23 ديسمبر، 2024 3:54 م

تَعَلَّمُوا المُعَارَضَةَ مِنَ الإِمَامِ عَلِيٍّ (ع)

تَعَلَّمُوا المُعَارَضَةَ مِنَ الإِمَامِ عَلِيٍّ (ع)

(الحَلْقَةُ الأُوْلَى)
بَعدَ وَفَاةِ رَسُوْلِ اللهِ مُحمَّدٍ(ص)، دَخَلَتْ الأُمَّةُ الاسْلاميَّةُ، فِي حَالَةٍ مِنْ تَشَتُّتِ الآراءِ، حَوّْلَ القيَادَةِ المركزيَّةِ، الّتي سَتَتَوَلّى قِيَادَةَ الأُمَّة. و بِلا شَكٍّ، أَنَّ هذهِ القِيَادَةُ، سَتُمسِكُ بزِمَامِ الجَانبَيّْنِ، العَقائِديّ و السِياسِيّ، في الدَّولَةِ الاسْلاميَّة. و عَلى هَذا الأَسَاسِ بَرَزَتْ ثَلاثَةُ اتْجَاهَاتٍ، في مَوّْضُوعِ قِيادَةِ الأُمَّةِ، بَعدَ غِيابِ الرَّسُولِ(ص)؛ هي:

الاتِّجَاهُ الأَوَّلُ: يَرَى بِأَنَّ القِيَادَةَ بَعدَ رَسُولِ اللهِ(ص)، تَكونُ فِي الإِمامِ عليٍّ(ع) حَصْراً، لِورُودِ عِدَّةِ نُصوصٍ قُرآنيَّةٍ، و أَحاديثَ نَبويَّةٍ، أَكَّدَتْ عَلَى هَذا المَوْضُوع. و هَذا الاتِّجَاهُ، يَعتَقِدُ أَنَّ الإِمَامَةَ، تَجْمَعُ بَيّْن الجَانِبيّْنِ العَقائِديّ و السِياسِيّ. (يُمكِنُ لِمَنْ يُريدُ التَّثبُتَ مِنَ هذهِ الحقيقَةِ، مُراجعَةُ المَصَادِرِ المُختَصَّةِ، فِي هذا المَوّضُوعِ، و الّتي اسْتفاضَتْ بتَقديْمِ الأَدِلَّةِ و البَراهينَ، فِي أَحقيَّةِ الإِمَامِ عَليٍّ (ع)، بتَبَوّءِ مَقاليدِ قيادَةِ الأُمَّةِ الاسلاميَّةِ، بعدَ رَحيْلِ الرَّسولِ(ص). و لا أُريْدُ أَنْ أَدخُلَ في تَفاصيلِ هذا المَوّضوعِ، لكَيْ أُحَقِقَ مَقصَدَ هذا المَقَالِ. لذا أَتْرُكُ للقارئِ الكَريْمِ التَثبُّتَ، مِن ذلكَ بِنَفسِهِ و ليُراجِع: الدليل العقلي على امامة علي(ع)/ علي الحسيني الميلاني، أزمة الخلافة و الامامة/أسعد وحيد قاسم، رزية الخميس/ مركز الدراسات العقائدية.).

الاتِّجَاهُ الثَّانِي: رَأْى بأَنَّ القِيَادَةَ بَعدَ رَحيلِ رَسُولِ اللهِ(ص)، قَرَارٌ مَتروكٌ للأُمَّةِ، و كانَ شِعَارُ هذا الاتّجاهِ(حَسْبُنَا كتابُ اللهِ). و هذا الاتِّجَاهُ، يَعتَقِدُ أَنَّ الخِلافَةَ و الإِمَامَةَ، تَعنِيَانِ إِدارَةَ أُمورِ الدَّوْلَةِ، و تَصريْفِ شُؤونِها الدُّنْيَويَّةِ، و إِنَّ مُصْطَلَحا الخِلافَةِ و الإِمَامَةِ، لَهُما نَفْسُ المَقْصَدِ المَذْكُوْر.

الاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: رَأْى بأَنْ تَكونَ القِيَادَةُ، فِي قُرَيّْشٍ، و هذا رأْيُ أَبو سُفيَانَ و حِزْبِهِ، مِن مُسْلِمَةِ الفَتْحِ، (و هُمْ الأَشْخَاصُ الّذينَ أَسْلَمُوا بَعدَ فَتْحِ مَكَّةَ)، و كانُوا مِن مُتَعَصِّبي الجَاهِلِيَّة.

