23 ديسمبر، 2024 11:26 ص

ثبوتُ الهلالِ إجتماعياً

ثبوتُ الهلالِ إجتماعياً

لا شك أن مسألة ثبوت الهلال الشرعية هي من أهم وأخطر المسائل الإجتماعية لأرتباطها بمناسبات إجتماعية عامة كعيدي الفطر والأضحى وفريضة الحج فضلاً عن الأمور الدينية الأخرى وغيرها!!

وأريد في هذه السطور أن أساهم في رفع الغموض والتشويش الإجتماعي بخصوص مسألة ثبوت الهلال وكما قال الشاعر

على المرء أن يسعى بمقدار جهده************وليس عليه أن يكون موفقا

إنما التوفيق من الله يُعطيه لمن أخلص في نيته وعمله!!

وقبل الخوض في صلب الموضوع أقصد الجانب التطبيقي والإجتماعي لمسألة ثبوت الهلال لابد أن أسلط الضوء على الطرق الشرعية لثبوت الهلال وكما هو مسطور في الرسائل العملية الفقهية وعلى الله التوكل

إن للهلال ولادتين, ولادةٌ  طبيعية وولادة شرعية!!

فالولادة الطبيعية هي خروج الهلال من المحاق وبداية دورته الإقترانية حول الأرض…

والولادة الشرعية هي إمكان رؤية الهلال بالعين المجردة عند غروب اليوم التاسع والعشرين من الشهر القمري!!!

فقد يولد الهلال طبيعياً ولكنه غير ممكن الرؤية بالعين المجردة وبالتالي عدم ثبوت الهلال شرعاً!!

ما هو الإستهلال؟

المراد منه التصدي لرؤيه الهلال.

متى يكون الإستهلال؟

يكون الإستهلال في اليوم التاسع والعشرين من كل شهر قمري عند الغروب.

ما هو الغروب؟

الغروب هو غياب آخر جزء من قرص الشمس….فالغروب عند فقهاء الإمامية يختلف عن المغرب لأن المغرب عندهم يكون بعد الغروب بحوالي 12 دقيقة تقريباً أي عند إرتفاع الحمرة المشرقية وهو وقت فريضة المغرب على الأحوط وجوباً…

ما هي نتيجة عملية الإستهلال؟

للإستهلال نتيجتان:

النتيجة الأولى: هي ثبوت الرؤية الشرعية فيكون اليوم التالي أول الشهر.

النتيجة الثانية: هي عدم ثبوت الرؤية الشرعية فيكون اليوم التالي هو مكمّلاً لعدة الشهر لأن عدة الشهر القمري ثلاثون يوماً وبعدها يكون أول الشهر الجديد.

فالشهر القمري أما أن يكون تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً!!!

ما هي الطرق الشرعية لثبوت الهلال؟

الطرق الشرعية لثبوت الهلال هي:

((

1- العلم الحاصل من الرؤية.

2- العلم أو الإطمئنان الحاصل من التواتر, يعني تواتر رؤية الهلال من الآخرين.

3- الإطمئنان من الشياع الحاصل بين الناس بنفس المضمون السابق.

4- شهادة رجلين عادلين بالرؤية.

5- مضي ثلاثين يوماً من خلال الشهر السابق فإن كان هو شعبان فيثبت هلال رمضان وإن كان هو رمضان فيثبت هلال شوال))المصدر منهج الصالحين الجزء الثاني

إن هذه الطرق الشرعية هي محل إجماع الفقهاء المتأخرين فضلاً عن جميع الفقهاء!!!

هناك بعض الطرق التي هي محل خلاف بين الفقهاء كتطوق الهلال ليدلَّ على أنه لليلة السابقة وكذلك رؤية الهلال قبل الزوال ليكون هو أول الشهر وهاتان الطريقتان مما أفتى بها المحقق الخوئي(قدس) وخالفه آخرون!!

وثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي الذي لا يعلم بخطأه أو خطأ مستنده التي أفتى بها السيد عبد الأعلى السبزواري(قدس) وخالفه كثيرون!!

وغيرها من الطرق التي هي محل خلاف الفقهاء ففي هذه الحالة يعمل المكلَّف طبقاً لفتوى مرجع تقليده!!

إن الطرق الخمسة التي ذكرتها فيما سبق هي طرق شرعية عامة(نوعية)…

وهناك طرق أخرى خاصة(شخصية) وهي طرق لا تثبت الهلال إلا مع حصول الإطمئنان منها!!

