لا شك في أن الغاية السياسية واضحة في الصورتين موضع المقارنة , وإن إنطوت إحداها على محاولة الإستمرار في تزييف وعي الجماهير العربية منذ 45 سنة مرت . فقصة تنحي عبد الناصر عن الحكم كانت فيلماً مصرياً جميلاً شديد الحبكة قوي السيناريو رائع الإخراج بديع التمثيل , أدته المخابرات المصرية على أحسن وجه , ونفذّه الإتحاد الإشتراكي تنفيذا حرفياً بطريقة لم يعتورها الخلل ولا الخطأ .. وبالتالي أبقى عبد الناصر في السلطة .
لسنا هنا في وارد إستعراض تاريخ مصر كله , ولهذا لم نأتِ على الكثير من الشواهد والمحطات التاريخية المهمة , كالإحتلال الفرنسي والبريطاني مروراً بحقبة السادات وانتهاءً بحسني مبارك , تلك الحقب التي شهدت تحركات ونشاطات رافضة في مناطق معينة , مقابل حالة قبول عامة سادت الشعب المصري على كراهة وضيم .
  ولا نريد أيضاً أن نبخس نضالات شعب وتطلعاته نحو الحرية والإنعتاق , وما قدمه من قرابين من الدماء في هذا الطريق , إنما نقفز مباشرة إلى مرحلة الثورة المصرية التي قادها الشباب المصري المتمرد على الواقع المزري الذي يعيشه غالبية أبناء مصر , لاعتبار إن أقصى مراحل الرفض والعصيان والتحدي قد توّجت في الثورة المصرية ضد الرئيس حسني مبارك .
لم تكن مهمة وائل غنيم ( مفجِّر الثورة ) والشباب الذي سانده وتكاتف وعمل معه من أجل الثورة المصرية سهلة أو ميّسرة , بل كانت صعبة وخطيرة , ولولا أميركا وما قدّمته له لما نجحت الثورة مطلقا .
لقد كان توظيف غنيم في إدارة الفيسبوك عن منطقة الشرق الأوسط , ومهنته كمهندس وزواجه من أميركية وقضاء فترة للعيش في الولايات المتحدة , ولاحقاً في الإمارات .. كل تلك عوامل حصّنته من إختراق عمله الألكتروني بعد فتحه لصفحة ( كلنا خالد سعيد ) أمام ملايين المصريين , كي يدلوا بآرائهم من جهة , وليمارس هو دوره التحريضي على الثورة والتنظيمي والتوجيهي لهم , وبالتالي إنزالهم في الشوارع من جهة أخرى ( المصدر : كتاب ” الثورة ” لوائل غنيم ) .
يدعم ذلك كله ظروف إقتصادية صعبة ومشاكل إجتماعية مستشرية وبطالة وانفجار سكّاني خطير وقمع بعض الحريات وانفراد بالسلطة والمال وتهيئة لتوريث الحكم وقسوة في تعامل الأجهزة الأمنية مع الشعب .. وظروف أخرى , كل تلك تعززها وتشجعها  الثورة التونسية ونجاحها في القضاء على حكم زين العابدين بن علي وهروبه من تونس .
لقد نجح وائل غنيم ورفاقه في عدة إختبارات , أنزل فيها أعداداً من الشباب المصري إلى شوارع المدن المصرية , إرتدوا زيّاً موّحداً ( أسودا ) من خلال دعواته عبر الفيسبوك للتظاهر . وبعد أن إطمأن بعضهم إلى البعض الآخر وتعارفوا فيما بينهم ونسّقوا خطواتهم اللاحقة , إستطاع أن ينزل تظاهرة المليون مصري في ساحة التحرير في الإعلان عن توقيت الثورة .
لقد ظل معظم الشعب المصري في يوم النزول إلى الشوارع متردداً , يرقب الآخرين ويتفحص مدى شجاعتهم للمخاطرة , ويقيس حجم ردّة الفعل والتعامل من قبل الجيش والأجهزة الأمنية مع المتظاهرين . وحين رأى إصراراً شبابياً منقطعاً وتوافداً مستمراً لإملاء الساحات , وتعاملا سلميّا للجيش المصري مع المتظاهرين , إعترت الشجاعة وحبّ المواجهة نفوس المترددين , وغمرتها الرغبة للنزول , فنزلوا وبدأت مسيرة التظاهرات المليونية .
كانت مهمة وائل غنيم ورفاقه تتجسد فقط في إطاحة نظام الرئيس حسني مبارك عبر تظاهرات الفيسبوك , ولم تكن مهمته تقديم البديل وإملاء الفراغ الذي سيحصل بعد الإسقاط , لهذا فهو لم يعِّد رؤية حاكمة ولا حزباً ولا قيادة سياسية للثورة .. فانتهت الثورة للآخرين , للأكثر تنظيماً والأقدم عملاً سياسياً في الساحة , والأكثر دهاءً ومكراً وخبثاً , أعني تحديداً ( الإخوان المسلمين ) .
بغض النظر عن ما جرى لاحقاً من انتخابات وعملية سياسية , وما أفرزته من نتائج إستولى من خلالها الإخوان المسلمون على السلطة ومقدرات البلد , تولّد شعور يكاد يكون جماعياً لدى المصريين ( باستثناء الإخوان طبعاً ) بأن الإخوان مستولون على السلطة وهم لا يستحقونها , بل مصادرون فعليون لثورة شعب , وهم راكبو موجة , وليسوا آباء حقيقيين وشرعيين لثورة الشباب المصرية , بغض النظر عن تاريخ الإخوان الجهادي والنضالي وما قدموه من تضحيات ضد السلطات الحاكمة على مدى القرن العشرين .
هذا هو الشعور الحقيقي لدى الشارع المصري , وهذا هو الدافع الحقيقي وراء نزولهم إلى الشوارع هذه الأيام , كل ذلك مشفوع بيقين وطمأنينة إلى القوات المسلحة بأنها ستقف إلى جانب المتظاهرين وستتبنى مطالبهم كافة . يضاف إلى ذلك سوء سيرة الإخوان المسلمين في الحكم خلال سنة , بحيث لم يتركوا مفصلاً من مفاصل الدولة المصرية إلاّ وتدخلوا فيه وأخونوه , ولا أقول أسلموه . فمصر دولة مدنيّة تحكمها العلمانية منذ زمن بعيد . ولعل الرقص والغناء والسهر هي حياة المصريين وثقافتهم ومتعتهم , فكيف لهم أن يعزفوا عنها وينكروها وينبذوها بين ليلة وضحاها .
يعتبر الشعب المصري التدخل في متعته اليومية ضيماً وقهراً , لهذا فهو لن يسكت حتى يسترد متعته وحريته , في ظل عهد يحسبه المصريون قد ولّت فيه الديكتاتورية والإستبداد إلى الأبد .. ولذا فهو سيحقق حريته . ليست المسألة مسألة إن الشعب المصري شعب حيّ وثائر يأبى الضيم والظلم , وغيره من الشعوب خانعة ذليلة . ليست القصة بأن الشعب المصري شعب واعِ وغيره من الشعوب ليست واعية .

