غزتنا (( ثقافة التبرير )) ،
ولعلها أسوأ ماوصلنا اليه من تراكمات الخراب ، فبسببها تركن يوما بعد يوم في (( خانة التبرير )) كل المواضيع والقضايا التي يتوجب حسمها وانجازها لأجل مصلحة الشعب والبلاد .
التبرير بأختصار جدا هو :
توضيح لأسباب أدت الى كذا ، بسبب كذا حصل كذا ، فتصبح الحالة ويصبح الموضوع مقنعا و(( مبررا )) وأسباب مؤدياته أصبحت واضحة .
والتبرير بهذا المعنى يصبح رديف لحالة الوجود والصراع الحياتي (( جدل التطور التأريخي وتوابعه )) مثل تبرير ظواهر الطبيعة – تبرير الحالات والمواضيع الحاصلة – تبرير الكساد – تبرير النجاح – تبرير المتغيرات . . الخ .
والتبرير يجب أن يكون له حد ومدى من المقبولية لكي يكون سليما ومقنعا .
لايمكن للتبرير ان يقفز ليحل محل الموضوع أو الفعل أو الظاهرة أو الهدف أو الغاية ، فعندها سيققد معناه ويتحول الى حشو فراغات بطريقة غير مقبولة تفتقد الى المنطق السليم .
الذي يهمنا هنا هو التبرير الحاصل (( لتردي أوضاعنا )) وحالاتنا وماترتب على هذا التردي من نتائج حياتية تم ايصالنا اليها .
فكل شيْ صار مبررا ،
وصار يمتلك أدوات تبريره ،
ولديه أبواق ووسائل حشو المبررات في أذهاننا .
في أنظمة الحكم والأدارة الحازمة – الناجحة – يعتبر التبرير وايجاد الذرائع والمبررات لأي اخفاق يحصل مرفوض تماما ويوضع في باب الفشل أو التهاون أو التخاذل أو خيانة الأهداف المرسومة .
أما عندنا ، فالتبرير بحد ذاته أصبح هو الهدف وهو الغاية .
فلم يعد المطلوب من ادارات الدولة التنفيذية أو الجهات الرسمية صاحبة القرار والحل والربط تحقيق الأنجازات والقفز بالخطوات ومتابعة المسيرة المطلوبة الى الأمام ، بل أصبح الشغل الشاغل لهذه الجهات والقطاعات هو توفير التبريرات وزج الأعذار واتخاذ الوسائل والتدابير والخطوات اللازمة لغرض حشوها في أذهان الناس .حتى تم اغراقنا في لجة متضاربة من الفوضى العارمة التي ليس لها آخر ، وأصبحنا نطفو ونتندر ونتصارع على سحب من الأوهام والفراغات الضبابية الواهية عديمة الجدوى التي صارت تستهلك كل حياتنا وطاقتنا ووقتنا .
لقد أصبح التبرير ثقافة لدينا ، تتبناه عن قصد أو دون قصد أساطيل من الأفواه والأقلام والأبواق والفضائيات ، وأصبحنا نهيء أنفسنا كل يوم لأستقباله وتلقيه والقبول به . . سلسلة من الفراغ والعبث الهدام الذي يعاقرنا ويرافقنا ويتزامن ويتعايش مع أخلاقياتنا وسلوكياتنا .
تم تبرير كل ماحصل علينا من تقلبات واخفاقات وخسارات منذ (( لانريد أن نذهب بعيدا فنقول منذ عدة قرون )) .
بررنا كل الهرج والتطبيل والتزمير الذي حصل على رؤوسنا ، ومنحنا الوسيلة والحجة لأقتيادنا الى مهاوي التردي والى مستنقعات الضياع والخسران والفقد .
أعطينا الحجة والوسيلة لتسلق أزلام ذوي تاريخ مشوه على أكتافنا ومنحناهم المطرقة لضرب رؤوسنا .
بررنا عداواتنا واعتداءاتنا وتجاوزاتنا وبررنا التجاوز علينا وهضمنا ولوكنا في لجة الفوضى .
خلقنا الأعذار الواهية للركوع الى الغازي والمحتل والطامع ، ومنحنا أنفسنا الحجة والعذر للأنقياد خلف المرتزقة والخونة والمشبوهين وعملاء الأجندات الخارجية .
منحنا أنفسنا التبرير والعذر والسبب للتشرذم والأنسلاخ والأنحطاط لغايات أنانية وذاتية وفردية وأطماع ومغانم شخصية .
ترسخت لدينا ثقافة التبرير ، ووجدت من يدعمها ويعززها لأنها البديل السهل والوسيلة البسيطة المنال لسحقنا وتضييعنا في المتاهة .
فتم تبرير اقتيادنا الى الحروب العبثية والمنافي والسجون وقطع الأكف والآذان والأعدامات على أعمدة الشوارع .
وتم تبرير الأحتلال والغزو علينا وتمزيق البلاد .
تم تبرير اختلافاتنا الأجتماعية وتعميق مبررات الأختلاف .
تم تبرير القتل الجماعي الذي حصل بحقنا ، والمقابر الجماعية التي حصلت وتحصل (( لاننسى الكرادة وسوق عريبة وجسر الأئمة وغيرها العشرات )) ، وتبرير الحرق والتخريب والتدمير المقصود للبلاد .
تم تبرير السرقة والفساد واللصوصية وبرمجتها في أطر غريبة الأطوار أصبحت مقبولة في ظل ثقافتنا الحديثة وفي ظل مفاهيم (( الشاطر يجيب نقش )) .
تم تبرير الخطاب السياسي والأجتماعي والأقتصادي الذي ساقه المحتل وذيوله لغرض تمزيق العراق وبيعه في سوق الخردة ، تقبلناه وهضمناه وأصبحنا نصدر له المبررات ونسوقه لأنفسنا وللآخرين .
التبرير بهذا المعنى هو جوهر التخاذل ولب الخيانة والأنحراف .
أصبحت ثقافة التبرير وسوق الأعذار للحالة المتردية في كل تفاصيل حياتنا وخدماتنا وواجباتنا اليومية هي الشغل الشاغل الذي يستهلك جهودنا وأوقاتنا ، فأعلى سلطة في الدولة تبرر ، الوزير يبرر ، المدير العام يبرر ، رئيس القسم يبرر ، الموظف الصغير يبرر . . الكل لديه دفتر أعذاره وطريقته واسلوبه في تبرير عدم أداء الواجب وعدم الألتزام بالمهام وعدم الأيفاء بالأمانة .
الكل ، أصبح يجتهد في تبرير الفشل والأنحراف والسلوك الشائن وخلق الأعذار حتى ضاقت بنا الأرض والسماء وسيتم الخسف بنا عما قليل اذا لم نتدارك أنفسنا .
نفرح كثيرا ونشعر بالأمل والزهو حين يتوالد لدينا شيئا فشيئا نقيض هذا الواقع ، اذ تتوالد لدينا الصحوة الوطنية التي نراها متجسدة بشكل حي وباسل لدى (( أولاد الملحة )) العراقيين الشرفاء الذين يقارعون الآن الموت كل دقيقة لأجل تطهير الأرض العراقية من الرجس الذي لحق بها من جراء دسائس وذيول العمالة والخيانة وأدران المخططات السياسية الكبيرة المحاكة لنا منذ أمد بعيد .
علينا أن نستثمر هذا النصر المؤزر – العراقي – ليكون مفتاح البوابة نحو عراق تنعدم فيه تبريرات الهزيمة والأحباط .
[email protected]