وهذه الطرق الخاصة عديدة أذكر أهمها:

1-  شهادة العدل الواحد .

2- شهادة الثقة.

3- شهادة النساء.

4- تطوق الهلال ليدلَّ على أنه لليلة السابقة.

5- رؤية الهلال قبل الزوال ليكون هو اليوم الأول.

6- غيبوبة الشفق ليدلَّ على أن الهلال لليلة السابقة.

7- قول المنجمين وحسابهم.

8- شهادة العدلين إذا لم يشهدا بالرؤية.

وأوكّد أيضاً أن هذه الطرق الخاصة لا يثبت بها الهلال إلا إذا حصل منها الإطمئنان!!

وتكتسب هذه الطرق الخاصة الأهمية العظمى من الناحية التطبيقية والإجتماعية!! وهذا هو السبب الذي دعاني الى كتابة هذا البحث لأن الأعم الأغلب من الناس يجهل كيفية ثبوت الهلال ولكنني سوف أسلط الضوء على هذه الناحية التطبيقية الإجتماعية في نهاية البحث…

بقي الإشارة الى مسألة مهمة ترتبط بثبوت الهلال وقد أختلف الفقهاء فيها وهي من المسائل المستحدثة على حدِّ تعبير المحقق الخوئي(قدس)لأنها ترتبط بعلم الفلك الحديث والجغرافيا الحديثة من حيث خطوط الطول وخطوط العرض وقد بحثها الفقهاء المتأخرون!!

وهذه المسألة هي ثبوت الهلال في بلد أو منطقة بالإعتماد على ثبوته في بلد آخر أو منطقة أخرى!!!

ما هو المراد من البلد؟

المراد منه بحسب إصطلاح الفقهاء هو المدينة كمدينة كربلاء أو النجف أو بغداد..الخ

ما هو المراد من المنطقة؟

المراد من المنطقة بحسب إصطلاح الفقهاء هي مجموعة من المدن  كالعراق  ومصر….الخ

فالمنطقة تحتوي على أكثر من بلد فهي أكبر من البلد بطبيعة الحال!!

إن رؤية الهلال في بلد أو منطقة من الأرض تكفي في ثبوته في غيره مع إشتراكهما في الأفق عُرفاً وهذا ما أجمع عليه الفقهاء وهو يمثل الإتجاه الأول من الإتجاهات الفقهية الثلاثة في هذه المسألة …ولابد من ذكرها جميعاً

الإتجاه الأول: وهو ما أجمع عليه الفقهاء كما قلت قبل قليل ولاحاجة للتكرار

 

الإتجاه الثاني: وهو ما يُسمى بنظرية وحدة الآفاق وحاصل النظرية هو ثبوت الهلال في بلدٍ ما كافٍ في ثبوته في كل مناطق الكرة الأرضية فالآفاق بالرغم من تعددها ولكنها من حيث الحكم واحدة وهو ثبوت الرؤية الشرعية!!

 

وقد ذهب الى هذه النظرية جملة من المحققين والفقهاء الأعلام كالمحقق الخوئي(قدس) والشهيد محمد باقر الصدر(قدس) والسيد كاظم الحائري(دام ظله) وآخرين

 

الإتجاه الثالث: وهو الإتجاه الذي يتبناه الشهيد محمد الصدر(قدس) فإن ثبوت الهلال في بلد أو منطقة يكون كافياً في ثبوته الى:

1-  البلد أو المنطقة التي تشترك معهما في الأفق شرعاً.

2-البلد أو المنطقة التي تشترك معهما في نفس خط الطول.

3- البلد أو المنطقة التي تقع على الغرب منهما.

إن الإستهلال يختلف من حيث إمكانه وطول مدته ونتائجه بحسب الإتجاهات الفقهية الثلاثة!!

فالإتجاه الأول يقتضي أن يكون لكل منطقة تشترك في أفق واحد عرفاً إستهلالاً خاصاً بها!! فتكون مدة الإستهلال هي الأقصر من الإتجاهين الآخرين!!

أما الإتجاه الثاني فتكون فيه مدة الإستهلال هي الأطول لأن الإستهلال يبدأ من أقصى الشرق الى أقصى الغرب!!!

ويلزم من هذا الإتجاه الذي يسمى بإتحاد الآفاق أن تكون هناك نقطة بداية ثابتة ونقطة نهاية ثابتة البداية تكون من أقصى الشرق الى أقصى الغرب,,,أما تحديد نقطة البداية ونقطة النهاية يكون بالإعتماد على التوقيت العالمي الإعتباري فالإستهلال يبدأ من شرق آسيا (أندنوسيا وأستراليا) مروراً بآسيا الوسطى شمالاً وجنوباً مروراً بكل الدول الأسيوية والأوربية وأفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية الى غربها مثل كندا وهي نقطة التي ينتهي عندها آخر اليوم بحسب التوقيت العالمي!!

