ثقافة الاعتذار والاستقالة

ثقافة الاعتذار والاستقالة

تُعدّ الثقافة أهم الركائز التي تُشكّل هوية الإنسان وتُسهم في بناء وعيه الفردي والجمعي، وفلسفة الثقافة هي التأمل العميق في هذه الظاهرة الإنسانية، وتحليل جذورها، وأثرها في تشكيل الفكر والمعرفة. إنها لا تكتفي بوصف الممارسات الثقافية، بل تتجاوزها لتسأل: ما معنى أن نكون كائنات ثقافية؟ وكيف تؤثر اللغة، والفن، والعادات، والدين، في رؤيتنا للعالم؟ التفاهة قد تسربت إلى مجتمعاتنا، والفضل يعود إلى العولمة,, ليصف النظام السياسي المُسمى “حكم اللصوص”، وهو النظام الذي يسمح بالفساد وسرقة المال العام والخاص من خلال تسهيل استغلال المناصب الإدارية والسياسية من قبل القائمين على مرافق الدولة

شاهدنا جميعا وسمعنا كيف ان محافظ البصرة اسعد العيداني يؤنب مواطنا بصراويا حين سأله عن ملوحة الماء , بل ان العيداني يؤمن يان مجرد الحديث مع مواطن مكرمة , وبذلك اختصر العيدانيبمشهد يمثل هوية الطبقة السياسية التي تتحكم في شؤون هذه البلاد، عندما وجدناه يقول للمواطن: “تريد تعرف شسوينا، خلّينا واحد مثلك يحجي ويانه بدون ما نسيء له , وتلك احد تفاهاتسياسيين ومسؤولين عراقيي الجنسية يجعلون معركتهم من أجل الكراسي، أشبه بلعبة سيرك على الحبال، هرباً من التصدّي الجاد للمشكلة، ليجد المواطن نفسه بمواجهة قوى سياسية تعتقد انها ” مقدسة “، ولا يجوز محاسبتها أاو الاقتراب منها ,, والصورة الاخرى بكاء الوزيرة البريطانية راشيلريفز التي اتهمها البرلمان بالتقصير، وضحكة الوزيرة العراقية طيف سامي التي اخبرتنا بكل اريحية ان الموازنة في خبر كان، تكمن مشكلتنا المستعصية، فنحن في بلاد يتحول فيها المسؤولالى كائن مقدس لا يمكن الاقتراب من قلعته الحصينة,,وهنا نتذكروزيرة الصحة عديلة حمود وسرقتها لاموال الوزارة والادؤية الفاسدة , تركت عشرات الاطفال يموتون حرقا في مستشفى حكومي، ونوابنا الفاشلون في كل شئ الا السحت والمال الحرام

الاعتذار فن إنساني لا يتقنه جميع البشر، رغم أنه لا يتطلب علماً أو ثقافةً كبيرين، بل شيء من أدب وتواضع، وقدرة على كبح جماح النفس الأمارة بالسوء، ثقافة الاعتذار ممارسة تحتاجها مجتمعاتنا كثيراً، وينبغي زرعها في نفوس الأطفال، وبحيث تصبح جزءاً من ثقافتهم فتنعكس إيجابياً على مجمل علاقاتهم الاجتماعية لاحقاً، وعندها فقط سيستطيعون ممارسة الاعتذار بلا تردد ودون شعور بضعف أو خجل، فإن الدين المعاملة

في دول العالم الاخرى يختلف معنى “المسؤولية السياسية” عما في العراق، فقد، اعلن وزير النقل والبنية التحتية اليوناني كوستاس كارامانليساستقالته من منصبه بعد حادث اصطدام قطارين في (1 آذار 2023)، والذي أودى بحياة 36 شخصاً على الأقل , ويقول المستقيل كارامانليس في بيان له: “عندما يحدث شيء بهذه الدرجة من المأساوية، فإن من المستحيل الاستمرار والتظاهر كأن شيئاً لم يحدث”، مبينا ان “هذا يسمى مسؤولية سياسية، ولهذا السبب، أعلن استقالتي كوزير للنقل والبنية التحتية,, وفي (11 أيلول 2023)، أعلن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان، فولكر بيرتيس، استقالته من منصبه، وذلك بعد أشهر من تصنيفه شخصًا غير مرغوب به من قبل السلطات في الخرطوم،