خلاصة ما بينّاه في مقالنا السابق عن الشعب المصري وثورته , بأنه ليس كما وُصِف خطأً من أنه شعبُّ حيُّ وواعِ , بينما غيره من الشعوب ليست كذلك , كونها شعوباً ميِّتةً ونائمة . المسألة إن لم تكن العكس تماماً , فهي ليست كذلك في أقلّ تقدير .
حديثنا اليوم سيخصص للشعب العراقي .
الشعب العراقي شعب حيُّ وذكي ومتمرِّد .. هذه الحقيقة التي لا مراء فيها مشخّصة منذ آلاف السنين , دونتها الكتب وأقرّ بها الحكماء وتطرّق إليها المفكرون وعرفها الحكّام والمتسلطون والدول .. ولكن كل الذي حصل خلال التاريخ من إختلاف بشأنها , تمثّل في طريقة العلاج والتعامل مع هذا الشعب العنيف .
فقبل آلاف السنين ( في الحضارة السومرية والبابلية مثلاً ) كان العراقيون أسياداً , يحكمون أنفسهم بأنفسهم , وما الملك إلاّ وكان واحداً منهم وفيهم , يراقب أفعاله وتصرفاته مجلس حكم مشكلّ من أعيان العراقيين , يعاقبه كَهَنَة المعبد إذا ما أخطأ أو إعتدى . وما العبيد الذين يخدمون الأسياد والدولة إلاّ أسرى أو أُجَراء أو مستخدمون أو مُشتَرون من دول أخرى .
سياسة التعامل باحترام وكرامة مع العراقيين – كأسياد – سياسة مصاحبة للعراق , لكنها كانت متقطعة للأسف على مدى تاريخ أقدم حضارة بالعالم , ولم يخلُ عهد من العهود منها , منذ فجر التاريخ , مروراً بصدر الإسلام , وصولاً إلى  وقت قريب من القرن العشرين . بيد أن مشكلة الطغيان والإستبداد والديكتاتورية إنما برزت وطغت على تاريخ العراق , ذلك لتسيِّدها في مراحل تاريخية إستمرت قروناً طويلة , فأعطت ذلك الإنطباع السلبي البائس عن مشكلة الحكم في العراق , وبدا وكأنه حكم الظلم والطغيان دوماً وأبدا .
إنما المتأمل في تاريخ هذا البلد سيجد آلاف السنين أطول من مئاتها , وفترات الحرية أطول من الديكتاتورية .. فنحن نتحدث عن ( 8000 ) عاما من الحضارة , سبقت مصر الفرعونية بألف سنة , وليس عن ( 400 ) سنة من الإستعباد العثماني , أو ( 35 ) سنة من ديكتاتورية البعث .
قلنا بأن الجميع قد شخّصوا طبيعة الشعب العراقي , الذي يعيش في بلد ليس له نظير في خيراته وكنوزه , لهذا كان مطمعاً دائماً للغزاة والحكّام معاً , فمنهم مَنْ استخدم سياسة اللين والرفق والإحترام بحق العراقيين , ومنهم مَنْ استخدم سياسة البطش والقسوة والتنكيل بحقه .. بيد إن عددا من حاكميه ومستعمريه إستخدموا سياسة الخداع والتضليل والضحك على هذا الشعب , لأنهم ظنوا بأن هذا الأسلوب هو ذكاءُ منهم في تعاملهم مع شعب ذكي صعب المراس .
لو نظرنا إلى بلدنا بتجرد وبعين منصفة , لوجدناه أكثر بلدان العالم تعرّضاً إلى الغزو والإعتداء من قبل الآخرين , بغض النظر عن الأسباب والدوافع . إن تناوب الغرباء على حكم العراق ودكتاتورية بعض حكامه من شأنه أن يولِّد إختلالاً واضحاً لدى الإنسان العراقي , وبالتالي إضطراباً في الرؤى والأهداف والتطلعات والمطالب , ذلك لغياب التواصل والتراكم في سياق مطالب العيش وتحقيق الحياة الحرّة الكريمة .

