22 ديسمبر، 2024 3:25 م

ثرثرة فوق الطريق السريع

ثرثرة فوق الطريق السريع

وقف حسن ينظر إلى الفتيات الثلاث وهن يهرولن صوب سيارة نقل الركاب المتوسطة الحجم عند تقاطع معسكر الرشيد في بداية الطريق السريع المؤدي إلى جنوب بغداد وبالتحديد إلى مدينة البياع . لم يحث الخطى وظل يتقدم بهدوء صوب السيارة وكأنه لايهتم للأمر فيما لو تركته السيارة أو ظلت جاثمة في مكانها تنتظره كما تنتظر بقية الناس المتوجهين نحوها . لسوء حظ الفتيات الجامعيات إنطلقت السيارة في نفس اللحظة التي وصلن فيها إلى مكان توقف تلك السيارة . شاهد حسن علامات التذمر على وجوههن جميعاً وكأنهن يلعن القدر الذي وقف حجر عثرة في طريقهن في تلك اللحظة . بهدوء تام وقف حسن في نفس المكان الذي كانت تقف فيه تلك السيارة قبل لحظات . سرق الرجل نظرة سريعة نحو الفتيات الجامعيات وقد وقفن وكأنهن متلاصقات وكأن كل واحدة تستمد مؤازرة من الفتاة الأخرى . من بعيد شاهد حسن – ميني باص – بيضاء تتقدم نحو المكان الذي كانت قد تركته السيارة السابقة . بسرعة البرق قفز حسن إلى داخل السيارة واستقر في المقعد الذي يتوسطها , كان سريعاً جداً في حركته على الرغم من أنه من ناحية العمر يصلح لأن يكون أباً لكل واحدة من تلك الفتيات .

ظلت السيارة قابعة في ذلك المكان في حين راح سائقها الشاب يصرخ بصوت مرتفع يدعوا الناس للتقدم نحو سيارته لكي يشغلوا بقية المقاعد الفارغة . كانت الفتيات يتحدثن مع بعضهن البعض بلا توقف بينما أرسل حسن نظراته نحو المسافات البعيدة محاولاً الهرب من واقع الحياة الذي كان يعيش فيه في تلك اللحظة العصيبة حيث كان قد ترك زوجته في المستشفى إستعداداً لإجراء عملية كبرى لها في اليوم التالي . كان يخفي عينيه خلف نظارة طبية سوداء ويضع كمامة على فمه على الرغم من إنتهاء حالة وضع الكمامات على الأفواه منذ زمن بعيد . توقفت الفتيات عن الكلام حينما رن هاتف حسن . راح يتحدث بطريقة هادئة جداً وكأنه يحاول تهدئة الشخص على الطرف الآخر والغريب أن الرجل ترك سماعة الهاتف مفتوحة كما لو أنه أراد أن يشارك جميع العالم بحكاية زوجته المسكينة . سرق نظرة خاطفة نحو الفتيات وهو يستمع إلى صوت زوجته المرهق حيث كانت تتحدث بصوت ضعيف مرتعش بعض الشيء . كانت كل واحدة منهن تنظر نحوه بطريقة غريبة في محاولة لسماع جميع المحادثة باهتمام بالغ . راح صوت زوجته ينطلق عبر المسافات البعيدة وهو ينصت بكل إنتباه وهي توصيه أن يهتم بنفسه هذه الليلة وأن يبكر في الذهاب إلى المستشفى في اليوم التالي . كان حسن يتحدث معها بطريقة لطيفة جداً يحاول تبديد كل القلق الذي كان يلفها بشكل لايقبل الشك .