ثقافة “الاستقالة” لم يعرفها المسؤول في العراق على الرغم من تكرار الكوارث الإنسانية في البلاد، والتي تزهق بسببها حياة المئات من الابرياء، وبتصرف مغاير لما يدور في العالم من الاحساس بـ“المسؤولية السياسية” وعدم التغاضي عن الكوارث، فإن المسؤول العراقي يتمسك بالمنصب لإسباب يوضحها باحثون في الشأن السياسي ,, رغم كثرة الفشل, وتزايد الفساد والمفسدين , ورغم كثرة الفضائح السياسية وتعددها والوانها, مازال المسؤول العراقي لا يفهم معنى الاستقالة , أن الوزير السياسي هو المسؤول عن كل ما يجري في وزارته، ولا يتهرب من المسؤولية لأي سبب كان، وعند حصول خطأ ما في حدود سلطاته فيجب عليه هو، وليس غيره، أن يتحمل المسؤولية السياسية والأدبية ويقدّم استقالته من منصبه، فهذه ضريبة أن تكون وزيراً سياسياً، أن كلمة السر في الموضوع كله هي المسؤولية,
إذن المسؤولية السياسية ليست سهلة، والمنصب ليس تشريفاً، والتعهدات التي يطلقها المسؤولحين تسلمه المنصب ليست مجرد كلمات مستهلكة ينساها بعد حين، أن الكلمة مسؤولية، وهذه الكلمة هي سبب استقالة (يوكيو هاتوياما) رئيس وزراء اليابان (حزيران 2010) لأنه لم يستطع الإيفاء بالعهد الذي قطعه للناخبين بنقل قاعدة أمريكية في جزيرة (أوكيناوا) من مدينة (جينوان) إلى منطقة (هينوكو)، رغم أنه لم يستلم منصبه إلا قبل (9) أشهر فقط! (تذكروا معي الكمْ الهائل من الوعود التي أطلقتها النخبة الحاكمة ولم تلتزم بها، والمفارقة أن الشعب أول من نساها ولم يحاسبهم عليها، بل أعاد انتخابهم مرة أخرى,
المسؤولية السياسية ونتيجتها الإستقالة في غاية الأهمية وتضع المسؤول الأول على المحك دائماً، وتعتبر أنه المسؤول عن كل ما يجري في حدود سلطاته، وهي ثقافة سادت في الكثير من المجتمعات ولكنها غائبة عن مجتمعنا العراقي، فمن النادر أستقالة مسؤول بسبب خطأ وقع في القطاع المؤتمن عليه، رغم كثرة التجاوزات والأخطاء والفساد، فالمسؤول الأعلى يرى الكارثة تحدث ويعرف تماماً أنها من ضمن اختصاصه، وهي نتيجة فساد أو سوء تخطيط أو إهمال، ومع ذلك لا يتحمل المسؤولية بل يتجاهل الكارثة أو يبررها، وفي أحيان كثيرة يتم تحميل المسؤولية إلى صغار الموظفين ليكونوا كبش الفداء لأخطاء المسؤولالكبير, مواقف لا نراها إلا في بلاد سادت مجتمعاتها قيم الحرية ، والانتخابات الحرة ، وثقافة المحاسبة ، وعدم السكوت على الخطأ ، ولفظ المسيء ، عن طريق حجب الثقة عنه واساقاطه في أول فرصة تمُكن المواطن من أداء دوره الذي يراه واجباً يجب القيام به ، وليس ترفاً من أمور الحياة الخاصة, أمثلة كثيرة يمكن ذكرها بدأ من الزعيم الفرنسي ديغول القائد المظفر الذي حقق الاستقلال لبلده لكنه يستقيل ، رغم التأيد الشعبي له ، لأنه رآه ليس بالتأيد الكاف الذي يستحقه ، فقال كلمته المشهورة ” أنا ذاهب الى بيتي اذا ما احتجتموني تعلمون أين تجدوني ,, رئيس الوزراء الياباني رغم فوزه وهو في قمة انجازاته يتقدم بالاستقالة ويختار التنحي لأنه يرى ضعف بهمته وتراجع بنشاطه فيقول “إن اضطراري الى العمل بجدية أكبر جعلني أشعر بالقلق لأنني لم أعد أستطيع ذلكولنا أن تتصور زعيم عندنا أو أنصاف زعماء بل على مستويات أقل بكثير ولم يكن وصولهم لمناصبهم أصلا شرعيا عن طريق الانتخابات ولم يكن لهم أي نجاح أو أنجاز وهم يدافعون وبل ويقاتلون من أجل البقاء بمناصبهم

ثقافة الاستقالة هذه لم تأت من فراغ أو كرم وتفضل من المستقيلين، بل هي قيم وعرف وأخلاق غير مكتوبة من العقد الاجتماعي بين شرائح المجتمع تحميها المواقف الشعبية التي تلقظ كل فاسد و ترفض كل مسيئ له, ثقافة الاستقالة تجذرت عند تلك الشعوب منذ عقود بعيدة ، جعلت كثير من المسؤولين يستقيلون ويخرجون من الحياة السياسية لأسباب تراها شعوبنا تافهة وثانوية وشيء من الترف السياسي أو النرجسية والمثالية الزائدة بينما هي عندهم خطوط حمراء لا يجوز تخطيها وقيم لا يمكن التساهل بها, عندما يتخلى المجتمع عن المحاسبة ، وتسكت النخب عن المسائلة والنقد والصدح بالرأي ، لن تسود مثل هذه الثقافة في مجتماعتنا العربية ، وسيظل المخطئ والمسيئوالفاشل يجد من يرقع له سقطاته ويبرر له اساءاتهويجُمل له انحرافاته, المشكلة ليست هنا ، بل بمن يدافعون عن هؤلاء وينافحون عنهم من حملة أقلام وكتاب وأعلاميين وأصحاب رأي وتأثير على المجتمع من النخب وأهل الحل والعقد ، وتمتد المصيبة لتشمل الشعوب الغير آبهة بما يدور حولها ولا تتاونى عن التصفيق والتهليل , هذه الظاهرة الفاسدة حالة الشعوب المقهورة ومنها شعبنا التي لا تجد حيلة للانعتاق منها

في ظل النظام السياسي الحالي , رشاوي وسرقات القرن وغيرها واختلاس اموال , وفوضى سياسية في كل الارجاء , ومسؤولين لايجدون حرج , بدون أي شعور بالأثم وعذاب الضمير, همهم البقاء بالسلطة والاستمرار بالحكم والتمتع بمزايا المنصب المادية والمعنوية والتشريفية، واعتبار المنصب مكسب , انا لله وانا اليه راجعون  

أحدث المقالات

أحدث المقالات