شواهد تاريخية قريبة :

لا نريد أن نتوغل أكثر من هذا في السرد والتحليل للتاريخ البعيد , إنما نقفز إلى شواهد من تاريخنا القريب , بعضها مظلم , والآخر مضيء . فخلال أربعة قرون من الحكم العثماني استُخدِمَت أرض العراق كغِلَّة للسلطان العثماني , وكان كل همّ شيوخ العشائر العراقية أن يزرع أبناؤها ليغذّوا جيوش السلطان , من دون أية مظاهر عمرانية أو بناء في المدن , فضلا عن بناء الإنسان العراقي ذاته , تقوم به الدولة .
لهذا لم تُعرَف أي حياة سياسية أو حزبية بالعراق , إلاّ في أواخر العهد العثماني أيام حكم الإتحاد والترّقي , وكان كل ما يحصل خلال القرون الماضية عبارة عن تمردات وثورات عشائرية ( وبعضها دينية في المدن المقدسة ) ضد الولاة العثمانيين لتحقيق مكاسب آنيّة ومادية , باعتبار العشيرة وحدة تنظيمية واضحة , من الممكن أن تقوم بدور قتالي أو عصياني وفق نظام الأوامر .
بعد دخول البريطانيين إلى العراق , ومن ثم إنتصارهم على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الاولى , صنعوا نظاماً سياسياً عسكرياً بالعراق مكوّناً من ضبّاط سابقين في الدولة العثمانية , إلتحقوا بركب البريطانيين منذ ثورة الشريف حسين إبن علي في الحجاز عام 1916م .
نعم لا يُنكَر بأن شيئاً من الحرية والحياة الحزبية والسياسية والبرلمانية البدائية قد بدأت في العراق بعد تولي الملك فيصل الأول الحكم عام 1921م , لكن مقاليد السلطة ومفاتيح الحكم كان يُمسك بتلابيبها الضبّاط العسكريون السابقون . لذا بقيت حتى ثلاثينات القرن العشرين كل مظاهر الإحتجاج والرفض والمعارضة لنظام الحكم الملكي عشائرية بدرجة أساس , مع ولادة بعض الأحزاب الوطنية وقتذاك .
أستذكر هنا الصديق حسن طالب الملاّ حمادي الذي أعدّ رسالته الماجستير – قسم العلوم السياسية عن ( التمردات العشائرية في الثلاثينات بالعراق ) بإشراف الدكتور عبد الرضا الطعّان , وكان قد حصل حينها على وثائق بريطانية تكشف عن حقيقة تلك التمردات وخفاياها , لم يتمكن الملاّ حمادي من تقديم الرسالة لوجود موانع سياسية من قبل نظام حكم صدّام حسين في ثمانينات القرن الماضي .

