18 ديسمبر، 2024 11:51 م

ثاناتولوجيا الحضارة الغربية من خلال نبوءات أوسفالد شبينغلر

ثاناتولوجيا الحضارة الغربية من خلال نبوءات أوسفالد شبينغلر

اتسم التقليد الفلسفي الألماني في القرن التاسع عشر بالتطورات التي ميزت المجتمع مع وصول الثورة الصناعية إلى أوروبا، وبشكل أكثر تحديدًا، اختلاط العناصر المبكرة للحركة الرومانسية مع حيوية فكرية متوقدة ،فضلا على ذلك، كان لتقليد التنوير في هذا البلد مسار مكثف ومتميز لم يفقد بأي حال من الأحوال ارتباطه العميق بواقع آخر يمكن أن يصفه البعض بأنه صوفي وثني .

  في مثل هذه البيئة لم يكن من قبيل المصادفة أن شخصيات مثل غوته وشوبنهاور وفاغنر ونيتشه والعديد من الفلاسفة المهمين الآخرين الذين أثروا في الفكر الغربي، وليس فقط، الفلسفي قد ولدوا في هذه البيئة و في تلك المرحلة بالذات ، فمعادن الفلاسفة لا تلمع و لا تتوهج إلا في وقت الأزمات !

   ولكن حسبنا أن الشخص الذي ميز القرن العشرينأكثر من غيره، هو أوسفالد شبينغلر ، ذلك الفيلسوف ذو الشخصية الفريدة الذي رسم في خضم الاضطرابات التي شهدها عالم ما بعد الحرب الخطوط العريضة لعصر المستقبل بأكمله . و قد حظي عمله الرئيسي “تدهور الحضارة الغربيةبالاهتمام و العناية ، لما يتضمنه من أفكار و نبوءات تنذر بمجيء عصر تنطفئ فيه الحضارة الغربية و تتلاشى .

  في الفقرات التالية سنحاول أن نتناول بالتفصيل، وبعيدًا عن العديد من حالات الاستخفاف والتفسيرات الخاطئة الموجودة بخصوص المواقف الأساسية للفيلسوف بشأن شكل التاريخ بالإضافة إلى توقعاته لمستقبل الحضارة الغربية، والتي تبدو ذات صلة بالحاضر أكثر من أي وقت مضى، بالنظر إلى انبتات حالة أقل ما يقال عنها أنها أزمة وجودية ، لكن هي في الحقيقة أزمة إنسان .

1). مسار العالم والتاريخ :

 وقد أطلق سبنجلر على طريقة تفسير التاريخ حتى ذلك الحين اسم المنهجية. كان هذا نتيجة طبيعية واختلاف نهائي للمفهوم اليهودي المسيحي العلماني لمجيء العصر المستقبلي والنهائي للدينونة والغبطة؛ والذي سيكون نهاية العالم المادي كما نعرفه وبداية عالم آخر من شأنه أن يجلب المزيد من السعادة والعدالة ضد الحاضر غير العادل والسيئ.

  وكان هذا واضحًا لأنه خلف التحليل العقلاني والمعادي للدين لدعاة “التقدم” و”العدالة الاجتماعية” كان هذا التصور ثاويا مع نهايته “النهائية” يتم التعبير عنه الآن بطريقة علمانية، بمسار عام ومستمر. التاريخ نحو نهاية أو غرض مخطط له، بناءً على أجندة سياسية أو أيديولوجية. وهكذا، إذا قارن المرء الإسكاتولوجياالمسيحية مع المفاهيم السببية والعلمية للمفكرين التقدميين، فإنه يجد توافقًا لمفاهيم “تحسين العالم” في سياق مستقبلي (وإنها لحقيقة أنه حتى النبرة الإلحادية المعلنة للفكر التقدمي) العديد من الأيديولوجيات تعزز العديد من عناصر التدين وفقًا لدوركين).