وهذا يلزم منه ان يثبت الهلال في منتصف الليل أو قبل الفجر بساعة!! إعتماداً على رؤية الهلال في أقصى الغرب!! وقد يؤدي ذلك الى صوم نهار كامل ثم بعد ذلك يثبت أنه أول شوال!! إعتماداً على رؤية الهلال في أقصى الغرب!!

أما الإتجاه الثالث فإن ثبوت الهلال في بلد ما أو منطقة ما يمثل نقطة البداية وتكون نقطة النهاية هي المنطقة أو البلد المجاور لهما من جهة الشرق!!

فالمنطقة التي يحصل فيها الغروب ولم يثبت الهلال فيها ولا في المنطقة التي تشترك معها بالأفق عرفاً أو المناطق التي تشترك معها بنفس خط الطول ففي هذه الحالة لابد من اللجوء الى إكمال العدة ولا ينفعها ثبوت الهلال بالنسبة للمناطق التي تقع على الغرب منها!!! فالشرق حجة على من في الغرب وليس العكس لأن الغروب يسير من الشرق الى الغرب فإذا حصل الغروب ولم تثبت الرؤية لم يثبت الهلال ولزم إكمال العدة!!!

أما إذا ثبتت الرؤية فإنه كافٍ في ثبوته بالنسبة الى المناطق التي تقع على الغرب ولكن بعد أن يحصل الغروب…

فلو ثبت الهلال في بغداد فإنه كافٍ في ثبوته بالنسبة لدمشق وعمّان وبيروت والقاهرة وباريس ولندن …..الخ ولكن يحتاج الى بعض الوقت لحين حصول الغروب في تلك المناطق والبلدان!!!

ويؤكّد هذا الكلام ما جاء في منهج الصالحين الجزء الثاني كتاب الصوم في مسألة 95((……فإن ثبوت الهلال في أي منطقة كافٍ للثبوت فيما يكون على غربها من المناطق ولايكفي لما يكون على شرقها إلا بعد مضي برهة معتدٍ بها كعشرين ساعة أو نحوها من الزمن)) إنتهى

ومن المؤسف جداً أن البعض من طلبة العلم لا يتحلى بالموضوعية والأمانة العلمية لأنهم لا يذكرون هذا الإتجاه الفقهي الذي يتبناه الشهيد محمد الصدر(قدس) بالرغم من وجاهته وصحته!!!

فالموضوعية والأمانة العلمية شيئان لا مناص منهما!!!

إن هذه الإتجاهات الثلاثة لها دور مؤثّر على الناحية التطبيقية الإجتماعية لمسألة الهلال مما يؤدي الى حصول إختلاف رؤية الهلال في المجتمع الواحد!!!

فقد يكون الإختلاف في ثبوت رؤية الهلال من ناحية نظرية(كبروية) فتوائية وخصوصاً في الإتجاهات الثلاثة وبعض الطرق الشرعية المختلف فيها!!!

وقد يكون الإختلاف من ناحية تطبيقية(صغروية) كإحراز عدالة الشاهد أو حصول الإطمئنان من أحد الطرق الخاصة!!

وفي الختام أود الدخول في صلب الموضوع الذي لأجله كتبت هذه السطور

  وهو ثبوت الهلال إجتماعياً والذي أسميته الناحية التطبيقية والإجتماعية لمسألة الهلال وعلى الله التوكل…

إن من المؤسف جداً ما يحصل في أول كل شهر رمضان أو في عيدي الفطر والأضحى من جدال وتنازع وتشاجر وتبادل التهم نتيجة لأختلاف الرؤية الشرعية وكثيراً ما سمعت هذه العبارة المتبادلة التي يرددها بعض عوام الناس والعبارة هي (لعن الله أمة صامت عيدها!!!)والحق أن هؤلاء ليسوا على على حق وغير موفقين في تطبيق هذه العبارة!!!

فهي وكما يعبّر المناطقة سالبة بإنتفاء الموضوع!!!

وسوف أثبت ذلك فيما يأتي!!!