في اللحظة التي أغلق فيها هاتفه وضعه في جيب معطفه ألأسود وأخرج منديلاً ورقياً من جيبه وراح يمسح عينيه بهدوء تام كما لو أنه كان يزيل دمعة او دمعتين على وشك الخروج من مقلتيه . أعاد ترتيب نظارته الداكنة وكذلك عدَل وضع كمامته ثم أسند رأسه الى الوراء غير منتبهاً لنظرات الشفقة التي ظهرت على كل وجه من وجوه تلك الفتيات الجالسات في المقعد المقابل له . ساد صمت طويل حزين على وجوه الفتيات بعد إنتهاء تلك المكالمة المؤثرة . تحركت السيارة وراح صوت محركها يهدر في الفضاء المشبع بأصوات العجلات المختلفة من كافة الأحجام والأنواع . أخرج حسن سماعة صغيرة ربطها بهاتفه وشرع يستمع إلى رواية مسموعة لكي يهرب من ذلك الواقع المرير الذي كان يتخبط فيه منذ الصباح الباكر حتى تلك اللحظة التي جلس فيها في هذه السيارة متجهاً نحو البيت في شارع 60 في الدورة . بين فترة وأخرى يختلس النظر نحو الفتيات الثلاث فيجدهن يتهامسن بكلمات لا تصل إلى مسمعيه بسبب السماعة والصوت المنطلق من هاتفه بقوة . حينما كان ذهنه يتشتت بين الحين والآخر يحاول غلق عينيه ليكون تركيزه قوياً وليواصل متابعة الأحداث التي تنطلق من خلال سير الرواية . كان يجد صعوبة أحياناً في متابعة سير ألأحداث بسبب كثرة الأمور والقضايا التي مرت به طيلة اليوم . كان ذهنه يبتعد عن التركيز ويظل يسبح في خيال بعيد . طفقت بعض الذكريات المنسية تخرج من زوايا عقله تتقاذفه من جهة إلى اخرى في طريقة تشبه التعذيب الروحي اللامتناهي . شاهد أن الغيوم شرعت تتجمع رويدا رويدا وسيطرت عتمه ملحوظة على كل المشهد آنذاك .

على حين غرة راحت السماء ترسل ماءها الغزير كطوفان على وشك تدمير كل شيء . قرقعة سقوط المطر على سقف السيارة يصيب الجميع بترقب وهلع وكأن شيئاً ما على وشك الحدوث . دون سابق إنذار توقفت السيارة تحت أحد المُجسرات وصاح السائق بصوت مرتفع ” حدث ثقباً في إطار أحد العجلات سنقف فترة من الزمن لتصليح العطب . من يريد الأنتظار فلينتظر ومن يرغب في الذهاب أعيد له الأجرة التي دفعها ” . ترجل عدد كبير من الركاب وراح بعضهم يلوح بيده نحو السيارات المندفعة بسرعة جنونية على الطريق السريع . في غضون زمن ليس بالطويل تبخر الجميع ولم يبق في ذلك المكان عدا حسن والفتيات الجامعيات الثلاث . في بداية الأمر ترجل حسن من السيارة ووقف قرب السياج الحديدي لذلك الطريق الطويل بَيْدَ أن برودة الطقس واستمرار هطول المطر جعله يسرع بالعودة إلى مكانه الدافيء وسط السيارة . كانت الساعة قد اقتربت من الثالثة من بعد الظهر .