  كانت هذه النظرة الخطية للتاريخ تسير في مسار يتعارض تمامًا مع طبيعة الواقع؛ حيث كانت تحاول تحقيق الرضا من خلال زرع الأمل على الخوف من الموت، وتقديم الأمل للمستقبل في “عالم آخر”، سواء كان ميتافيزيقيًا أو كونيًا. إنه شعور الإنسان الذي ينحني إلى عالمه ونفسه ويفسر كل شيء بمنطق رمزي وسببي حاد. بهذه الطريقة، أصبح تفسير التاريخ مجرد سجل للأحداث وتشابه نسبي للأشخاص والمواقف المسجلة، دون أي منطق داخلي ، لأنه بالنسبة لمؤيدي روح زمن شبنجلر، سار التاريخ نحو تقدم مستمر، والذي تغلبعلى نقاط ضعف الماضي ولم تكن بحاجة إلى أن تمثلها، لذلك لم يكن لدى العالم أي شيء يصعب تفسيره لهذا التصور، بل الماضي والمستقبل.

   وصل أوزوالد شبنجلر، انطلاقًا من تصور معاكس تمامًا، إلى تفسير مختلف للتاريخ ولم يتعرف فيه على أي نتيجة خطية وسببية. بالنسبة للفيلسوف، لم يكن التاريخ شيئًا ميكانيكيًا، ولا شيئًا يمكن تحديده وحصره في أطر زمنية ومكانية بسيطة ، مثل المخطط المعتاد للعصور القديمة – العصور القروسطية – العصر الحديث. ولهذا السبب، علاوة على ذلك، يرى أنه “خلق الحس السحري للعالم، الذي ظهر لأول مرة في الديانة الفارسية واليهودية بعد كورش، في تعليم سفر دانيال عن العصور الأربعة [أو الممالك الأربع]” ، لقد تلقى صيغة نهاية العالم، وفي ديانات ما بعد المسيحية في الشرق، وخاصة في الأنظمة الغنوصية، تم تشكيله كدين عالمي” ، فبات نزع السحر عن العالم كما أعلن ذلك فيبر أمرا مستبعدا تماما ، فالسحر الذي تمارسه الغنوصية كديانة سرية لا تمارسه أي ديانة أخرى و لم تبرع فيه ديانة على مر التاريخ .

   على الرغم من أنه يدرك أن هذا الفكر يغطي ضرورة الوعي الذاتي لأوروبا الغربية مع ظهوره في التاريخ لتدشين شيء مثل السطر الأخير – مهما كان هذا التصور لمسار الحضارة والوعي الذاتي الذي يستلزمه ،هذا الموقف الأخروي الاسكاتولوجي المعدل، مهما كان معناه كمفهوم عندما ظهر لأول مرة ومهما كانت النتائج التي ترتبت عليه، لم يكن أكثر من ضرورة وقتية، ومحاولة تدريجية لتفسير العقيدة بشكل مستقل عن الإملاءات الدينية والكنسية. لم يكن هذا المفهوم، الذي ترجع جذوره إلى التفسير التاريخي ليواكيم فلوريوس، أكثر من مجرد لمحة مروعة عن أسرار “النظام الإلهي للعالم” ولم يكن من الممكن إلا أن يفقد كل معناه عندما تصوره الناس لاحقًا فكريًا وكنظام حالة الفكر العلمي.

   إن “عالمية” و”علمية” هذا النظام التاريخي لم تكن أكثر من مجرد مسار بمراحل مبدئية ونهائية، لم يقتصر فقط على إقصاء الحضارات الأخرى من وجهة نظره، بل في الوقت نفسه حد من المعنى الحقيقي للكلمات وأساء تفسيره، مثل “الإنسان” و”الثقافة” و”التاريخ” و ” العقل ” ، فلا غرابة أن نجد فوكو ينعت الإنسان بالأسطورة التي تبددت ، و لا عجب أن نجد نيتشه يقلب القيم و يفضح الجانب المظلم للأخلاق و الثقافة التي اضمحلت ، و لا نصدم حين نشاهد فيلسوفا يحلل و يفكك و يهدم و يحطم كل ما بنته الحضارة الغربية في عصر تباهت به و رفعت فيه شعار الحداثة و العقلانية و الفردانية ، فلا حداثة مع فلاسفة اليوم ، بل أضحى الحديث ساريا حول ما بعدهامع جان فرونسوا ليوطار و من تبعه ، و لا عقلانية مع محللي اليوم ، خصوصا مع فرويد و أنصاره كلاكانالذين أعلوا من شأن اللاشعور و تعاملوا مع الشعور بنوع من الإقصاء و الاستبعاد، و مع مدرسة فرانكفورت التي أعلنت كسوف العقل مع ماكس هوركايمر ، و لا فردانية مع سوسيولوجيي اليوم و مع أنصار البنيوية ، فالإنسان لا يسعه أبدا أن يتمتع بالفردانية وهو مقحوم داخل بنية و محكوم بها و محتوم أن يعمل بقوانينها و علاقاتها و تفاعلاتها و هذا ما قرره ستراوس و ألتوسير و فوكو و غيرهم ، فالحاضر لا شيء فيه صلب ، لا شيء فيه متماسك ، كل شيء يسيل ، كل شيء يذوب ، إنه عصر السيولة كما حدد زيغمونت باومان ، كما و لا شيء يمكن اعتباره واقعا حيا و حقيقيا ، كل شيء وهم على وهم ، سراب على سراب ، فائض على فائض ، هذا هو الواقع السوريالي كما حدده جان بودريارد ، و لأن كل شيء يسيل ، فإنه كل شيء يتحرك ، و كل متحرك حادث ، و الحادث زائل ، فهذه الحضارة التي نهلت من الفلسفة مبادئها و مفاهيمها التي ارتكزت عليها ، فلا بد أن تتحرك الحضارة من بداية متسمة بالازدهار إلى نهاية يسودها الانكسار و الاندثار .

