لم يعد العراق ذلك البلد الذي نتمناه الا أطلالاً في ذاكرتنا القديمة ، الذي سحقها الزمن والغياب القسري ، ولم يعد لنا بلداً ذات كيان سياسي ودولة مؤسسات وأنظمة حكم وتشريعات ودساتير وأعراف أجتماعية ومثل فكرية وثقافية ، حيث تصدعت هويته الوطنية المجتمعية بفعل صراع أبنائه السياسي المجحف على كراسي الحكم بعد أحتلاله العام ٢٠٠٣ . أبنائه وشعبه هم الوحيدين الذين يتحملون ما أصاب العراق من هوان وتشتت وتدمير وهذاجزء من بناء الشخصية العراقية ونفسيتها في التلون والتملق والضعف أمام مالك الجاه والقوة والمال . قد يسأل البعض ؟. أن أغلب شعوب العالم أدت الى تلك النتائج عندما أنهارت أنظمة الحكم بها الدكتاتورية والقمعية . الجواب هي نعم ، لكن ليس بالمستوى الي مر به العراقيين في علاقتهم مع الحاكم منذ تأسيس الدولة العراقية ١٩٢١. يتجرأ البعض أن يتظاهر في ساحة التحرير أو ساحات الاعتصام حاملاً لافته براقه ضد الفساد وهو يتقاضى أربعة رواتب زوراً وبهتاناً بأوجه أجنده جلبها معه المحتل وعمليته السياسية الفاسدة والتي أستهدفت بناء المجتمع وتنميته . تحضرني حكمة للمناضل الوطني نيلسون مانديلا ( أن المناضل عندما يتقاضى ثمن نضاله يتحول الى مرتزق ) .
عندما أحتل الامريكان بغداد عام ٢٠٠٣ . كان رجالات النظام العراقي السابق يتوعد ويهدد الغزاة بالانتحار على أسوار بغداد بجهازية مليونين بعثي عقائدي فدائي ، ولكن عندما وقعت الفجيعة وأخترقت دبابتين أمريكتين جسور وشوارع العاصمة بغداد وأستقرتا على جسر الجمهورية لساعات تحت عدسات ووكالات التلفزة العربية والعالمية لم نرى ونسمع طلقة واحدة بأتجاهما ولافدائي بعثي يعكر وقفتهما والفجيعة الأكبر تبخبر وماعوا هؤلاء الرفاق البعثيين والبعض منهم وصل به الحال والأسى الى رمى ملابسه الزيتوني وهويته الحزبية وسلاحه في مياه دجلة ليعلن عن طوي مرحلة تاريخية صعبة ودموية من حياة العراقيين . ربما وقعت حالات مشابهة ومقاربة في عدة بلدان ومن التاريخ القريب بلد نظامه شمولي وقمعي الاتحاد السوفيتي السابق عندما أعلن عن أنهياره وفشل تجربته الاشتراكية تزاحم الالاف من الشيوعيين السوفييت الى ضريح لينين في الساحة الحمراء بتمزيق هوياتهم الحزبية ورميها على الضريح . وقد بلغ عدد الاعضاء الشيوعيين السوفييت عشرة ملايين فقط في موسكو أربعة ملايين ولم يتجرأ أحدهم يقف ويصد السكير يلسين وهو يتبختر على ظهر الدبابة في شوارع موسكو أو يقف ضد خطط كورباتشوف في تدمير بلد الاشتراكية الاول .
في العراق المشهد يختلف في عرضه المسرحي السياسي هؤلاء البعثيين الذين تخلوا عن الزيتوني وأبدلوه بالعمامة أو المحبس ذات الشذرات الملونة الكبيرة وبروز الآثر الواضح في وسط الكصة من كثرة السجود تحت عباءة الاسلام السياسي بل راحوا يدعون ببطولات في معارضتهم لسياسة النظام السابق عبر القنوات الفضائية ومجالسهم برائحة تزكم الذوق العام وتعكر المزاج وهذا ليس فقط محصور بين البعثيين ، أنا أعني في حديثي الشخصية العراقية عامة . وفي تجارب شخصية مختلفة ومهمة وخطيرة في مسيرة حياتي السياسية .
يقول فيودور دوستوفيسكي ( أنا أنطق بالذي أنت لاتجرأ التفكير به ) . كنت أشعر بالحيرة وأنا مازلت في وعيي الأول ، عندما فرط التحالف بين البعثيين والشيوعيين في نهايات السبعينات . وما آل أليه حالنا ووضع وحياة رفاقنا ، وأنا هنا أعني بشكل جلي لايقبل التأويل الرفاق الذين تساقطوا سريعاً وتحولوا ضمن منظومات وأجهزة البعث ولا أعني الرفاق الذين ضعفوا أمام آلهة السلطة القمعية لعدة أسباب ودوافع وبقوا وحافظوا على تاريخهم السياسي بدون أن يلوثوه رغم كل الضغوطات النفسية والاجتماعية والاقتصادية فأنا أرفع لهم القبعات رغم مرور تلك السنيين .