كان السائق الشاب يعمل بهمة ونشاط وكأنه كان قد إعتاد على مشاكل من هذا النوع . كانت الفتيات يتحدثن بلا توقف لكنهن توقفن عن الكلام في اللحظة التي جلس فيها حسن على مكانه مرة اخرى . بعد فترة صمت وجيزة عاد النقاش بين الفتيات حول موضوع جدي يتعلق بمادة اللغة الانكليزية وكان ذلك واضحا جدا بالنسبة الى حسن فقد كان الجدال يدور حول قاعدة من قواعد اللغة الانكليزية . لم يهتم للأمر في بداية الجدال فقد كان منشغلاً في مراقبة المطر وحركة السيارات في تلك اللحظة ولكن تطور الموضوع بشكل واضح من خلال صوت إحداهن المرتفع جعله ينتبه ويصغي بطريقة جدية لعله يتمكن في المشاركة في الجدال عند تطلب الأمر . حينما لاحظ تدخل الفتاة الاخرى في المناقشة والجدال بطريقة هستيرية وهي تعترض بشدة على ماكانت الفتاة الأولى تشرحه بطريقة بعيدة عن الصواب – حسب تبرير الفتاة الثانية – تنحنح حسن وعدَل من جلسته وهو يستأذن منهن فيما إذا كان يستطيع أن يتدخل في الحوار . تطلعت الفتيات صوبه وقد لاحت على وجوههن علامات الدهشة . قالت الفتاة التي كانت تصر على أنها كانت تسير على جادة الصواب في طرحها للموضوع ” هل حضرتك متخصص في هذه المادة اقصد اللغة الانكليزية وهل تستطيع ان تقول لنا ماهو الصواب ؟ ” . بهدوء تام شرع يوضح لها بانه كان قد انهى المرحلة الجامعية في بداية الثمانينات وأن الموضوع الذي كانت تناقشه مع زميلاتها يتعلق بكذا وكذا .

ران صمت رهيب على وجه الفتاة ولم تتوقع ان تجد حل لتلك المشكلة وبهذه الطريقة السهلة السريعة ولم تتوقع ان الرجل الذي كان قبل قليل يتحدث إلى زوجته المريضة وقد ظهر على وجهه ذلك التعب الواضح لم يكن إلا أستاذا متخصصا في المادة التي تدرسها مع زميلاتها منذ ثلاث سنوات . بعد أن شرح لهن كل مايتعلق بالموضوع تطور النقاش بينه وبين الفتيات إلى مواضيع مختلفة تتعلق بالحياة بصورة عامة والتعليم وحتى المواضيع السياسية التي يعرفها الجميع . قطع صوت السائق الشاب حديثهم وهو يُعلن بانه قد اصلح العجلة وسينطلق بعد قليل . صمت الجميع عندما تحركت السيارة وكأن كل واحد منهم يريد أن يسترخي قليلاً أو يتأمل حركة الحياة على ذلك الطريق وفي هذا الجو الممطر .

بعد مرور عدة دقائق توقف السائق مرة اخرى وهو يتكلم بصوت مرتفع ” يبدو أن هذا اليوم سيكون طويلا جدا بالنسبة لنا جميعا ” . كان الشارع السريع مكتظا بالسيارات من مختلف الاحجام والاشكال . إختناق مروري كثيف جدا . حينما تأخرنا في الوقوف عند أحد الأستدارات تذمر السائق الشاب بصوت مرتفع كأنه يريد أن يطلق صرخة مكتومة تمزق سكون هذا الأنتظار المرير الذي يكاد يمزق كل ماتبقى من معنويات الروح الأنسانية ضمن صراعات الزمن العصيب في بلدنا الجميل . قال يحدث الفراغ بصوت مرتفع ” كلما رغب مسؤول ما أن يمضي من هذا الشارع تتوقف حركة الحياة . ليس له علاقة بمعاناة الناس القابعين في كل هذا الكم الهائل من السيارات . لا اعرف هل أن ذلك المسؤول ينتمي إلى عالم لانعيش فيه نحن . الفقير المسكين هو من يدفع ثمن العذاب الذي لا ينتهي على مدار الزمن .

صمت السائق الشاب بعض الوقت وحينما طال الأنتظار ولم يشترك معه أحد في الحوار استطرد يقول وكأنه يريد أن يرسل رسالة إلى الفضاء الفسيح ” أية حياة هذه التي أعيشها أنا على المستوى الشخصي . كل الأبواب أغلقت في وجهي حاولت السفر إلى خارج العراق لكن لم أتمكن وحاولت ان اجد وظيفة ولم اتمكن فقد كنت ممن لايملكون المال الكافي لدفعه إلى الفاسدين للحصول على وظيفة بسيطة مع العلم أنني من المتفوقين على قسم التاريخ . أربع سنوات مضت وأنا على هذه الحال . لاجدوى من العيش في هذا البلد الذي لا يحترم ابناءه ” . شعر حسن ان ذلك الشاب ساخط على كل شيء في هذا البلد كأنه يريد أن يعلن ثورة عارمه على كل شيء في هذا العالم . سافر ذهن حسن إلى أيام الشباب حينما كان قد مضى على تخرجه من الجامعة أربع سنوات على شاكلة ذلك السائق الشاب . أراد ان يتبادل معه أي حوار من أجل قتل ذلك الوقت الرتيب . كم كان الزمن يختلف عن هذا الزمن الذي نعيش فيه الآن ولكل زمن حسناته ومعرقلاته