  وبالتالي فإن الكلمات والعبارات في ذلك الوقت ذات المنظور الواسع المفترض مثل “الإنسانية” و”الحضارة الإنسانية” لم يكن لها أي قيمة للبحث التاريخي لأنها لم تحدد سوى شيء خطي وميكانيكي متحرك على النقيض من الصيرورة الحية التي تشمل الحياة وبالتالي التاريخ، بحد ذاتهما.

  كانت نية شبنجلر تتعارض مع هذه الرؤية المحدودة للأحداث، وبالتالي للصيرورة، من أجل تنمية فلسفة أخرى لتفسير التاريخ. كان يعتقد أن الوقت قد حان لهذا التفسير الجديد ويجب أن يتكيف مع ظروف عصره. حيث كان يعتقد أن كل إنسان يعيش ويفسر الأحداث في سياق عمل العصر الذي يولد فيه ويعيش وينشأ فيه. وبهذه الطريقة رفض منذ البداية نية خلق نظام فكري مغلق ومطلق ، فكان الإطار التفسيري الذي فكر فيه نتاجًا ضروريًا لعصره ولا يمكن أن يوجد أي معادل آخر له.

   وهكذا يقترح استقبالًا آخر للتاريخ أطلق عليه اسم Physiognomic، وهو شكل من أشكال التشكل التاريخي المقارن. وبهذه الطريقة يمكنه تقديم التاريخ في شكل أكثر حيوية وقوة ، الآن سيتم تقييم كل شيء عضويًا على أساس التمايز الثقافي والعقلي لكل حضارة على حدة وفي نفس الوقت سيتم مقارنة مراحلها لفحص إرادة القدر وراء كل حضارة متفوقة وشعب تاريخي ، أي أن هذه القوة الخلاقة الأولية التي هي جوهر هذه الحضارات، والتي، كونها تشبه الكائن البشري، لها مسار مماثل من الولادة والنمو والانحطاط ثم الموت في مسار حتمي ، بهذه الطريقة فقط تكتسب مسألة التأويل التاريخي، التي لا يمكن أن تكون ناقصة وأخلاقية إلا إذا بقيت في الأشكال الأخلاقية الحالية “يجب أن يكون الأمر كذلك”، صلاحية عالمية منهجيا ، وبعد توضيح مسألة المنظور التاريخي للفيلسوف، حان الوقت للانتقال إلى الفصل الثاني حول انحطاط الغرب.

2). الأعراض الواضحة لتراجع الحضارة الغربية:

    يبدأ سبنجلر في سرد ​​سلسلة من الأعراض التي يراها شبه علامات على تراجع الحضارة الغربية ككل. لكن قبل أن نشير إليها يجب أن نفهم أن الحضارة الغربية تنتمي إلى الحضارات الـ 8 التي يعتبرها الفيلسوف عظيمة، والـ 7 الباقية هي: 1) الحضارة البابلية، 2) الحضارة المصرية، 3) الحضارة الصينية، 4) الحضارة الهندية، 5؛ ) حضارة المايا الأزتيك، 6) الحضارة الكلاسيكية، 7) الحضارة العربية .

