23 ديسمبر، 2024 6:26 ص

ثقافة الحوار وأدب المناظرة

ثقافة الحوار وأدب المناظرة

إن الذين يبحثون عن الحوار إنما يقصدون بذلك طلب المعرفة والحقيقة لتغيير بعض الحقائق المترسخة في أذهانهم وتحويلها للمسارالصحيح،وهنالك من يبحث عن الحوار لغرض خلط الأوراق وتشويه الحقائق واللجوء في المناظرة لغرض السب والقدح والطعن بثقافة الآخرين وكأنه يعلم ما لا يعلمون،تلك هي النظرة الفوقية والدونية التي رفض الباري أن يتعامل بها الناس مع بعضهم وقول الرسول (ص) (الناس سواسية كأسنان المشط) ,الحوار سلوك قويم ,مارسه الملائكة قبل ان يخلق الله تعالى الانسان حين انبئهم تعالى بارادته خلق البشرية ( واذ قال ربك للملائكة : اني جاعل في الارض خليفة. قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء , ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال : اني اعلم ما لا تعلمون ) (البقرة : 30 ),ولم يقتصر الحوار مع الملائكة , فرب العزة تعالى فسح المجال لأبليس , حين عبرة عن رأيه مسوغأ لرفضه للسجود لآدم ( قال : ما منعك الا تسجد اذ امرتك ؟ قل : انا خير منه , خلقتني من نار وخلقته من طين ) ( الاعراف : 12 ) . فلم يمنعه رب العالمين من الادلاء برئيه والتعبير عما يعتقده , ولم يرسل عليه عذابا يدمره في حينه رغم انه خالفة امر الله , بل منحه فرصة عندما طرده من الجنة , ومنحه مهلة الى يوم القيامة ( قال : فاهبط منها ,فما يكون ل كان تتكبر فيها , فخرج انك من الصاغرين . قال : انظرني الى يوم يبعثون . قل : انك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم ) ( الاعراف : 13,14 )هذا الأدب القرآني والخلق الرباني مثال لنا في تعاملنا مع من نخالفهم في الرأي , وكيف نفسح المجال لهم للتعبير عن ارائهم بكل حرية ,المناظرة مع الاخرين الحوار و سمة من سمات اصحاب العقول والمفكرين , من اجل إقناع الآخرين برائيهم وأفكارهم مستخدمين الحجج العقلية والادلة والبراهين لدعم ارائهم ,ويتعرض المسلمون المهاجرون في الغرب الى مختلف الحالات والمواقف التي تتطلب منهم الرد على بعض الشبهات والاتهامات التي تنال من الإسلام أو من مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) و الشخصيات الاسلامية والعلماء والمراجع وذلك بسبب ثقافة التكفيرعند بعض الحركات الاسلامية المتعصبة ،قد تجاوزت الحدود بشكل مذهل وخطيرلاقصاء الآخر والإفتاء بقتله ،وهذا ما يتناقض مع سماحة قيم الإسلام السمحاء العادلة ،لقد تجاوز الفكر التكفيري حتى مقولة (ابي حامد الاسفراييني ) وهو احد علماء الشافعية في القرن الرابع عشر حيث قال (من كفرني كفرته ذلك اني واثق من اسلامي ولااشك فيه فاذا كفرني خصمي هو الكافر) ويعتمد نوع الحوار او المناظرة مع طبيعة الجانب الاخر وفكره ومعتقداته وسلوكه ،وكلما كان الحوار هادئاً بعيداً عن التشنج والتهكم والسخرية بالخصم كلما فسح المجال للرأي الاصيل والفكرة الهادفة بأخذ مكانها في الحوار واقناع الطرف المقابل بها,ومامن رسول أو نبي الإ وقد ناظر قومه وحاججهم وجادلهم في أثبات صحة ما يدعوهم اليه,فقد حاجج ابراهيم (عليه السلام) النمرود كما حاجج قومه ,وجادل نوح (عليه السلام ) قومه حتى قالوا له (يانوح قد جادلتنا فاكثرت جدالنا) (هود:32) ،وقد امر الله رسولنا الكريم (صلى اله عليه واله وسلم) بمجادلة المشركين ودعوتهم الى الحق،فقال :(ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن. ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو اعلم بالمهتدين )(النحل:125) كما امر الله تعالى بمجادلة اهل الكتاب من اليهود والنصارى بالحكمة والموعظة حيث جاء في قوله تعالى (ولاتجادلو اهل الكتاب الا بالتي هي احسن )( العنكبوت: 46),فالغلظة في المناظرة والجدل لا تزيد الطرف الآخر الإ نفوراً وعناداً وتعصباً، وتمسكاً بالباطل كما أوضحه الباري (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضو من حولك ) (ال عمران : 159) ويتضمن القران الكريم احتجاجات كثيرة بين الله تعالى والبشر،ضاربا الامثال التي توضح الفكرة ، ذاكرا الادلة المنطقية والعقلية التي تدعم الفكرة،يقول الله تعالى (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه . قال : من يحي العظام وهي رميم ؟ قل يحيها الذي انشأها اول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم الشجر الاخضر نارا فاذا انتم منه توقدون ، اوليس الذي خلق السموات والارض بقادر على ان يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم. انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون . فسبحان الذي بيده ملكوت كل شي واليه ترجعون )(يس : 78-82),وقد دخل النبي (صلى الله عليه واله سلم ) في مناظرات مع اهل الاديان الاخرى ،فينقل لنا الطبرسي في كتابه ( الاحتجاج) مناظرات للرسول الاكرم (صلى الله عليه واله سلم) مع اليهود والنصارى والدهرية والثنوية ومشركي العرب ،ويروي تفاصيل شبهاتهم وجواب النبي (صلى الله عليه وسلم ) لهم ودحضه لمزاعمهم,كما أن المتبع لسيرة الائمة (عليهم السلام) يجد امثلة كثيرة في مناظراتهم واحتجاجاتهم مع خصومهم،بدء بامير المؤمنين علي (عليه السلام ) وبقية الائمة الذين وردت اخبار كثيرة بشان مجادلة الخصوم واقناعهم ،وكانوا (عليهم السلام) يأمرون بعض اصحابهم ممن يتوسمون فيه القدرة على مقارعة الحجة بالحجة ، كما هو المشهور في موقف الامام الصادق (عليه السلام) من هشام ابن الحكم وثلة من اصحابه الذين تصدوا لافكار الزنادقة والملحدين والمخالفين في المسائل الاعتقادية كالمجبرة والمفوضة والمجسمة وغيرها من المذاهب,ففي كل حروب الامام علي (ع) قبل أن يبتدأ المعركة كان يدخل مع المعسكر الآخر لقتاله يخوض مناظرات فكرية وفقهية ليرشدهم لطريق الحق وان لايضلوا عنه قائلاً لهم مذكرهم بقول الرسول (ص) (علي مع الحق ،والحق مع علي ) والسؤال هو كيف يخرجون لقتاله ولقتال أصحابه ؟ وهم يعرفون مكانته ومنزلته ,ولعل قضية الأمام الحسين (ع)كانت مليئة بثقافة الحوار والطرح البناء قائلاً لهم قبل بدء معركة واقعة ألطف :(أيها الناس : انسبوني من أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم و عاتبوها ، و انظروا هل يحل لكم قتلي،وانتهاك حرمتي ، ألست ابن بنت نبيكم ، و ابن وصيه و ابن عمّه ،و أوّل المؤمنين بالله،والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه ؟، أو ليس حمزة سيّد الشهداء عم أبي؟ ، أو ليس جعفر الطيار عمّي ؟ والسؤال نفسه كيف يقاتلوه وينتهكون حرمة رسول الله (ص) به بقتل ابن بنته؟وقد دعا الائمة الى المناظرة والاحتجاج ،فقد روي عن الامام الصادق عن ابيه الباقر (عليهما السلام ) قال : (من اعاننا بلسانه على عدونا انطقه الله بحجته يوم موقفه بين يديه عز وجل )وقول الامام الصادق (عليه السلام): (حاجوا الناس بكلامي فان حاجوكم فانا المحجوج ) وكان الإمام الصادق يحب سماع مناظرات تلاميذه مع خصومهم ويطلع على حججهم،كما ان الذي يود المحاججة عليه التسلح بالثقافة الواسعة والعميقة والمعرفة المسبقة للموضوع المعني المناضرة فيه بقراءة أكثر من مصدرعنه ومن شتى الآراء ووجهات النظر وذلك للتمكن من الرد والإجابة على الأسئلة المطروحة بروح عالية وتقبل الرأي الآخرطبقاً للمقولة الشائعة الاختلاف في الرأي لايفسد في الود قضية.