و بَعدَ أَخذٍ و رَدٍّ بيّْنَ المُسلميْنَ، استَطاعَ الاتّجاهُ الثَّاني، أَنْ يَحسِمَ الموقِفَ لِصَالِحِهِ، و بذلكَ أَصبحَ الإِمامُ عليٌّ(ع)، خَارِجَ دَائِرَةِ سُلْطَةِ الدَّوْلَة. وَ رُبَّ سَائلٍ يَسْئَلّ:

هَلّْ الإِمَامُ عَلِيٌ(ع)، تَركَ الحَبْلَ عَلى الغَارِبِ، باعتبَارِهِ قَدّْ خَسِرَ المَعرَكةَ السِياسِيَّةَ كُلّياً، و لَمْ يُعْطِ أَيَّ اهتِمامٍ بشُؤونِ الدَّوْلَةِ و الأُمَّة؟.

و هلّْ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، تَصَرَّفَ كمَا يَتَصرَّفُ الآخَرونَ، عِندَما يَخسرونَ فِي مِثْلِ هذهِ المواقِفِ، فَيُحرِقُوْنَ الأَخضَرَ و اليَابِسَ، بِسَبَبِ تَزاحُمِ المَنَافِعِ، و تَصَادُمِ المَصالِحِ بَيّْنَهُمْ، و بَيّْنَ خُصَمائِهِمْ؟.

الجَوَابُ:

إِنَّ الإِمامَ(ع)، لَمْ يكُنْ صَاحِبَ دُنيَا، يَسعَى لِتَسَنُّمِ مَناصِبٍ في السُّلطَة. إنَّهُ إِنْسانٌ رِسَاليٌّ، يُريدُ تَطبيقَ المبادِئِ و القِيَمِ، الّتي أَقَرَّها الاسْلامُ، و الّتي آمَنَ بِهَا، و نَذَرَ نَفسَهُ لَهَا، بإِيمَانٍ رَاسِخٍ لا يَتزَعزَع. فَثَبَتَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، أَمامَ كُلِّ التَّحدِياتِ، بمَنْهَجٍ واضِحٍ، و خَطٍّ ثابِتٍ، فتَحَطَّمَتْ كُلُّ المُغرَياتِ تَحتَ قَدمَيّْه. قَالَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع):

(فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلامَ وأَهْلَهُ، أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ، مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ، الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأحْدَاثِ، حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ و زَهَقَ، و اطْمَأَنَّ الدِّينُ وتَنَهْنَهَ … .)(انتهى)(نهج البلاغة).

و على عَكسِ مَا قامَ و يَقومُ بهِ، مُحِبوا الدُّنيا، فَقَدّْ جَسَّدَ الإِمامُ عَلِيٌ(ع)، خِلالَ الفَترَةِ الّتي قَضَاهَا مُبْعَداً، عَنْ تَقَلُّدِ المَسؤوليَّةِ الحُكومِيَّةِ، و هِيَ فَترَةٌ امْتَدَّتْ زُهَاءَ، خَمسٍ و عِشرينَ سَنَة. علماً أَنَّ أَدْعِياءَ القَوّْمِ و فَسَدَتِها، مِنَ اللُعَنَاءِ و الطُّرَدَاءِ و الطُلَقَاءِ، أَمثَالُ معَاويةَ و عَمْرو بن العَاصِ، و مَروانَ بن الحَكَمِ، و الوَليدِ بن عُقبَةَ و غَيرِهِمْ، تَقَلَّدوا أَرفَعَ المَسؤولِيّاتِ و أَعْلَى المَناصِب.

ظَلَّ الإِمامُ عَلِيٌ(ع)، فِي هذهِ الفَترَةِ، يُمارِسُ دَوْرَهُ الإِصلاحِيّ، لِلحفَاظِ عَلى بَيّْضَةِ الإِسلامِ، و وِحْدَةِ المُسلِمين. قَالَ (ع): (لَقَدْ عَلِمْتُمْ، أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، و وَاللَّهِ لأسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، و لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلا عَلَيَّ خَاصَّةً…. .)(انتهى)(نهج البلاغة).