  إن التحليل المنفصل لكل من هذه الثقافات من شأنه أن يقودنا إلى التعميم ، و هذا لا يصح ، فما يجب أن نحافظ عليه هو ربط الفترات بين هذه الحضارات العظيمة بهدف من وجهة نظر الفيلسوف رسم مستقبل الحضارة الغربية نفسها.

    إن مرحلة الحضارة الغربية التي يمر بها الغرب الآن تعادل القرون الأخيرة من العالم القديم. إنه وقت دمج سكان الريف في المدن الكبرى و سحب البساط من تحت النظرية البطليمية التي تقول بمركزية الأرض، أي بمركزيةالبيئة الطبيعية، و منحه للبيئة التقنية الحادة التي ترمز إليها المدينة أو البولس ، بمعنى الانتقال من مرحلة الثقافة إلى مرحلة الحضارة، أي من المرحلة الفكرية إلى المرحلة التقنية للحضارة.

  ولكن في هذه المرحلة لا بد من توضيح ما يعنيه الفيلسوف وما يعتقده حول التقنية. الإنسان كائن مفترس، فهو في حالة حركة وتوتر دائمين يمنعه من التعلق بالأرض كما تفعل النباتات والحيوانات العاشبة التي تتغذى عليها. في الواقع، فهو كحيوان مفترس مبدع لا يعتمد فقط على الشم والرائحة كغيره من الحيوانات المفترسة، بل على العكس لديه ما يميزه وهو يده كوسيلة لتعزيز عمله، لا فقط كوسيلة فرض وجوده في الفضاء ولكن أيضًا كوسيلة لصنع الأدوات التي هي الامتداد العملي ليده ، و نجد هايدجر يقول متفقا مع أرسطو أنيد الإنسان هي أكثر آلاته organon نفعا، وإنها آلة الآلات، أي ما يقوم مقام أيّ آلة، وما يصنع الآلات ويستعملها ، بل و يضيف هايدجر على ذلك أن اليد عضو متجسد في الكائن البشري، عضو يمكّنه من تناولالأشياء وهكذا ينتقل الأمر إلى المستوى العملي الذي تخرج منه التقنية ببطء.

    من خلال هذا التطور الأولي، بدأ الناس يفهمون الحاجة إلى المشاركة في مجموعات أكبر من تلك المكونة من مجموعة واحدة أو عدد قليل، واستخدام الكلمات وأشكال الاتصال لغرض الفهم الوظيفي. وأصبح من الضروري الآن للحصول على أفضل تطبيق ممكن تقسيم التقنية إلى: أ) تقنية التوجيه و ب) تقنية التنفيذ ،إنه العبور من ثقافة “اليد المسلحة” إلى ثقافة “القول والمغامرة، حين تصبح الكلمات أقوى من اللكمات كما يقول أرسطو في الريتوريقا .

  .

   وفي التطور والانتقال من “الخريف” إلى “الشتاء” للحضارة، أي من المرحلة الأخيرة من الثقافة الروحية (الثقافة) إلى الحضارة التقنية (الحضارة)، والتي تميزت بالانتقال إلى القرن التاسع عشر، ظهرت بيئة أخرى. تتشكل في العالم. تبدأ التقنية و”تشكل” الآلة التي، مع الثورات الصناعية، تهيمن ببطء على الإنتاج البشري. هذا الصعود السريع للآلة ليس بالطبع غير دموي، بل إنه يؤدي إلى تغيرات اجتماعية رهيبة يمكن أن تبرر استياء الأرستقراطيين الذين ما زالوا موجودين ويعيشون على أساس ممتلكاتهم من الأراضي، وكذلك استياء الحركات الشعبية مثل تلك الحركات ، اللوديين، الذين حولوهم مسلحين ضد الآلات الجديدة للإنتاج الضخم، وذهبوا إلى حد قتل أصحاب وحدات الإنتاج الصناعي الجديدة هذه. إن هذه القوة الشيطانية الفاوستية، وصية غوته الجمالية لشبنجلر، الذي يريد الوصول إلى قمة المعرفة والاكتشافات، هي التي تحرك الحضارة الغربية، تمامًا كما عقد فاوست اتفاقًا مع مفستوفيلس-الشيطان في المسرحية التي تحمل نفس العنوان.