التظاهرات السياسية :

لم تتخذ مظاهر الإحتجاجات على الحكم الملكي العراقي الطابع السياسي التنظيمي الحقيقي إلاّ في أربعينات القرن الماضي , ذلك بعد تنامي وتغلغل أفكار الحزب الشيوعي العراقي بين صفوف العراقيين وطبقاته الفقيرة , من فلاّحين وعمّال وكَسَبَة .. فصارت الجماهير العراقية تخرج في مظاهرات حاشدة ومنظّمة إلى الشوارع , مطالبة بحقوقها , ومعلنة عن مواقفها السياسية إزاء الأحداث والتطورات السياسية .
بيد إن هذا الرأي الذي نزعمه لا ينفي تاريخ ووجود الأحزاب التي سبقت , ولا يقلل أبداً من شأن التظاهرات والإحتجاجات التي لحقت في خمسينات القرن الماضي . فلقد صار باستطاعة الأحزاب القومية والناصرية المشاركة والتبني للتظاهرات الجماهيرية , وإنزال الناس إلى الشوارع , سيّما بعد نشوء تلك الأحزاب ونجاح إنقلاب جمال عبد الناصر في مصر عام 1952م .
نستطيع الزعم بان هذا الحال إستمر في العراق حتى مجيء البعث مرة أخرى إلى الحكم عام 1968م . وبغض النظر عمّا جرى خلال فترة حكم أحمد حسن البكر في العقد السبعيني من تشكيل لجبهة وطنية سياسية شكلية ضمّت عددا من الأحزاب , بدأت فترة القمع والمنع وإقصاء الأحزاب السياسية من الساحة خلال حكمه , حتى تتوّجت تلك السياسة بانفراد صدّام حسين بالسلطة في العراق عام 1979م , ويومها حدثت الطامة الكبرى .

مسيرات لا تظاهرات :

لم يعد في العراق خلال حكم صدّام مسموحا لوجود أحزاب أو منظمات سياسية , باستثناء حزب البعث العربي الإشتراكي , فضلاً عن ممارسة دورها السياسي . ولم يعد هناك أي ذكر لتظاهرة معارضة للحكم أو مطالبة بحقوق سياسية أو ثقافية أو إجتماعية , بل حلّت ثقافة المسيرات المؤيدة للسيد الرئيس وللحزب والثورة . حلّ حكم الحزب الواحد والولاء لصدام .
  لقد دُمِّرَ العراق سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً . قُضي على الأحزاب , وتحولنا إلى دولة محارِبة في المنطقة . وتوزّع معارضو الحكم بين معدوم أو مسجون أو متخفِّ أو هارب إلى خارج العراق , وانقطع حبل الوصل بين الداخل والخارج .
 ( 24 ) أربع وعشرون سنة من التعتيم الإعلامي على العراقيين , وتغييب كامل عن سماع أو مشاهدة حقيقة ما كان يجري في العالم الخارجي من تقدّم وتطوّر . ( 24 ) أربع وعشرون سنة من الكبت والحرمان والمسخيّة للإنسان وكرامته , من التجويع والإذلال والإمتهان لآدمية البشر , من التبعيث الكامل للشعب والمؤسسات والدوائر .
ونحن في منتصف العهد من حكم صدّام ثار العراقيون عام 1991م ضد نظام حكمه , بعد هزيمة منكرة لقواتنا في حرب الخليج الثانية .. يومها عمّت التظاهرات شوارع المدن الثائرة وهي تهتف ( يصدّام شيل إيدك .. شعب العراق ميريدك ) بيد أن تلك الفرحة , تلك الممارسة الغائبة طويلا لم تستمر إلاّ أياماً , لتعبّر عن مخزون هائل من الحقد والكراهية والمعارضة لنظام إستبدادي بشع , سرعان ما خمد أُوارها وخبا جمرها وانطفأ لهيبها وبرد سَعْرُها من خلال الإجهاز عليها بطريقة بشعة .

عصيان الصدر الثاني :

في عام 1998م إستغل الشهيد المقدّس السيد محمد محمد صادق الصدر سياسة صدّام المتمثلة زيفاً وكذباً بالحملة الإيمانية , وصار يطرح مشروعه الإصلاحي التوعوي من خلال منبر مسجد الكوفة . وفي خطبه ليوم الجمعة راح يدعو للعصيان والتظاهر والمطالبة بالحقوق المدنيّة ( للمزيد أنظر كتابنا : إغتيال شعب , طبع لندن , سنة 2000م ) وقد إستجابت جماهير المصلّين لنداءاته وخطبه . وحصلت حالات عصيان وتظاهرات في مدن عراقية عدة , وبمجرد أن إستشعر صدّام الخطر الداهم إغتال الشهيد المقدّس ونجليه ليئِدَ المشروع الإصلاحي في مهده .. إستمر الحال هكذا حتى مجيء الأميركيين إلى العراق عام 2003م وإسقاطهم حكم صدّام .