الرصاص والأحزمة الناسفة تنبت في العقول ويتعهدها بالرعاية ‘دعاة’ بعضهم يحمل لقب ‘الوسطي’، وفي اللحظة الفارقة تكشف العورة الآدمية عن وحش يتقرب إلى الله بالقتل ويسعفه وحش آخر بتسويغ الجريمة.
ليس لكلمة “الدعاة” في العنوان معنى، وقد اضطررت إلى استخدامها لشيوعها واستقرارها استقرارا يحتاج إلى طاقة جبارة لخلخلته، وليس هذا وقت خلخلة مصطلح “الدعاة” المتفرّغين لدعوة المسلمين إلى الإسلام وتجميل بضاعة لا تلزم الجمهور؛ فالطاقة كلها موجهة الآن لشيء يسمونه “الحرب على الإرهاب”، وهي حملات انفعالية لا تمس الجذور ولن تجفف المنابع، ولكنها تكتيكية قصيرة المدى، رد فعل مؤقت على حصاد دامٍ لظاهرة ليست جديدة ولا طارئة على المجتمع المصري.
ولن تؤدي سياسات محاربة الإرهاب إلا إلى المزيد من مراوغاته، وظهور رؤوس جديدة أكثر شراسة ومناعة عوضا عن رأس مقطوع هنا ورأس مسحوق هناك، فلا جدوى من مطاردة الذباب بالمطارق وتجاهل المزارع والحضانات.
ولا يسهم في هذه الحرب إبراء الوزير المسؤول عن إدارة المساجد لذمته باتهام الإرهاب بأنه غاشم وغادر، ويكفي الإرهاب أنه إرهاب، ولا تضيره هذه الصفات، إلا إذا كان في الأمر بعض العبث بوجود إرهاب “وسطي” يمكن احتماله والتعايش معه.
في مصر نحو 109 آلاف مسجد، والمسؤول عنها وزير الأوقاف، ولا أعرف هل يمثل السلطة الدينية “الدعاة” أم السلطة التنفيذية؟ فحين يعيّن قاض وزيرا للعدل يصير ممثلا للسلطة التنفيذية، في دولة لم يكن رئيسها يوما حكما بين السلطات، فهو رئيس فعلي للسلطة التنفيذية وما هو أبعد منها.
في الصرعة التي انتهجها أنور السادات بشعار “دولة العلم والإيمان”، وإعلانه أنه “رئيس مسلم لدولة إسلامية” رفض وزير الأوقاف وشؤون الأزهر متولي الشعراوي فكرة انتقاده حين زار القدس وقال “لو أن الأمر بيدي لجعلت الرئيس المؤمن محمد أنور السادات في مقام الذي لا يسأل عمّا يفعل”، فهل كان يعبر عن رأي سياسي أم ينطق بحكم ديني؟
في صلاة الجمعة أسبوعيا، وفي صلاة العشاء والتراويح في رمضان، تتمدد المساجد وتحتل أرصفة وتغلق شوارع، وتضخ الميكروفونات آيات وابتهالات وأدعية وأحكاما فقهية وآراء سياسية، حتى مطلع الفجر في الفضاء العمومي للا أحد.
وفي رمضان الماضي (1437 هجري، يونيو 2016) هاجم مصلون صائمون في الإسكندرية مبنى يصلي فيه مسيحيون، ورشقوا المصلين المسيحيين بالحجارة، تحت غطاء صوتي “إسلامية إسلامية”. وبدلا من حماية “الدولة” للمضطَهد المسالم وفتح تحقيق يؤكد سيادتها ويصون هيبتها، وجهت الشرطة إلى الضحايا تهمة ممارسة شعائر دينية في أماكن غير مرخصة، في شبه تجريم للصلاة في مكان لا يؤذي أحدا بضوضاء ما لم يحمل اسم “كنيسة”، فأضيفت صلاة المسيحيين إلى التظاهر الذي صدر بشأنه قانون غير دستوري عام 2013.
في فتن وعدوان من هذا النوع غابت الدولة، وحضرت حلول عرفية أدانت المعتدى عليهم، وقضت بتهجير عائلات مسيحية، ولم نشهد من وزير الأوقاف ممثلا للسلطتين الدينية والسياسية غيرة على الدين والدولة، فيعترض على هذا السلوك غير الإنساني ولو ببيان.
أحيانا أستحسن صمته؛ فحين يتكلم نراه، ونقترب من ثقافته الدينية ووعيه السياسي، كما فعل الأسبوع الماضي، (أحد السعف 9 أبريل2017)، بعد استشهاد 46 شخصا وإصابة 125 في تفجير كنيسة مار جرجس في طنطا والكنيسة المرقسية بالإسكندرية.