   و قد اعتبرت حنة آرنت على غرار شبنجلر أن الآلة أصبحت شرطا من شروط وجودنا البشري ، كما كانت الأدوات قديما ، و لعلَّ الفرق الحاسم بين الأدوات والآلات يجد أحسن تجسيد له في النّقاش الَّذي لا تبدو له نهاية حول ما إذا كان على الإنسان أن يتكيَّف مع الآلة أم أنَّ الآلة هي الَّتي عليها أن تتكيَّف مع “طبيعة” الإنسان. فإذا كانت وضعيَّة الإنسان تقوم على كونه كائنا مشروطا، كائنا يغدو كلّ شيء بالنّسبة إليه – سواء أكان معطى أو مصنوعا – شرطا لوجوده اللاَّحق. فإن الإنسان “قد تكيَّف” مع وسط من الآلات منذ لحظة اختراعه لها، ومن المؤكَّد أنَّ هذه الأخيرة قد أصبحت تشكّل شرطا من شروط وجودنا، شرطا لا محيد عنه، مثلما كانت الأدوات في العصور السَّابقة ، لكن ما يجب التركيز عليه هنا هو أن الإنسان كان يستعمل سلطة يده ليتحكم في الأداة ، فالأداة تتكيف معه ، أما الآلة فلا تنفع معها سلطة اليد ، و أمسى الإنسان عبدا طائعا لها ، إذ يجب أن يتكيف معها ، لا أن تتكيف معه .

     من خلال صعود الآلة والحضارة التكنولوجية، تبدأ فترة يتم فيها استنزاف المدن للريف، الذي كان الناقل الأصلي للحياة الاجتماعية، من السكان والمواد. بدأتهذه المدن الكبيرة، بالشكل الذي اتخذته الحضارة الغربية، في التحول إلى مدن عالمية يتجمع فيها الآن السكان الذين يشكلون “الطبقة الرابعة” من هذه الكتلة الواسعة العالمية وغير العضوية. إنها ظاهرة التحضر في المجتمعات الغربية، والتي بسبب الاستعمار ومستويات المعيشة المرتفعة التي تتجاوز سكان الريف السابقين في بلدانهم، تستوعب أعدادا كبيرة من الناس من بلدان أخرى الذين يتعايشون فيها الآن بعيدا عن الحياة المنتجة في الريف في “إنتاج الخدمات” غير المباشر للكوزموبوليتانيين، الذين يحتاجون، بسبب عدد سكانهم الضخم، إلى سلع أكثر مما ينتجونها. تعتبر نيويورك ولندن نموذجًا لمثل هذه المدن التي لم يكن لدى شبنجلرالوقت الكافي لرؤيتها تتطور إلى متاهات من الأرواح والأجساد، محاصرة في مربعات صغيرة، كما هي اليوم. ما هو عدد أوجه التشابه التي قد يراها مع روما القديمة والمدن القديمة الأخرى، حيث كان حتى الملوك المخلوعون يحشرون أنفسهم في الطوابق العليا من المنازل متعددة الطوابق لدفع الإيجار؟ مضحك حقا

   ومن الحقائق أيضًا أن رجل العمل يتماهى مع النموذج البشري الذي يتوافق بشكل طبيعي مع غرائزه وليس مع نظريات وأحلام الأفعال والأساليب. إنه الرجل الذي لا يلجأ إلى “إذلال” الانقطاع عن الأرض، مسترشدًا بمفهوم متفائل لـ “التقدم” و”التطور” المستمر للعالم، ولكنه طور علاقة مأساوية به؛ مفترس يصبح “متمردًا” وهو على وشك قبول مصيره وهو السقوط المروع والعودة إلى هذه الأرض في الصراع الذي يخوضه معها. وجود هذا الوعي يحتضن في داخله تصورًا مأساويًا للحياة لا يمتلكه الكاهن الذي ينتظر “المجيء الثاني” ولا تصوره المثقف الذي يعيش في عالم النظريات والمعلومات المتغيرة.

  في المفهوم الأول وفقًا لـ Spenglerian John F.Fennely، يمكننا تضمين أشخاص مثل كبار رجال الأعمال إما الصناعيين – أو عمومًا أصحاب الشركات الإنتاجية – أو العسكريين، وعمومًا الأشخاص الذين يعملون في الإنتاج غير الافتراضي للخدمات والذين تربطهم علاقة احتكاك مثمر مع المجتمع. قضية القرارات المباشرة، أو أيضًا الأشخاص المرتبطين بالسياسة عمليًا وليس نظريًا (الحالة الكلاسيكية لهنري كيسنجر، الذي وصفه الكثيرون بأنه يمتلك هذا الشعور بالتشاؤم المأساوي والنسبية الساخرة، لغة سبنغلر). ومن هذا الوضع ينشأ انتصار تدريجي للسياسة الاستبدادية التي سيعبر عنها القياصرة المعاصرون على الأموال غير المنضبطة. وبعبارة أخرى، انتصار قوة القوة السياسية العملية على القوة النقدية. الذي يرتكز على أساس نظري وفكري يتجاوز الطبيعة والواقع بالنسبة له ويعتمد على أشكال فكرية بشرية، مثل المصرفيين ومن بعدهم سماسرة الأوراق المالية.