كانت الفتيات يتهامسن مع بعضهن البعض بطريقة تدل على عدم الاهتمام لما كان قد قاله السائق الشاب أو لنقل إعتدن على مناقشات وجدال يشبه كلام السائق . بلا مقدمات سال حسن الشاب فيما إذا كان والده لازالا على قيد الحياة كما لو أنه أراد أن ينقل الحوار الى موضوع آخر حيث يجعله يتحفز لقول أي شيء يُفرغ من خلاله غضبه الدفين . أجاب السائق بطريقة يائسة حزينه ” وجود والداي على قيد الحياة هو الذي ربطني للبقاء هنا والعيش في هذا البلد . ليس لديهما اي احد سواي وانا اعمل ليلا ونهارا من اجل توفير حياة كريمة لهما . راتب والدي التقاعدي لا يكاد يكفي لأدوية الضغط والسكر لكلاهما . كم تمنيت لو أنني أستطيع أن أسافر و اصطحبهما معي لكن كيف وطريق السفر محفوف بالمخاطر أو كيف أستطيع مرافقتهما في البحر أو الغابات المرعبة كما يحدثني أصدقائي كل يوم عن طريقة سفرهم المخيفة ” . قال حسن بصوت هادئ كما لو أنه أراد إستفزازه ” وماذا ستجني من السفر إلى خارج العراق ؟ صدقني ستتعذب أكثر ويتحتم عليك العمل ليلا ونهارا أكثر بكثير مما تعمل الآن . سيتغير الحال هنا في هذا البلد ولايمكن ان تستمر حالة الضياع التي يعيش فيها العراق وشعبه إلى مالانهاية . نحن نعرف ان البعض يعمل بطريقة محكمة ومدروسة لأبقاء العراق على هذا الوضع حتى نهاية الدنيا . كل شيء يحدث داخل إطار مرسوم بعناية لتدمير كل شيء على هذه الأرض الطيبة . أشياء مرعبة حقا مثل الجهل , الجرائم , الفساد المهول , أطفال غير شرعيون يولدون كل يوم , إعدامات على الهوية بحجج واهية تحصد الأرواح كل يوم . ترهيب للعامة من أن الطائفة الفلانية ستسحق الطائفة الأخرى وصار الدين للكثير منهم وسيلة للحصول على مآرب اخرى . هم من يمتلك السلطة والسلاح الآن لذلك هم من يكتب التاريخ , تاريخ هذا البلد العريق . يضعون مفاهيم غريبة في مناهج الدراسة كلمات مكتوبة وما على البعض سوى ترديدها على مسامع الأطفال الذين يدرسون عاما بعد عام لتنمو معهم أشياء مزيفة مخيفة كأنها حقائق لاشك فيها يتوارثونها جيلا بعد جيل . ولكن مع كل هذا وذاك يبقَ لكل إطارٍ ثقوبه . ” صمت حسن مرة اخرى وراح يمسح نظارته الداكنة وكأنه يريد أن يلتقط انفاسه ليواصل كلامه الموجه للشاب الساخط على وجه الخصوص وللعالم أجمع مع العلم أنه لن يسمع كلامه هذا أي مخلوق بشري خارج فضاء المكان الذي يجمعه مع الذين يجلسون معه داخل السيارة وهم ينتظرون على أحرٍ من الجمر انطلاق حركة المرور مرة اخرى . ” لكن ذلك الاطار ومن ينتمي إليه لم يضع في الحسبان أن هناك من سيتعلم بطريقة ما ويُعلم الآخرين ويضع أول خدش في كل هيئات الإطار ومن يدري قد تكون أنت او هذه الفتيات ومتى شعرت انت وبقية الشباب بالفخر كونكم تعيشون على ارض العراق ستواصلون طريقكم بفخر مطلق . اعرف انه سيسقط منكم الكثير من القتلى والجرحى ولكن سيظل منكم من يعلم الصغار القادمين كبديل للذين سقطوا من اجل الارض والحياة والحرية . ستنشأوونهم انتم وستجعلونهم ينخرون ذلك الاطار عاما بعد آخر. سيكون لك انت دورا كبيرا في اخراج الاجيال الاخرى من جبروت ذلك الإطار المخيف وستجدون لكم مخرجا يوفر لكم كل متطلبات الحياة وحينما يأتي ذلك اليوم لن تسمحوا عندها لأحدٍ ان يضع حولكم أي إطار مهما كان نوعه ” .

سكت حسن قليلا كما لو انه اراد ان يلتقط انفاسه ويعيد ترتيب أفكاره التي راحت تحاصره بطريقة غريبة وتحثه على ان يُسهب في تثقيف ذلك الشاب الذي لايعرف الا لغة التحسر والنحيب على الأطلال وغفل عن اشياء جميلة جدا في هذا البلد الواسع المُحاط بالخيرات من كل حدب وصوب . راحت الفتيات يحدقن بوجه الرجل بطريقة لا يمكن وصفها أما الشاب فقد عدَل وضع المرآة ليتمكن من رؤية الرجل الذي يجلس في مقعده . أما حسن فهو الآخر شعر بضرورة الاسترسال واطلاق كل ما كان يريد ان يوضحه للشاب الذي كان كل همه السفر ومغادرة وطنه الذي عاش فيه كل تلك السنوات . استطرد حسن قائلاً ” صدقني لقد جاء الوقت لنستغل عدالتهم المزيفه , أقصد انهم يطلقون بين الحين والاخر انهم مسلمون يحاولون خدمة هذا الشعب وتقوية أواصر العقيدة والمذهب وما إلى ذلك من الاشياء التي صارت معروفة للجميع . إن تغيير مصائب الناس لن يحدث بين عشية وضحاها ولكن سيرافق ذلك التغيير آلام ومعاناة كثيرة ولكن مهما طال الألم لابد ان يزول يوما ما عندها ينجلي الظلام وتشرق الشمس من جديد . ارجو ان تعتبر هذا اليوم هو يوم كتابة فصل جديد من الألم عنك وعني وعن هؤلاء الفتيات اعرف انك تحملت – كما تحملنا نحن – مالايطاق من آلام وجراحات بعرض السموات والارض خلال السنوات الماضية ولكن ليس معنى هذا إنك سترضخ بهذه السهولة وتطلب السفر إلى خارج العراق. سيكون الألم القادم مضاعفا مرات ومرات . بيدك وعلى يد كل واحدة من هذه الفتيات سيتحدد مصير ألمنا المستديم أما ان نعيش كما حلمنا او نموت إلى الأبد من شدة الألم الكبير ” .

شاهد حسن واحدة من الفتيات تمسح دمعة كانت قد سقطت على خدها الناصع البياض . رغب الرجل ان يصمت هو الآخر ويترك هذا الكلام الذي يعتبره في قرارة نفسه كلاما مستهلكا لايصلح الا لبعض الندوات التلفزيونية الفاشلة ومع هذا وذاك اراد أن يذكر اي شيء هنا أمام هذا الشاب الساخط ويزرعه في الفراغ فمن يدري لعل بذور هذه الكلمات تثمر يوما وتحيل جميع فراغات البلاد إلى مزارع غنَاء تسر الناظر في كل مكان . عاد حسن ليذكر للشاب آخر ماكان قد تحفز في قرارة روحه فقال بنشاط ملحوظ ” إسمع أيها الشاب الساخط , يحتاج المرء سنوات طويلة لتعويض أشياء كثيرة مفقودة ولكن ليس معنى هذا أن يتخلى الفرد عن الصراع من أجل تحقيق ما يريد ان يصل اليه . على المستوى الشخصي كنت شديد الأحلام كثير التأمل لتحقيق اشياء لاتعد ولاتحصى ولكن بعد تقدم العمر وقضاء نصف عمري في حروب ليس لها مبرر مطلقا طفقت تلك الأحلام تذبل في داخلي وأصبحتُ في داخلي أكرر كل يوم ( لم يعد للزمن بقية ) وهذا أكبر خطأ ارتكبه في حق نفسي . كل يوم صارت حالات التوتر تموج في ذهني من أن الناس سيعيشون في قلق مزمن من جراء الحروب التي صارت على الأبواب وسنتعذب نحن الفقراء أكثر وأكثر بينما ينام الاخرون المتخمون بأموال الحرام برفاهية دون أن تمر أنت أو أنا على اذهانهم لحظة واحدة فهل من المعقول ان نهرب انت وانا إلى اراض اخرى كي يتنعم الفاسدون اكثر ويتمادون في سرقة هذا البلد الجميل ؟ هذا مرعب حقا كلما فكرتُ فيه وماذا إن لم يكن هناك أصلا من يحاول تغيير هذا الواقع المخيف؟ هذه مسؤوليتك ايها الشاب الساخط ومسؤولية كل من يعشق هذه الارض ” . صمت العم حسن واخرج منديله وراح يمسح عينيه فقد شعر ان الدموع تكاد تحرق مقلتيه بصدق .

رانَ صمتُ رهيب داخل السيارة. كان السائق يتطلع إلى العم حسن من خلال المرآة المثبتة أمامه دون أن يتفوه بكلمة واحدة . شعر كأن كلمات الرجل قد سحرتهُ إلى الأبد . تنحنح حسن ثم أضاف كلماته الأخيرة بهدوءٍ تام ” صدقني ياعزيزي أنهم جميعاً يقفون على حافة الهاويه وأن نفحة هواء واحدة كفيلة بأن ترمي بهم جميعاً مع كل مايملكونه من أموال الحرام إلى أعماقٍ مخيفة لايستطيعون الخلاص منها, على شرط أن يتحد كل شباب العراق أمثالك من البنين والبنات وعندها ستجد كم أن أساسهم هشاً . ” . تحركت السيارة وتحركت معها جميع المركبات وانفتح الطريق السريع . كانت الفتيات ينظرن إلى الرجل وكأنهن ينظرن إلى مخلوق بشري جاء من خلف خارطة الزمن . على حين غرة قال حسن للسائق ” توقف لطفاً لقد وصلتُ إلى شارع 60 كانت فرصة لطيفة أن نتطرق فيها إلى مواضيع كثيرة وإن كانت أحياناً غير مجدية ” . في اللحظة التي توقفت فيها السيارة ترجل العم حسن عند جسر المشاة . قفز السائق الشاب من خلف عجلة القيادة وركض نحو العم حسن وطوقه بذراعيه وعانقه بحرارة وهو يقول ” غداً سأجمع كل شباب المنطقة ونُحدث ثورة عارمة و نطالب بجميع حقوقنا ” . صمت قليلاً ثم قال ساخراً ” حينما اصبح رئيساً للوزراء سأجعلك مستشاري الخاص ” . ربت العم حسن على كتف السائق الشاب وهو يقول بطريقة أكثر سخرية ” لا أريد منك أي شيء سوى أن تجلب أجهزة إشعاع لكل مستشفيات العراق وعندها ستقدم للشعب الفقير أكبر خدمة عرفها تاريخ العراق ” . إنطلقت السيارة وظل العم حسن يلوح بيده نحو الفتيات الجامعيات والسائق الشاب قبل أن يعبر الشارع السريع بأتجاه منزلهِ عند الطرف الآخر من شارع 60 .