لم يكن سياق الاعتداء على مواطنين في عيدهم يستدعي من الشيخ محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف ورئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وعضو مجمع البحوث الإسلامية، أن يستند إلى ابن حزم في “حماية شركائنا في الوطن وأن ندافع عنهم”. تصريح خارج من غبار كتب الفقه، ينفي عن المسيحيين صفة المواطنة، ويوجب حمايتهم كرعايا، ولا يقال مثله إذا تعرض مسلمون لاعتداء.
لم يغب عن الوزير القول “إن الإرهاب الغاشم الذي يستهدف بلادنا يجب علينا جميعا أن نتكاتف ضده لاقتلاع جذوره.. من يقومون بالتفجيرات لا دين لهم ولا ملة، غير أنهم من أتباع الضلال والهوى مثل فرعون وأعوانه”.
لا أعرف أيّ “فرعون” يقصده وزير يحمل ثلاث صفات دينية وشهادة الدكتوراه؟ فلم يحمل حاكم مصري عبر التاريخ اسم أو لقب “فرعون”، والكلمة تعني “البيت الكبير”، القصر، “الباب العالي”، وربما يكون قريبا من كلام المغاربة عن “المخزن” في إشارة إلى الملك أو المؤسسة الحاكمة.
وقد نقبل من الأميّ ومتوسط التعليم أن يهذي بالفرعنة حين يضيق صدره بالاستبداد، أما المسؤول ففي كلامه كشف للعورة العلمية. ثم إن نفي الدين أو الملة عن الإرهابي ليس مسؤولية البشر، فلم يعيّن الرجل وزيرا للتكفير، ليقضي بكفر مسلم.
ما يعنينا أن تخريبا وفسادا وقعا، وأرواحا أزهقت، وأن الرصاص والأحزمة الناسفة تنبت في العقول ويتعهدها بالرعاية “دعاة” بعضهم يحمل لقب “الوسطي”، وفي اللحظة الفارقة تكشف العورة الآدمية عن وحش يتقرب إلى الله بالقتل ويسعفه وحش آخر بتسويغ الجريمة، وربما يوجه البعض إلى القاتل لوما حانيا؛ لأنه حين “نفذ حد الردة” افتأت على الحاكم في ما يجب أن يفعل، هكذا شهد محمد الغزالي في المحكمة مبرئا قتلة فرج فودة عام 1992.
أرفض تكفير الدواعش، هم كغيرهم أحرار في اختيار أي دين والخروج منه. ما يهمنا تطبيق العدالة على من ينتهك القانون ويعتدي على أبرياء، محاكمة السلوك لا للضمير، ولكن أغلب تراث “الدعاة” مشغول بالقلوب، بتعقب عقيدة الآخر الذي ربما لا يرانا.
لن أشير إلى مضمون كتاب صريح في عنوانه مثل “الإسلام في وجه الزحف الأحمر” للغزالي، وإنما إلى أول كتاب قرأته له “هموم داعية” (1983)، وأكتفي بعناوين بعض فصوله “معالم النصرانية نبتت في الأرض بعيدا عن وحي السماء”، “مصادر الحقد على الإسلام”، “خطر عودة الإسلام”، “اجتماع أهل الديانات المحرّفة على الإسلام”، “غارات وحروب تشن ضد الإسلام”، و“الدعوة إلى أخوية الأديان مشبوهة”.
لطه حسين، الذي يكفّره قطاع من السلفيين والوهابيين، كتاب عنوانه “من بعيد” أود أن يقرر في مناهج الأزهر. يدعو الكتاب إلى إعلاء قيمة العقل وتنزيه الدين “عن اضطراب العلم وتناقضه”.
كان المؤلف مشاركا في مؤتمر العلوم التاريخية ببلجيكا، ودعي المشاركون إلى اجتماع في كنيسة أثرية، “لا للصلاة ولا للتقديس، ولكن للدرس والتاريخ.. خطبنا قسيس فلم يتحدث إلينا في دين المسيح”، وإنما في الآثار والعمارة، وناقش أثريين من ألمانيا وفرنسا عن الفروق بين العمارة في الدول الثلاث.
يسجل العميد إعجابه “بقسيس آخر خطبنا في المؤتمر خطبة ليست بينها وبين الدين صلة.. يؤلمني جدا أن أقارن بينهم (علمائنا) وبين رجال الدين في أوروبـا، لأن هذه المقارنة لا تسرهم”.
قيل هذا الكلام عام 1923، وكأن 94 عاما ذهبت سدى.
نقلا عن العرب