تأخذ ثقافة الشهادة موقعاً متقدماً في العقلية الإسلامية منذ العصر الاسلامي الاول وما زالت كذلك، كما تمثّل الشهادة او الموت قتلاً في سبيل الوطن والقضية قيمة سامية لدى جميع الأمم والشعوب. فالشهيد يقدّم حياته ودمه من أجل أن يحيا غيره من أبناء جلدته.
بيد أنّ هذه الثقافة لها ضوابط ومحددات، وإذا تُركت سائبة هكذا، فقدت قيمتها وصارت ترويج لموت مجّاني في سبيل حياة مبهمة وغير واضحة. وهنا تتحوّل إلى “ثقافة موت”.
إنّ الفواصل بين الشهادة وثقافة الموت غير عسيرة على الانكشاف بمجرد معرفة الحركة أو الشخصية التي تحاول زراعة هذه الثقافة في المجتمع وتصديرها على أنها “قيمة عليا”. فحياة الأشخاص الذين يروّجون ويمجدون الموت تحت عنوان مقدّس، يجب أن تضبط على مسطرة خاصة.
فالخطيب الذي يشجّع مجموعة من الناس على الموت بينما يعيش هو في بحبوحة من العيش الرغيد والحياة المتعالية على حياة أهالي ضحاياه، لا تندرج قضيته تحت عنوان الشهادة وقيمها. وكذلك الحال بالنسبة للسياسي الذي يرفع صور الشهداء، أو يتباكى على قبورهم ويستخدمهم في خطاباته، بينما يعيش هو وأسرته وأبناءه في ترف وبذخ، لا يصدق الناس قولاً، بل أنّ من يرفع صورهم ضحاياه قبل أن يكونوا ضحايا للعدو الذي أصابهم برصاصاته.
إنّ المروجين لثقافة الموت لن يستطيعوا بناء الحياة أو وهبها للمجتمع، فبقاء هذه الرؤوس مرتبط ببيع هذه البضاعة فقط. وليس ثمة عاقل يشتري بضاعة مخادع، وهنا صار لزاماً على ذلك التاجر “السياسي المروّج للموت” أن يحضّر البيئة المناسبة لتجارته ويهيء العقول لإستقبال تلك البضاعة الفاسدة، ولا طريق سوى غسيل الادمغة البشرية ومحو معالم إنسانيتها التي تهب لها حرية الفكر، وبذلك ضمن هذا السياسي التباكي المربح في بورصة المقاولات السياسية، سواء إنتخابات أو المطالب بحصص وزارية بحجة (التضحية) وعلى رغم أنّ تلك التضحية هي من دماء الناس البسطاء وليست من دماء أبناءه أو حاشيته وذويه!
وهذا النمط من السياسيين يتواجدون بكثرة في المشهد العراقي، ومن سبل أو مظاهر الغسيل العقلي التي يقومون بها؛ إتهام كل ما هو آخر، كل من يفكر بعقلية أو بطريقة تختلف ولو إختلافاً نسبياً بسيطاً عن طرقهم التسطيحية، بالخيانة والعمالة والتكفير!
فوسائل التكفير لا يستخدمها الوهابيين ومنتجاتهم من القاعدة وداعش فحسب؛ إنما هذه الوسائل متاحة ورائجة بين المافيات السياسية التي تصبغ نفسها بصبغة منظمات أو أحزاب أو جماعات سياسيّة، وفي حقيقتها لا تمتلك من أبجديات ومواصفات الكيان أو الشخصية السياسية، ولعل هذا ما يفسّر تراجع العملية السياسية الجارية في العراق.
إنّ السبيل الأسهل للفوز بموقع يدر على من يستأثر به أرباح طائلة، هو استخدام طريق التكفير العقائدي والسياسي وإلغاء الآخر، وطالما تحدثنا عن آخر، فلا بدّ من إختلاف ممارسته (أي الآخر) عن تلك العصابات السياسية، ولعل أخطر ما يواجه تلك العصابات هي التطورات السياسية النابعة من عن متطلبات المجتمع وضرورات تبديل قواعد العمل السياسي، والتي تقوم بها بعض الشخصيات السياسية، وبالتالي تجد تلك المجاميع (العصابات) نفسها أمام خطر يهدد بقائها، لذا تبرز مخالبها لنهش جسد ذلك المنادي بالتجديد.
فتبرز أول الأمر وسائل القتل المعنوي أو ما متعارف عليه بالتسقيط، وهذا القتل بحاجة لقطيع من الأغبياء الذين يسلمون رؤوسهم بسهولة للإزالة والحشو، إذ تلغى من خلاياهم أي بقايا لأفكار إنسانية تناسب العصر والمنطق، وتحشى تلك الرؤوس بعد إفراغها بثقافات شاذّة، منها إعتبار ثقافة “الموت” معياراً للنجاح والشرعية للعمل السياسي! ومنها أيضاً إعتبار كل من يحاول إفهام المجتمع بحق الحياة الراقية، بأنه خائن لعقيدة ودين ووطن!
وعلى هذا المنوال تبدأ الأحكام القاطعة على أي مختلف بمجرد إيعاز سيد العصابة إلى القطيع بالشتم والسب والقذف. وفي حقيقة الأمر أنّ هذا القطيع يثق ثقة عمياء بما يرسل له عبر إشارات معينة عن أي شخص أو جهة ويعتبرها من المسلمات التي لا تخضع لنقاش أو تحقيق! وما يكشف بؤس وفراغ القطيع فكرياً وثقافياً؛ جلوس سادته المتكرر والمستمر مع الشخصيات المستهدفة دونما أدنى إعتراض. فَلَو كانت تلك الأسماء من جنس الشياطين، كيف تلتقي بهم الملائكة؟!
قبل الختام أقول: قد يسأل أحدهم عن نماذج لممثلي ثقافة الموت ومروجيها في العراق..
بكل بساطة، كل من أتهم ويتهم جلوس ثلاثة أشخاص أو أكثر بأنّ هؤلاء مدعومون من أمريكا، مثلا، فهذا ينتمي إما للقطيع أو سادة القطيع ولا طبقة وسطى بين الصنفين!