أذن .. أعني بهذه السطور ممن وضع خدماته وأمكانياته تحت أجهزة البعث . طيلة سنوات غيابنا أي غياب دورنا السياسي القسري في معترك المشهد المحتدم حتى عام ٢٠٠٣ وسقوط قلعة البعث على يد المحتلين الامريكان ، ففي خضم هذا المشهد الهش والفاسد طفحوا هؤلاء على سطح المشهد وطرحوا أنفسهم مرة أخرى كشيوعيين بعد أن أطمئنوا لوجود حاضنه أمنة لهم تستوعبهم هو عودة الحزب الشيوعي العراقي ضمن أشتراطات الوضع الجديد والغريب تحت حراب الاحتلال وعمليته السياسية الطائفية أيضاً لاخلاف على ذلك ، لكن الخلاف والمؤلم عن هؤلاء الرفاق المتملقين والمتلونين وبعد أن تحصنوا بمواقعهم ضمن الوضع العام والهش ، راحوا يكيلون التهم والافتراءات الخبيثة على المناضلين الحقيقين والذين لم يهادنوا الدكتاتورية وأساليبها الملتوية وتحملوا السجون وتحدوا المعتقلات وعانوا من ظروف نضال قاسية وقساوة الغربة والبعد عن الأهل والوطن ، لانهم رفضوا وناضلوا ضد الوضع السياسي الجديد وفضحوا أجندته .
يشير العالم الاجتماعي العراقي علي الوردي في طروحاته حول الشخصية العراقية بالازدواجية ويعزيها الى ذلك الصراع بين البداوة والحضارة وبين المدنية والريف في غياب واضح للوعي الوطني والاجتماعي . غادرت الوطن العام ١٩٨٣ ورغم الظروف الصعبة التي واجهتني بقيت متواصلاً مع الأهل والرفاق والاصدقاء والمعارف عبر طرق وحيل عديدة محافظاً على ديمومة تلك الايام ، وكنت أتلقى أخبارهم بعضها حزينة ومؤلمة ومؤذية لكني كنت أستوعبها بحكم الظروف الصعبة التي يمرون بها تحت حراب سياسة الدكتاتورية والحروب والقمع والحصار فلا جدال على قدرة الانسان وطاقاته في التحمل والاستيعاب .
في العام ٢٠٠٣ وبحكم الظروف الجديدة من تداعيات خطيرة على مستوى الوطن والجماعات والمواقف وربما البعض يشكو من عقدة تأنيب الضمير والدونية أحدهم في ليلة وضحاها تحول من وكيل أمني معتق الى تصدره المشهد الثقافي والسياسي الملتبس والهش وبعد أن حقق بحبوبته في الموقع والجاه عبر التدليس والنفاق لمن هم مالكي القرار وهم أصلاً بحاجة ماسة الى مثل هؤلاء النعيق لتبيض صفحاتهم الآسنة . هذا الشخص راح في مجالسه عبر المنتديات الليلية وسهرات المجن يقييم ويسيء الى سمعة العديد من المناضلين الذين عانوا من سالف الايام ودفعوا أثمان غالية على كافة المستويات . هذا نموذج صارخ لعراق جديد ماشي الى نفق مظلم بلا أفق يلوح عن أنفراج قريب بل تدمير وقتل وضياع وطن .
لم تكن المعايير السابقة سارية الآن في الأنتماء والنضال ولايبررها الوضع السياسي الجديد في العراق ، كانت هناك تقاليد نضالية تربينا عليها في الالتزام والانضباط الحزبي ( المبدئي ) . في عودتي اليتيمة الى العراق بعد أحتلاله وفي تجوالي مع أحد الرفاق السابقين كان يحمل معه أينما حل بحدود مئة هوية حزبية لمن يريد أن ينتمي للحزب الشيوعي العراقي ومن يكون ؟. وللأسف . بدون ترشيح ولا حتى تزكية من نفر .
عشرات البعثيين ( السيئين ) على معرفة تامه بهم أيام النضال الصعبة بحدود محيطنا البيئي كانت أدوارهم ومواقفهم قذرة وسببوا أذى وغياب عوائل كاملة وحطموا حياة رفاق لكنهم مازالوا اليوم طلقاء ويعيشون في مستوى حياة راقية بعيداً عن المسائلة القانونية والأخلاقية بعضاً منهم أنتقل فقط من محيط القرية الى فضاءات العاصمة بغداد لينضوي تحت عباءات أحزاب العملية السياسية الفاشلة ، وأنا هنا ليس من دعاة الأنتقام والثأر والحقد لكن ضد هؤلاء في أدعاءتهم والنيل من تاريخ المناضلين . والدعوة الى محاسبتهم ضمن عدالة القوانين العادلة في عراق عادل وحر .