  سيخرج هؤلاء القياصرة من الجمهورية، كما حدث في روما القديمة مع يوليوس قيصر. كان هدف شبنجلر أن تكون ألمانيا مركزًا لهم، ليس بمعنى الأمة القيصرية، وهو الأمر المستحيل والمقت بالنسبة له، ولكن بشكل حكم أفراد من أصل ألماني. ومع ذلك، فقد تم نقل مركز الثقل من قبل أتباع شبجلر الجدد إلى الولايات المتحدة، التي هيمنت على الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، عسكريًا واقتصاديًا من خلال برامج الدعم النقدي التي قدمها ترومان ومارشال. بالإضافة إلى تنبؤات شبنجلرالصحيحة في نهاية المطاف بشأن استيعاب الدول غير الغربية للتكنولوجيا الغربية وفشل الرؤية لمجتمع عالميقائم على “حقوق الإنسان” والعلاقات الدولية، لأنه، كما يوضح لنا باناجيوتيس كونديليس، فإن عدم المساواة بين الدول لم يتم إزالتها، وإنشاء – تعزيز مثل هذه الحقوق يتطلب بالضرورة قبولها المستحيل عمليا من قبل جميع الدول – على أساس المفهوم الأخلاقي للإنسان من عصر التنوير ولاحقا الولايات المتحدة الأمريكية. إنهم حصن من نوع باكس رومانا، أو باكس أمريكانا، الذي يعاني من العذاب، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

    ولم يطالب البعض بالتعزيز التدريجي للشكل القيصري للرؤساء، على الرغم من كل الضمانات الكامنة في نظام الحكم الأمريكي. وبطبيعة الحال، فإن انتخاب دونالد ترامب مع رغبته الواضحة في الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة الأمريكية ، من التحركات العدوانية المتمثلة في التدخل الخارجي المباشر وإعادة البناء الداخلي (يجب أن تتعافى “أمريكا المعطلة” البائسة)، بالإضافة إلى سياسة الصين العدوانية، وسياسة روسيا الأضعف الآن، والحرب الدينية للجزء المتشدد والمتطرف من الإسلام في العالم، الذي يتميز بالهجمات على حضارة تحتضر وفقًا لفيليب موراي، خلقوا مشهدًا يذكرنا بقوة بإمبراطورية تمر بأزمة ، علاوة على ذلك، لقد تم إنشاء الولايات المتحدة من قبل أشخاص مغامرين يبحثون عن ثرواتهم في مكان آخر في أرض أجنبية .

   وبطبيعة الحال، مع تطور الأمور في هذه الظروف، ربما تكون أوروبا، وخاصة ألمانيا، التي أراد شبنجلر أن تقودها في “النظام العالمي الجديد” – الذي كان يعتقد أنه قادم، أكثر مواجهة لمسألة بقائها السياسي والجيوسياسي من خلال النظام العالمي الجديد. خطة تهدف إلى تحسين التكامل الأوروبي بشكل متزايد، بدلاً من حرب داخلية جديدة، كما كان الحال من قبل، بغض النظر عن الصراعات الداخلية الناجمة عن عدم المساواة الاقتصادية. اتحاد حقيقي يفترض التعاون واحترام التنوع في كل دولة وطنية، وهو الأمر الذي يبدو مثالياً و طوباوي وغير عملي اليوم. كما اتضح، إلى حد كبير، الاتحاد الأوروبي نفسه يبدو ضعيفا، خاصة في ظل جائحة كورونا التي جاءت بشكل غير متوقع لتعكير صفو الجمود المالي التضخمي وتوازن القوى على مستوى الكوكب، وهو تطور يبطل السعي إلى “السلام العالمي” – وهو أمر مستحيل وفقا لسبنجلر .