ولابد أن أطرح هذا السؤال المهم وهو:

كيف يثبت الهلال عند عامة الناس؟

وبتعبير أدق

ما هي الطريقة الشرعية التي يثبت بها الهلال لدى عامة الناس؟

أقول إن عامة الناس لا يتسنى لهم رؤية الهلال بصورة مباشرة أقصد في اليوم التاسع والعشرين عند الغروب!!!

ولايحصل لهم تواتر أو شياع بالرؤية !!!

بل ولا تقوم عندهم البينة وهي شهادة العادلين بالرؤية المباشرة!!!

فإنهما لا يشهدان أمام عامة الناس وحتى لو شهدا أمام عامة الناس فهذا غير نافع للأعم الأغلب من الناس لعدة أسباب منها:

أولاً: جهل عامة الناس بالكثير من أحكام الهلال!!

ثانياً:إن عامة الناس يجهلون بعدالة الشاهدين بمعنى عدم إحرازهم لها!!

ثالثاً:إنهم يجهلون بما يعارض هذه البينة من أمور!!

والمحصلة إن عامة الناس(المجتمع) لا يثبت لديهم الهلال بهذه الطرق الشرعية العامة!!

إذن كيف يثبت الهلال لديهم؟؟؟

إن طريقة ثبوت الهلال لدى عامة الناس تعتمد على أحد الطرق الخاصة التي تحتاج الى حصول الإطمئنان للفرد, فإن الجهة الدينية (مكتب المرجع) يثبت لديها الهلال بأحد الطرق الشرعية العامة من خلال قيام البينة أو تواتر الرؤية المنتج للعلم أو الإطمئنان وبعد أن يثبت الهلال لدى الجهة الدينية تقوم بإعلان ذلك على الناس وهذا الإعلان بنفسه غير كافٍ لثبوت الهلال بالنسبة لعامة الناس إلا إذا حصل الإطمئنان منه!!

وبطبيعة الحال أن مقلدي وأتباع هذه الجهة تعمل وفقاً لهذا الإعلان بل أنهم ينتظرون إعلان جهتهم الدينية دون غيرها وهذا الأمر يشهد عليه الوجدان قبل البرهان!!

والتبرير الشرعي لهذا الأمر هو أن الإطمئنان يحصل من هذا الإعلان من قبل أتباع الجهة الدينية المعينة!! بغض النظر عن جهلهم لهذه المسألة أقصد إحتياج الإعلان الى حصول الإطمئنان لأن هذا الإطمئنان حاصل من إعلان الجهة الدينية التي يقلدها عامة الناس مع ان التقليد لا يكون في الشبهة الموضوعية كما يتوهم الكثير من عامة الناس في هذه المسألة!!!

ولا أستثني أحداً من عامة الناس بالنسبة الى الجهات الدينية المتعددة!!

سواء كانوا من الصدريين أو من غيرهم !!

فهل بعد هذا الكلام يجوز أن يشتم بعضنا بعضاً؟

وهل يصح  أن نردد هذه العبارة “لعن الله أمة صامت عيدها”؟

مع ان موضوع هذه العبارة هو أن من ثبت عنده العيد فإنه يستحق اللعن في حال صومه يوم العيد عن علمٍ وعمدٍ…

إن عامة الناس يثبت عندهم الهلال بنفس الطريقة الخاصة التي تحتاج الى حصول الإطمئنان!!!

وهذا الإطمئنان حالة وجدانية تختلف من شخص الى آخر وعليه فإن من يحصل له الإطمئنان يثبت عنده الهلال ومن لم يحصل له الإطمئنان لا يثبت عنده الهلال!!

فإلى متى يسيّطر علينا الجهل؟

والى متى لا نتفقّه في الدين؟

والى متى لا يتحمّل الكثير من طلبة العمل مسؤولية تعليم وتوعية الناس؟

وهل المسألة صعبة جداً يتعذر تعليمها للآخرين؟

ولابد لي أن أكرّر ما قاله السيد القائد مقتدى الصدر(دام توفيقه) قبل عشرة أعوام ومن على منبر مسجد الكوفة حيث وجّه دعوة الى تشكيل لجنة مشتركة في الإستهلال بين السنة والشيعة كي تكون علاجاً لهذا الخلاف والإختلاف في ثبوت الرؤية الذي يؤدي الى اختلاف أبناء المجتمع بل وأبناء المذهب الواحد!!

والنصيحة الأكيدة لجميع الأخوة أن يكونوا على قدر المسؤولية في أفعالهم وأقوالهم وان لا يكون ثبوت الهلال سبباً لأن يقولوا ما لا يعلموا ويُسمِعون الآخرين كلمات مزعجة ظناً منهم أنها إحقاقاً للحق…