و لِكَيّْ نُسَلِطَ الضَوّْءَ، عَلى بَعضِ اسْهَاماتِ الإِمامِ عَلِيٍّ(ع)، كمُعارِضٍ رِسَاليٍّ للسُلطَة، كانَ هَمُّهُ الوَحيْدُ الاصْلاحِ، و هَدَفُهُ الفَريْدُ تَحقيْقِ العَدالَةِ الاجْتِماعيَّةِ، في كُلِّ جَوانِبِها. و فِيْمَا يَلي النُّزرُ القَليْلُ مِنْها:

1. فِي حَادِثَةِ سَقِيْفَةِ بَني سَاعِدَةَ، نَشَطَ أَبو سُفيانَ و عَمْرو بن العاصِ، و سُهيْلُ بن عَمْرو، و الحارثُ بن هِشَامٍ، و عكرمَةُ بن أَبي جَهلٍ، و آخرونَ، لزَرعِ الفِتنَةِ بيّْنَ المُهاجرينَ و الأَنصَارِ، لغَرَضِ خَلْطِ الأَوراقِ، و استِثمارِ حالَةِ التَّنافُسِ بيّْنَ القَوّْمِ. معَ تَشَتُّتِ الآراءِ و الأَهواءِ، للحُصولِ عَلى مَوقِفٍ، يَرفَعُ شَأْنَ رِجالِ الجَاهليَّةِ، الّذينَ أَسْلَموا بَعدَ فَتحِ مَكَّةَ، فِي العِشرِينَ مِن شَهرِ رَمَضانَ، فِي العَامِ الثَّامِنِ الهِجْري.

لكِنَّ الإمامَ عَلِيّاً(ع)، قَطَعَ الطَّريقَ عَليهم، فَخَاطَبَ(ع) النَّاسَ بقَوّْلِه:

(يا معشرَ قُريشٍ إِنَّ حُبَّ الأَنصارِ إِيمانٌ، و بُغضُهُم نِفاقٌ، و قَدّْ قَضوا مَا عَلَيّْهِمْ، و بَقِيَ مَا عَلَيّكُمْ …. قَدِمْنا عَلَيهِمِ دَارَهُمْ، فَقَاسَمُوْنا الأَمْوالَ، و كَفُونَا العَمَلَ فَصِرنا مِنْهُمْ، بيّْن بَذلِ الغَنِيّ، و إِيثَارِ الفَقيْرِ، ثُمَّ حارَبَنَا النَّاسُ، فَوَقُوْنا بأَنفُسِهِم…….. .)(انتهى)(شرح نهج البلاغة لإبنِ أَبي الحديد).

بهذا المَوقِفِ الرِسَالِيّ المَسْؤوْلِ، حَقَّقَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، جُمْلَةً مِنَ الأَهدَافِ، سَأتَناوَلُ بَعضَها، في الحَلْقَةِ الثَّانِيَةِ، مِنْ هَذا المَقالِ، إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى. كما سَأُبَيّْنُ

بَعضَاً، مِنْ مَواقِفِهِ الايْجابِيَّةِ و البَنَّاءَةِ، الّتي مَارَسَها عَمَلِيّاً، لِحِفْظِ كِيَانِ الاسْلامِ الحَنِيْفِ. و التّي بهَا كَشَفَ الإِمامُ(ع)، عَن الرُّوْحِ العَقَائِديَّةِ الّتي، بهَا اسْتَقامَتْ أُمُورِ المُسْلِميْن. لَقَدّْ طَبَّقَ الإِمامُ عَلِيٌّ(ع)، السُّلُوكِيَّةَ الرِّسَالِيَّةَ، الّتي مَارَسَها مَعَ مُؤَيدِيْهِ و مُخَالِفِيْهِ، عَلى حَدٍّ سَوَاءٍ، مِنْ أَجْلِ المُحَافَظَةِ، عَلى وجُوْدِ الأُمَّةِ الاسْلامِيَّةِ، بالرَّغْمِ مِن إِقْصَائِهِ(ع)، خَارِجَ نِطاقِ مَسْؤوْلِيَّةِ الحُكْم، مُتَبَنِيَاً شِعَارَ: (لأسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ).