إن التراث الذي قرأناه لاحقاً وأغنى لغتنا وزادها جزالة لفظ وعذوبة، هو غير تلك القصائد التي عُلقت على أستار الكعبة قبل ألفيْ سنة.
كان معلم العربية في المدرسة من الطراز القديم الذي يشعر بالحنين إلى الماضي، وكان لا يتكلم إلّا الفصحى في الصف، وويل لمن يجيبه بغير الفصحى، فعصاه الرفيعة التي تشكل امتداداً لذراعه الطويلة تلوّح متوعدة. وأكثر ما كان يعذّبنا هو فروضه بحفظ المعلقات السبع ترديداً ببغاوياً وليس معنىً.
تذكرت ذلك العذاب وأنا أتأمل كتاب النصوص للصفوف المتوسطة الذي ما زالت المعلقات العتيدة تحتل مساحة لا بأس بها من صفحاته، والعذاب الذي عانيناه في حفظها في الماضي، عل الرغم من أن زماننا آنذاك لم يكن قريباً إلى هذا الحد من التكنولوجيا وانتشار التقنيات الحديثة، وحين أنهينا دراستنا الجامعية وتوزعنا على مهن عدة لاحقاً.
ما زلنا نضحك حين نلتقي بعد أن تناهبتنا الحياة واختلفت اهتماماتنا، نضحك عن جدوى حفظنا للمعلقات ومدى أهميتها لمستقبلنا، حتى بالنسبة إلى البعض منا المهتم بالأدب العربي وتخصصه فيه، إلّا أن هذا البعض لا يشكل نسبة 1 بالمئة من عدد الطلاب في الواقع، وحتى هؤلاء، أقصد المهتمين بالأدب، حين قرأوا ديستويفسكي وهيرمان ملفل وهوميروس وفيكتور هيغو وثربانتس وكامو وبوشكين وبورخيس لاحقاً.
لم يستطيعوا العثور على مقاربة نظرية بين هذا الأدب العالمي والمعلقات التي كتبها شعراء من الأعراب في حقبة زمنية سابقة تحت ظروف حتمتها عليهم بيئتهم شبه البدوية الجافّة ولغتهم القديمة الفاقدة لطراوة التعبيرات ووضوح المعاني، فكانت النتيجة جفول أرواحنا من غرابة التعابير والصور الشعرية التي لا تمت إلى واقعنا بأيّ صلة تذكر، بل إن الإصرار على حفظ تلك القصائد الطويلة والمملة أحدث لدى الكثير من الطلبة ردّة فعل عنيفة إزاء اللغة العربية.
لكن هذا الأمر كان غائباً عن بال واضعي المناهج آنذاك لأنّهم أسرى إعجابهم بالأدب الجاهلي القديم، بل إن حياتهم نفسها كانت مقتصرة على قراءة الأدب الجاهلي وشعراء المعلقات والكتب التي تشرح وتفسر معانيها، لا سيما شرح الزوزني الذي زاد طين الغموض وغرابة التشبيهات بلّة، ولا أدري أيّ قصيدة تلك التي تتطلب من القارئ المعاصر كتباً لشرحها وتفسيرها، من دون أن ينفتح هؤلاء على الآداب الأخرى، لا سيما المترجمة، فكانوا يُسقطون ذائقتهم الموحشة على وعينا اعتقاداً منهم بأن الأمر ضرورة لفهم العربية وجمالها، وكان الواحد منهم يتغنى لساعات ببيت زهير ابن أبي سلمى “أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَـةٌ لَمْتَكَلَّـمِ”، أو بيت طرفة “ابن العبد لخولة أطلال ببرقة ثهمد”، من دون أن يدرك أن ما يراه جمالاً وإعجازاً لا نراه كذلك في الواقع، بل إن “برقة ثهمدِ” تلك تحديداً قد شكلت لنا عقدة كبرى شبيهة بتلك التي سببتها لنا “بسقط اللوى بين الدخول وحوملِ”.
وإذا كان البعض يعتقد بأن قراءة التراث مهمة لتدعيم اللغة وإغنائها، وهذا صحيح إلى حدٍ ما، إلّا أن التراث الذي قرأناه لاحقاً وأغنى لغتنا وزادها جزالة لفظ وعذوبة، هو غير تلك القصائد التي عُلقت على أستار الكعبة قبل ألفيْ سنة، فقد قرأنا كتب الأغاني والقيان والمستطرف في كل فن مستظرف والطبقات الكبرى والعقد الفريد لنستمتع برواية الحكايا ولذّة الاكتشاف ومتانة اللغة العربية التي كتبت بها تلك الكتب، وحين أحببنا أن نُغني الجانب الفلسفي قرأنا ابن رشد وابن عربي والغزالي، وحين أصبح لدى البعض منا ميل إلى العلوم قرأ الخوارزمي وبديع الزمان الجزري، ومن وجد روحه حائرة في غياهب الاعتقاد قرأ المتصوفة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم.
وفي المحصلة فإن واضعي المناهج ممن لا يمتون إلى العصر بصلة هم أحد أسباب متلازمة الخوف لدى الأجيال الجديدة في الواقع.
نقلا عن العرب